الحمالون:أرزاق تحت سانبك الحمير وأحلام لا تطمح بغير القوت اليومي
السبت, 04 سبتمبر 2010 11:53

احتجاجات الحماليناحتجاجات الحمالينتؤويهم أحياء الضواحي ليلا وينزلون الشوارع نهارا، أرزاقهم منوطة بعرباتهم،وأحلامهم مجرد تحصيل قوت يومي يقي أسرهم غائلة الجوع ويدفع عنها أوصاب العوز والحاجة، قانعون بما جادت به الأيام، ومستغنون بكدهم عن أوهام الثراء وفضول العيش..شعارهم : إن الغنى عن الشيء لابه...

أعمال غير مصنفة شتى تختزلها هذه الحرفة: بين حمالي اللبن والمحار أو بائعي الفحم أو أصحاب عربات المياه أو من يولي وجهه شطر الأسواق والمخازن لنقل السلع والبضائع أو لحمل طلبات الزبناء ورواد السوق ..لكن لكل حظه من المعاناة وقسمه الأوفر من

بؤس الأيام ونكد العيش لاسيما في ظل ارتفاع صاروخي للأسعار وتدن مريع في مرد ودية العمل وتدهور في القوة الشرائية..الأسواق خاصة أسواق المواد الاستهلاكية ومحلات بيع الاسمنت ومواد البناء نقاط تجمعهم بوسط المدينة إليها يغدون ومنها يروحون ..في المقابل منهم من اختار العمل بين مضارب أحياء الضواحي التي يعيش فيها فلم يقيد نفسه بحمولة معينة، ولم يطلب أجرا أكثر مما يجود به الزبناء، كما لم يتطلع إلى فرص عمل أخرى أزيد مما يسمح به نشاط ساكنة هذه الإحياء التي يغلفها الفقر ويسرح بين مرابعها البؤس والحرمان..

 

فما السر يا ترى وراء هذا الاختيار؟وهل هو نتيجة ارتفاع الطلب على الخدمة أم إشباعا لشعور نفسي صادق بالتوحد مع معاناة هذه الأحياء...أم لنزعة بدوية متأصلة تفصل هدوء هذه الأحياء وبساطة ساكنيها على تعقيدات المدينة وصخبها...مسوغات من بين أخرى راودتنا ونحن نلتقي أحد الحمالين في حي الدار البيضاء أكثر أحياء الضواحي فقرا ومعاناة..

 

مشوار يومي محمد العيد ولد أمبارك ستيني يعمل حمالا على إحدى عربات الحمير منذ أزيد من 5سنوات، تنقل بين مهن شاقة من عتال في الميناء إلى عامل باليومية في تحميل "المحار" قبل أن يتفرغ لهذا النشاط من خلال العمل في مقاليع "المحار" بالرياض وتحديدا في المنطقة التي يشغلها مرآب سيارات النقل إلى مدنية روصوالموريتانية ، وقد خاض معارك ساخنة –كما يقول- من أجل الابقاء على مصدر رزقه قبل أن تكتسحه المباني ويمتد إليه العمران..فلم يجد أمامه وقد رق عوده وضعفت قوته غير هذا العمل الذي يرى أنه الأنسب لسنه والأكثر ملاءمة لظروفه... يتنقل ولد أمبارك على عربته عبر ممرات أحياء الترحيل الوعرة وأزقتها المتعرجة ترفعه مطبات الطرق تارة وتخفضه أخرى وهو جاثم يخالف بين رجليه وقد أطلق العنان لمطيته التي كأنما ألفت المكان من كثرة التردد عليه...لكن ألفته هو وانسجامه مع المكان قد تغدو أكبر بكل تأكيد فأغلب السكان من معارفه ومتعهدي خدماته، كما أنه يرتاح أكثر كلما سرح بناظريه فلايرى إلا سباخا ممتدة ومنبسطات متحفرة من أثر استخراج "المحار" الذي كان مصدر دخله الأول في الأيام الخوالي .لكن ارتياحه ينقلب اشمئزازا وتأففا عندما ينظر في الاتجاه المقابل فيجد أكواخا وبيوتات متراصة بلون الغبار وكآبة الغروب..

أوضاع معيشية بائسة

الأوضاع المعيشية مزرية في هذه الأحياء يقول ولد أمبارك وذلك بسبب الغلاء الذي فاقمت من تأثيراته حالة العزلة التي تعيشها المنطقة..كما أن الخدمات الأساسية شحيحة:فالتوصيلات الكهربائية يتحكم فيها سماسرة مضاربون، وجلب المياه على ظهور الحمير من مسافات بعيدة يجعل توفرها محدودا وأسعارها متذبذبة خاصة في مثل هذه المواسم من العام..أما باقي الخدمات فهي حسب المتاح وليس الطلب يضيف ولد أمبارك وكأنما اكتشف تطابقا بين واقع أسرته بالرياض وأوضاع السكان في هذه الأحياء..فأحوال أهل الدنيا متقاربة كما يقال..فماذا إذن عن ظروفه هو؟وعن تجربته في العمل؟ كانت لدى ولد أمبارك ومنذ سنوات عدة خرجات إلى هذه المناطق لم يشأ أن يفصح عن أسبابها ربما بحكم عمله في جمع "المحار"، لذا فالعمل فيها رغم مشاق البعد ومنغصات الطريق يعتبر بالنسبة له نوعا من الترويح أو الاعتبار بالزمن..وكيفت تحولت هذه السباخ القاحلة كما يقول إلى أماكن وأحياء لإيواء بني البشر، وكيف دبت فيها الحركة بعدما كانت جرداء مقفرة تسرح فيها الذئاب وهوام الشاطئ..أما اليوم فخروجه إليها وبدافع العمل وتحت وطأة الحاجة إلى دخل لإعالة أسرة من 10أفراد بينهم 8بنات وطفلان أحدهم معوق، لم يعد إيراد العربة وحده يكفي لذا اضطر إلى تدعيمه بخدمة بيع الفحم الخشبي "الوقود المنزلي " الأكثر طلبا في هذه الأحياء، وتعتمد الفكرة كما يقول على شراء كميات بالجملة وبيعها بالتقسيط للحصول على فارق ربح بسيط بعد تحمل تكلفة النقل.وهو ما يضمن له إيرادا يوميا يتراوح ما بين 1000 إلى 1700أوقية تصرف كلها ما بين مؤن الحمار ونفقات العيال...وإن لم يسعف الإيراد اليومي فاللجوء إلى الاستدانة أمر لا مناص منه..إن من أكثر ما يؤرق ولد أمبارك هذه الأيام غلاء المواد الأساسية وارتفاع تكلفة الخدمات وكيف أن إيراده اليومي ومهما زاد فلن يسد سوى جزء يسير من احتياجاته الاستهلاكية..ثم يصمت برهة للتفكير ويضيف: تصور قبل يوم واحد طلب مني فني الإطارات 200أوقية مقابل إصلاح بسيط في إحدى العجلات وزيادة تعبئتها بالهواء، وهو ما كنت في السابق لا أدفع عنه أكثر من 20أوقية وغالبا ما يعفيني صاحب الورشة!..أما أسعار المواد الاستهلاكية فحدث ولاحرج ...

هموم ومنغصات

هم العيال وتدبير احتياجات البيت أمور حاضرة دوما في ذهنه المشوش وينتابه شعور عابر بالكآبة كلما تصور نفسه أن يكون يوما جزء من هذه الهموم فلايريد أن يصرف عليه أحد، ولا أن يدفع إلى التسول واستجداء الصدقات من أجل أن يطعم أسرته كما هو حال أحد الجيران..خواطر وهواجس تلح عليه أكثر بعدما سرح كبرى البنات من المدرسة حتى تتفرغ لرعاية إخوتها الذين غيب الموت والدتهم قبل شهورقليلة..وكان أمله أن تكمل البنت تعليمها حتى تساعده في تحمل جزء من مصاريف البيت أو تكون أي شيئ غير صورة مكررة من عماتها وخالاتها الأميات العاملات في حرف يدوية غير مصنفة لكن ما باليد حيلة كما يقال ،لذا ليس هناك من خيار سوى الصبر على مشاق العمل ومنغصاته حتى يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده..صحيح أن العمل بوسط المدينة رغم بعد الشقة والزحام قد يكون أكثر مردودية وأوسع فائدة كما يتباهى عليه دوما بعض الحمالين من الجيران..لكن من قال أيضا إن العمل في الاحياء القريبة يخلو من فرص حيث وسائل النقل شحيحة وعزلة المكان تفرض اللجوء إلى النقل على مرحلتين الأولى إلى أقرب شارع رئيسي لأخذ سيارة الأجرة أو الباص قبل أن يواصل الزبون طريقه إلى وسط المدينة..إضافة طبعا إلى الحاجة المتزايدة إلى خدمات نقل الأمتعة وطلبيات الوافدين الجدد من مرحلي الاحياء الشعبية بالميناء إلى هذه المناطق..لكن ماذا عن فاتورة تصليح الأعطاب التي تلحق بالعربة بسبب وعثاء الطريق وكثرة الحفر والمطبات!! فضلا عن لازمة ضعف الأجرة وشكوى المستخدمين من تكلفة خدمات التوصيل ومفاصلاتهم الدائمة في الأسعار ..حوار داخلي يطرق كل مرة دون استئذان فيقطع على ولد أمبارك سرحاته الهائمة وهو يغذ السير كل صباح من مسكنه بالكلمتر 7بالرياض إلى أحياء الترحيل حاملا أحيانا تجارته من خنش الفحم والحطب وفي أحيان كثيرة لا يكون بحوزته غير عصاه الغليظة وهمومه وهواجسه التي تقصم الظهر وتقصف العمر..

الحمالون:أرزاق تحت سانبك الحمير وأحلام لا تطمح بغير القوت اليومي

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox