وقود الأحزان
الخميس, 26 يونيو 2014 13:28

بقلم الأستاذ/ الولي ولد طه

أأحبابنا هل عائد بكم الدهر؟      طواكم، وعندي من محاسنكم نشر

سلام على تلك المحاسن إنها       مضت فمضى في إثرها الزمن النضر

لي الله بعد اليوم، من لي بقربكم    وأبعد غاد من أتى دونه القبر
رحلتم وقلبي شطره في ظعونكم     ولَلوجد باق منه في أضلعي شطر
وشيعتكم والدمع يوم نواكم     غريقان فيه بعدكم: أنا والصبر
هذه أبيات من محاسن الرثاء لشاعر العراق "حيدر الحلي" وهي لعمري موحية بحالة الاحتشاد والتوزع النفسي الذي نعيشه اليوم إثر رحيل الأستاذ الفاضل النابغة والزميل العزيز محمد عبد الله ولد المصطف.
لقد تعلقتُ في حق الشيخ محمد عبد الله بأمنية ابنتي لبيد بن ربيعة، ولكن الفقيد كلبيد لم يكن "إلا من ربيعة أو مضر".
تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما    وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر
ولعل مما كان يغريني بتلك الأمنية-بالإضافة إلى عُلْقة الصحبة-حداثة السن عنده وتلك الحداثة كثيرا ما أعمتنا بني الإنسان عن طروق الحوادث بالأسحار، على حد قول المكفوف:
يا راقد الليل مسرورا بأوله     إن الحوادث قد يطرقن أسحارا
فما بدت لديه علامات حصاد العمر التي نعَتْ معاوية بن أبي سفيان إلى نفسه حين سمع قول الأعرابي:
إذا الرجال ولدت أولادُها     وارتعشت من كبر أعضادها
وجعلت أسقامها تعتادها     فهي زروع قد دنا حصادها
لقد طوى صوت النعي الفضاء طيا حتى دك قلبي الخالي، فإذا بي أفزع إلى التعلق بأهداب الخيال المتقطعة عل الأمر يكون خبرا متسرعا، فلما بدا أن لا مناص من التسليم، وجدتني أختم المشهد مع أبي الطيب كما بدأته معه.
طوى الجزيرة حتى جاءني خبر     فزعت فيه بآمالي إلى الكذب
حتى إذا لم يدع لي صدقه أملا     شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي
وهو ختام عايشت فيه الحالة النفسية للإمام المحدث أبي بكر بن عياش حين فزع في مصيبة له إلى قول ذي الرمة:
لعل انحدار الدمع يُعقب راحة      من الوجد، أو يشفي نجيَ البلابل
لكن انحدار الدموع هنا كان موقدا لنار الحزن بدل أن يكون راحة من الوجد، فآثر دمعي بذلك على مذهب ذي الرمة مذهبَ عبد الجبار بن حمديس في قوله:
عندي عليك من البكاء لحسرة      ماء لنار الحزن ذو إيقاد
ونياح ذي كمد يذوب به إذا     رفع الرثاء عقيرة الإنشاد
إني موقن والحمد لله أنا معاشر المصنوعات الإلهية لا دخل لنا في تاريخ التصنيع، ولا في تاريخ انتهاء الصلاحية، فذلك استئثار إلهي، وأذكر قول عماد الدين الأصبهاني:
وما هذه الأيام إلا صحائف       نُؤرخ فيها ثم نمحى ونمحق
ولم أر شيئا مثل دائرة المنى      توسعها الآمال والعمر ضيق
وأعرف أن مطايا الأيام والليالي حاملة إلى المنتهى كلَّ الكائنات كما صور ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي حين قال:
سرينا وأدلجنا وكان ركابنا      يسرن بنا في غير بر ولا بحر
وما هي إلا ليلة ثم يومها      وحول إلى حول وشهر إلى شهر
مطايا يقربن الجديد إلى البِلى    ويدنين أشلاء الكريم إلى القبر
وينكحن أزواج الغيور عدوه      ويقسمن ما يحوي الشحيح من الوفر
ولكن لفراق الأحبة والأُلَّاف وقعا تتأخر معه القدرة على التوازن والاستذكار حتى قال أبو الطيب:
لولا مفارقة الأحباب ما وجدت       لها المنايا إلى أرواحنا سبلا
لقد تعرفت على الشيخ المرحوم أولا كسائر الناس عبر أثير الإذاعة الوطنية مشاركا في المسابقة الرمضانية "روضة الصيام" فكان يعجبني بسعة حفظه وقدرته على استيعاب المنظومات المحظرية بشكل منقطع النظير، وكان سابق الحلبة في المسابقة، وبعد أن تم فتح الفرع الكتابي لتلك المسابقة شاركت فيها فكانت فرصة اللقاء معه في حفلات توزيع الجوائز، فتبادلت معه أطراف الحديث هنيهة، ويشاء القدر أن ألج وإياه المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية في دفعة واحدة سنة 1997 لنقضي أربع سنين معا على مقاعد الدرس، كانت كفيلة بربط وشائج الصداقة والمحبة التي تغيب معها مؤن التحفظ، فوجدته حقا نموذجا للصديق الذي تاق إليه الجد المرحوم محمد الأمين ولد سيدي محمود حين قال:
تسائلني جمل عن امري جهالة       فقلت لها قد غرك الجهل يا جمل
سليني عن الأمر الذي أنا أهله      ولا تذكري أمرا سواي له أهل
فهميَ أن ألقى صديقا مساعدا       لحوك قريض الشعر مجلسه يحلو
يفاكهني بالشعر شدوا ومنشأ        وذكر أحاديث الفتوة من قبل
فيغفر مني أن أزل وإنني         لأغفر منه حيث زل به النعل
وقد يبدو شيء من المغايرة بين طبيعة اهتمامي واهتمامه إذ ذاك، حيث شهدت تلك السنوات محاولة جادة للقضاء على المعهد العالي ودوره، وتمييعه وتهجين طلابه، غير أن هذه المحاولة بما تحمله من السوء في ظاهرها كانت بركة وخيرا حيث فجرت حراكا نضاليا كان له الفضل بعد الله تعالى في صد تلك المحاولة، وفي فتح آفاق الحريات الطلابية في كل المؤسسات الجامعية في البلد بما تشهده اليوم من اتحادات معترف بها، وقد كان لدفعتنا دور ريادي في هذا المضمار، حيث كانت دفعة ذهبية من معدن أصيل صاغتها المروءة وإباء الضيم، يصدق في كل واحد منها قول الهدم بن امرئ القيس في عمرو بن حممة الدوسي:
حليما إذا ما الحلم كان حزامة      وَقوفا إذا كان الوقوف على الجمر
إذا قلت لم تترك مقالا لقائل       وإن صلت كنت الليث يحمي حمى الأجر
وكنت فردا متواضعا بين أولئك الأطواد العظام في عملية النضال، وكان اهتمام الشيخ الأبرز بكتبه شراء مطالعة و بحثا، فهو من عشاق المطالعة النادرين، وقد مكث فترة يسكن ببيت جنب مسجد المعهد لا تترك فيه الكتب مضجعا ولا مقعدا، وكنت كثيرا ما أختلف إليه واستفيد مما عنده، وكثيرا ما كان يتبادل معي الزيارات، لقد عشق العلم والمطالعة ولم يكن له تعلق بأمور العمل النقابي والنضال الطلابي كما هو الحال بالنسبة لي، إلا أني كنت أقدره وفي أغلب الأحيان أجالسه على مقعد واحد واعتبره كنزا يجب اغتنام اقترابه، وبقيت علاقة الصحبة وطيدة بيننا بعد التخرج الذي كان سنة 2001.
كان الشيخ بسيطا بريئا لا يحتمل تعقد الحياة، حينما تداخله تكتشف تلك البساطة التي تحس معها بدفء الأمان وغياب التحفظ، وقد وهب الله للشيخ ملكة حفظ عجيبة، وأتذكر أني امتحنته مرة-من باب الممازحة- في حفظ نظم المباحث الفقهية للعلامة محنض باب ولد امين، وهو نظم ينيف على ثلاثة آلاف بيت، فلم يتتعتع ولم يحرف في كل ما امتحنته به، وقد حفظه من المطالعة دون أن يكون موضوع درس خاص كما هي العادة لدى طلبة المحاظر، وله براعة عجيبة في مجال السير والأنساب، حفظا لدقائقها أنسابا وأحداثا وتواريخا.
كان الشيخ وعدني بأيام يقضيها معي في البادية خلال الخريف المقبل، قبل أن أجدني مع يعقوب بن الربيع حين قال:
رَجَعَ اليقينُ مطامعي يأسا كما      رجع اليقين مطامع المتلمس
ولعمري إن لمقابلة جنازته ارتياعا في القلوب من أشد ذلك الارتياع الذي قرره عروة بن أذينة شيخ مالك بن أنس حين قال:
نراع إذا الجنائز قابلتنا       ويحزننا بكاء الباكيات
كروعة ثلة لمغار سبْع       فلما غاب عادت راتعات
فقد كان آية وأعجوبة يصدق فيها قول أبي العتاهية:
وكانت في حياتك لي عظات      وأنت اليوم أوعظ منك حيا
وإنه من الخِلّان الذين يقل فيهم قول الراضي بن المقتدر بالله في رثاء أبيه:
فلو أن عمري كان طوع مشيئتي      وأسعفني المقدور، قاسمتك العمرا
ولو أن حيا كان قبرا لميت      لصيرت أحشائي لأعظمه قبرا
ووالله ما كتبت هذه الأسطر إلا وفاء بالنزر اليسير من حق الخلة ونفثة لمصدور آلمه الوجع، فليس الفقيد ممن يزداد شرفا بالتأبين، بل إنه من طراز أخي محمد بن أبي عطية الذي يقول فيه:
والله ما أبّنته لأزيده       شرفا، ولكنْ نفثة المصدور
والله وحده المسؤول أن يمطر بشآبيب رحمته ذلك الجدث الذي حله، ويتقبله في الصالحين:
سقى ذلك القبر الذي أنت ضيفه       من العفو والرضوان ممس ومبكر
وهو المسؤول أن يواسي بملهمات الصبر واليقين ذلك الحرم العزيز وينزل بركاته على ذلك الخلف الطيب، خلف من يصدق في حالي وحاله قول أبي تمام في رثاء غالب بن السعدي:
مضى صاحبي واستخلف البثَّ والأسى       علي، فلي من ذا وهذاك صاحب
عجبت لصبري بعده وهو ميت       وكنت امرأ أبكي دما وهو غائب
على أنها الأيام قد صرن كلها     عجائب حتى ليس فيها عجائب

 وقود الأحزان

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox