سيرة راحل أنصفته الدنيا ولم ينصفه وطنه
الأحد, 08 يناير 2012 01:11

المرحوم الإمام الشافعي المرحوم الإمام الشافعي اللهم لك الحمد على ما قدرت ولك الحمد على ما قسمت ولك الحمد على كل حال .

بالأمس وفي غفلة من الزمن اختطفت يد المنون بقدر من الله وتقديره الحكيم القامة السامقة ذو المكانة الشامخة عالي الهمة رفيع المكان والمكانة المغفور له بإذن الله الإمام الشافعي بن محمد المختار بن عبدالله بن احمادو ، وقد وري جثمانه الطاهر ثرى مقبرة نواكشوط .

          وقبرت وجهك وانصرفت مودعا           بأبي وأمي وجهك المقبور

                 فالناس كلهم لفقدك واجد            في كل بيت رنة وزفير

 

عجبا لأربع أذرع في خمسة                في   جوفها    جبل     أشم      كبير


ولا نقول إلا ما يرضي الرب وإنا لفراقك يا الإمام  محزونون ،ولكن لا وقت للبكاء فرسالتك   لا بد أن تتواصل ومبادئك الراسخة لا بد أن تتبلور ونحن نعاهد الله قبل كل شيء ونعاهد ابناء الوطن على أن نظل على العهد سائرون وفي طريق الحق ماضون  حتى يتحقق ما ناضلت من أجله فقيد الأمة والمناضل من أجل الحرية .


ونقول مع أبو تمام :


وأنت وإن أفردت في دار وحشةٍ     فإني بدار الأنس في وحشة الفرد
أود إذا ما الموت  أوفد معشراً       إلى عسكر الأموات أني مع الوفد
عليك سلام الله مني تحية            ومن كل غيث صادق البرق والرعد


وكذا نقول قولته المشهورة : ما علمت قبل موتك أن النجوم في التراب تغور


وحتى نعطي كل ذي حق حقه ومصداقا لقوله صلى الله عليه وسلم ( أنتم شهداء الله في الأرض ) فإنه يطيب لي أن أسطر بين يدي القارئ لمحة مقتضبة مما أعلمه شخصيا عن حياة هذا الفقيد ومآثره الجمة ، وقد كنت جمعت بعضا من سيرته منذ زمن قبل مرضه الأخير وفي لقائي الأخير به عند زيارتي للوطن عرضت عليه الفكرة فتمنع علي وظننت حينها أن السبب في ذلك أنه ربما أكون غير حيادي في ما أكتبه حياله - وهو الذي ربانا على الاستقلالية .وألا تكون آراءنا ومعتقداتنا ومبادئنا تبعا لأي كان ، وأتذكر أنه كان بيني وبينه حوار حول بعض الآراء الاجتماعية وكانت نقيض ما يراه ما كان منه إلا أن ربت على كتفي وقال : لو قلت غير ما تعتقد مجاملة لي لخيبت أملي – لذلك أجلت المشروع ولم أنصرف عنه .


ولد الإمام الشافعي في أرض مالي من أب من الرماظين من أرومة قبيلة جاكان ترك أرضه الرقيبة من لعصابة مهاجرا إلى الله وهروبا بدينه من فساد الاستعمار الفرنسي وعازما على أداء فريضة الحج والتي كان أضرابه من الشناقطة في ذلك الأوان يؤدونها على الجمال وسيرا على الأقدام يحلون ويرتحلون خلال هذه الأصقاع الإفريقية ، يبنون مجدا تليدا ويبثون علما أثيرا وينشرون إسلام المحبة والتسامح المبني على قيم البساطة والأمانة ومد يد العون للجميع على امتداد الفضاء الواقع بين شنقيط وحتى ربوع الحجاز .


ولد الراحل في أوسط الثلاثينات من القرن الميلادي المنصرم بين تلال الصحراء الكبرى وواحتها الوريقة من أم تنتمي لقبائل الطوارق  الأباة الذين لا يرضون الذلة ولا المهانة  فرضع من لبانها العزة والإباء .


ولعلي أقف قليلا عند سيرة هذه المرأة العظيمة التي تصدق فيها المقولة المشهورة : وراء كل رجل عظيم امرأة ، فحين توفي محمد المختار ، كانت تحتضن الشافعي وشقيقاته الثلاث ، وكانوا وقتها في مضارب أهلها من الطوارق ، فرحلت بهم حتى أنزلتهم بين أحياء البيضان في أزواد قائلة لن أربي أولادي إلا على طباع أهلهم وذويهم  ولن تكون بناتي إلا في بيوت أهل العلم والمكانة من قومهم لا لأنها ترى مكانة قومها أقل من غيرهم بل كانت تقول لكل مجتمع خصوصياته وعاداته وتقاليده ، ولا أدل على ذلك من أنها دفنت في أوائل السبعينيات في مكة المكرمة ، حيث هاجرت مع بعض أحفادها وهي لم تتلفظ أثناء حديثها مع أي كان بغير تماشقت لغتها الأم ، مع إصرارها على أن يتحدث أبناؤها وأحفادها بلغة الحسانية ومعرفتها التامة بها .


وترعرع هذا الشبل في رعاية تلك الأم العظيمة تقري الضيف مع قلة ذات اليد وتغيث الملهوف وتعين المظلوم و تعطي ولا تأخذ ، ولا تطعمهم إلا من كسب يدها كانت خيمة أهل احمادو عالية النجاد سامقة الأجناب ،فلما شب رفع سمكها فسواها ، وتحمل المسئولية فأدها درس القرآن كعادة أضرابه ، وتعلم الكتابة والقراءة ولم تتح له الظروف أن يتفرغ للعلم كما أحب ذووه فجمع إخوانه غير الأشقاء عليه وبدأ حياة الكدح والتجارة حتى تبقى خيمة أبيه عالية بين المضارب الأخرى ، وحتى لا تحتاج أخواته لأحد أو يبدو عليهن الاحتياج .


وبدأت عجلت الزمن تدور بتسارع والشافعي يعمل من محل تجاري إلى محل مع بعض الجزائريين من أهل توات والذين كانوا يسيرون التجارة في تلك المنطقة وغيرهم من التجار المعروفين وما هي إلا برهة وجيزة حتى كسب ثقتهم فأصبح موضع أسرارهم ، وكسب منهم سر المهنة حتى تجاوزهم وبز الكثيرين منهم ، وفي هذه الآونة كان أوار الثورة في الجزائر قد اشتعل وقوي ساعد الثوار ، وتوسعوا في عملياتهم كما وكيفا وزادت حاجتهم للمال والسلاح ، فوجدوا في ذلك الفتى الأسمر ضالتهم حيث كان يتردد على جنوب الجزائر في شاحنته التي كان يقودها رجل من أهل مقطع لحجار اسمه (عالي) - وقد زرته معه في مطعم له هناك قبل سنين – فما تردد ولا هاب الفرنسيين الذين كانوا أسياد الأرض حينها ، بل استعان بالله وشمر عن ساعده وأصبح يزود الثوار بكل ما استطاع من سلاح ومال غير آبه بالمخاطر التي تكتنف هذه العملية غير أن أصحاب المبادئ لإ يهابون في سبيل تحقيقها ولا يخشون لومة لائم .


وكان منزل الأسرة في مدينة (غاوا ) ساحة ينزل فيها القاصي والداني وهذه الميزة لم يشاركه فيها غير دار ابن عمه الزاوي حيث كانت داره محط رحال الوافدين من شتى أصقاع موريتانيا .


كان الشافعي يحب العلم والعلماء ويجالسهم وفي نفسه حسرة من عدم إدراك ما فاته بسبب العائلة والإخوان ومالم ينله من ثني الركب عند العلماء ، لذا نجده سرعان ما شمر عن ساعد الجد والتحق بالمركز المصري الذي فتح في تلك الآونة في غاوا ، فكان طول يومه يعمل فإذا كان المساء حمل كراريسه كأي تلميذ للدراسة والاستزادة من الثقافة الإسلامية والعربية ، وإبان ثورة الطوارق في كيدال بعيد الاستقلال وفي عهد موديبوكيتا لعب دورا محوريا لحصول الطوارق وعرب أزواد على حقوقهم وقدم لهم الدعم المادي والمعنوي اللازم .


وفي عام 1956 حول سكنه إلى دولة النيجر المجاورة حيث بدأت حقبة جديدة من الحياة العملية والنشاط التجاري والثقافي والاجتماعي ، وكانت النيامي كغاوا محط العابرين من البيظان للحج والديار المقدسة ، وكانت دار أهل أحمادو مركز الضيافة ومحط الرحال لهم جميعا من غير كلل ولا ملل ، بل رأيت السعادة تغمره لحلول ضيف أو قدوم وافد ، وكان رحمه الله يستمتع بمجالسة أهل الذكر فيتجاذب معهم أطراف الحديث كأحد كبار الصوفية ، ومع السياسيين كأبرعهم ،ومع التجار كأنبههم  ولا يغادر أحدا منهم إلا وقد قضيت حاجته بغض النظر هل هو من قضاها أو كان واسطة في قضائها  .


وقد إتبع المثل القائل : لأن تعلمه صيد سمكة خير من أن تطعمه كل يوم سمكة ، لذلك قام بمساعدة الكثيرين بفتح محال تجارية يعملون فيها أو يشاركهم فيها حتى يقفوا على أقدامهم ويسلكوا طريقهم نحو النجاح .


وفي عام 1973 قدمت عليه في النيجر أكثر من 40 فردا نساء ورجالا من الحوض تقطعت بهم السبل في طريقهم إلى بيت الله الحرام للحج ولم يكن عندهم مال يكفي وكانوا مضطرين للتفرق أو البقاء في أرض الغربة بلا أمل ، فما كان من الشافعي حين علم بهم وبحالهم إلا إيواؤهم وحجز طائرة خاصة حملتهم إلى مطار جدة برفقة أخيه الأكبر الإمام مالك وتولى تكاليف ذلك ، ونظم لزملائه في العمل رحلات حج ثنائية .


وقد بنى رحمه الله علاقات سياسية واسعة مع طيف من مناضلي إفريقيا الشرفاء ككوامي نكروما ، ولوممبا ، والحاج أبوبكر تفاوبليوا والقائد التاريخي جمال عبد الناصر الذي تأثر بفكره في تللك الآونة وكانت له علاقة مميزة مع الرمز التاريخي لموريتانيا الأستاذ المختار ولد داداه ،وقد صاحبه في طائرة واحدة لحضور مراسيم جنازة جمال عبد الناصر .


وفي عام 1976 غادر النيجر بعد محاولة الإطاحة بحكومتها العسكرية والتي اتهم بالإشتراك فيها ،وقد نفى تلك التهمة جملة وتفصيلا في خطاب وجهه للرئيس الموريتاني السابق المختار ولد داداه فند فيها تلك المزاعم بالأدلة والبراهين القاطعة ، وكاتب هذا المقال هو الذي حرر تلك الرسالة .


واعتبر الشافعي عودته للوطن قدر في صالحه حيث كانت موريتانيا هاجسه الأول والأخير ،حيث سعى وهو في الغربة لبناء اسم وسمعة تليق بها ،وعمل جاهدا بعد عودته أن يعاون بخبرته ومكانته الإقليمية في تجاوز كثير من الإرث الثقافي والإنساني الذي يفرق ولا يجمع يشتت ولا يوحد إرث بني على استعباد الإنسان لأخيه الإنسان إرث يقوم على التفرقة العنصرية المبنية على اللون والعرق واللسان ، فبلغت القلوب الحناجر خوفا على المصالح والمناصب وعندها بدأت مرحلة من النضال أصعب مما مر به في سالف عمره .


وهذا الحقبة سنخصص لها مقالة قادمة بإذن الله تعالى 

 

      بقلم / محمد بن الشيخ بن الطالب محمد
 

  سيرة راحل أنصفته الدنيا ولم ينصفه وطنه

إعلان

السراج TV

تابعونا على الفيس بوك


Face FanBox or LikeBox