رواية الحالمة : الفصل الأول "منى" الكاتب محمد عبد الله بن الشيباني

اثنين, 2015/05/18 - 14:03
الكاتب عبد الله الشيباني

1

وطن الأحلام

لم تشعر مُنَى بطول الليل مثل ما شعرت به في تلك الليلة، ولم تشتق إلى القمر الضاحي كما تاقت إليه نفسها في تلك اللحظات الهادئة من الليلة الطويلة التي استيقظت في وسطها لتجد الظلام ما زال يحجب عنها منظر أرض ميلادها الرائعة عند رأس الذُّرَيِّع.

ثلاث سنوات مرت الآن بعد أول مرة حدثتها فيها نفيسة عن جمال تلك البقعة وسعادتها الغامرة ، عن ظلها الوارف وطلحها وسرحها الشامخ وجمالها الفاتن ورمالها اللينة وأسماء ساكنيها الذين نال منهم الزمن والموت والشيخوخة.

ثلاث سنوات كانت خلالها كل كلمة من أحاديث ابنة الجيران " نفيسة" تحفر في ذاكرة مُنَى صورة عن جانب من ذلك المكان الحالم أو يوما من حياة ناعمة في حي أنس وتقوى وطرب وعلم . كانت جالسة في ذلك الظلام تحاول تجميع تلك الصور.

لترسم لوحة كاملة لذلك المهد اللطيف تراءت أمامها الصور زاهية متناسقة كما لم تتراءَ لها من قبل ، أبصرت الخيم السود المتقاربة غارقة في الرمال الدمثة مثل الخال في وجنة الفتاة العروب.

انتصبت أمامها خيمة عمها متشحة بوشاح أبيض لماع على بعد خطوات من خيمة أبيها الفسيحة كانت تعرف حق المعرفة موقعها بين السرحة العظيمة - مصلى الحي ومسجده- وبين الخيمة البيضاء خيمة عبد الحي - عالم الحي ومفتيه – تذكرت أنها الخيمة التي أهداها له أعمر ابن أحويَ بعد أن نذر إن قبلت ابنة عمه مانه خطبته منافسا لابن عمه الملي "أعيمر" أن يهب أعظم ما يملك لأعلم أهل المنطقة.

استدرجت تلك الحكايات القديمة مُنَى مبتعدة بفكرها عن الحي رويدا رويدا نحو "التل الأحمر" أعلى نقطة في منطقة الرأس والذي كان مسرحا لقصص عديدة في ذلك العام الذي مكثه الحي هناك.

هناك على التل الأحمر - المنتصب كقلعة تحرسها جنود الكثبان الرملية المتراصة، الغافية في أحضانها أشجار الطلح العملاق- أبصرت مُنَى والدها وهو يهدي لأمها في لقائهما الأول أعز ما يملكه وهو أجمل ما أبصرت هي:

" جوهرة بل إكليل مؤلف من قطعتين كل منهما على هيئة جناح من الذهب الخالص مطعمة بست حبات من اللؤلؤ وأربع من العقيق الأحمر يتدلى منهما هدب من الفضة البيضاء يجمعان على مقدمة الرأس بإبرة من النحاس الأحمر لتتدلى أهداب الفضة على الجبهة وتنعطف نهايات الأجنحة الرقيقة على الصدغ .

وحملت نسائم تلك الذكريات الحية فاستمعت لصوت أبيها عند التل الأحمر وهو يقول لأمها مادا يده المرتجفة في لحظة امتزج فيها الخوف بالأمل:

- خذي يا أعز من عرفت،ثم يردف قائلا بامتسامة فيها شيء من الارتباك: " لهذه الجوهرة قصة سأقصها عليك ليلة السعد الكبير"

قطعت هينمة محم راعي الغنم عيشها في الزمن الخيالي وعبثا حاولت استعادة كلمات والدها التي تخيلت قبل قليل أنها تستمع إليها حقيقة .

بدأت هينمة محم تخف بعد أن تأكد أن ما خيل إليه من أن الغنم قد دَوَتْ إنما هو مجرد سوء ظن من شفيق فتوسد ذراعه عند أسنان الحصير بعد أن بسط بحنان وهدوء فراش رمل طالما ألِفَ لينه وانقياده تحت كفه بعد خمس سنوات أقسم خِلالها أن لا يفترش غير الأرض في ليلة رأى فيها أخاه يَضِنُّ بالفراش على ضيفه.

بعد تلك الإطلالة الممتعة على معالم ذلك المكان الشاعري حَدَّقَتْ مُنَى قليلا في الظلام كأنها تستجديه أن يسمح لها بتحقق الحلم الذي أصبح الآن أبعد حين صار أقرب ..

سحبت جانب الفرو وهي حَنِقَةٌ على ظلام حجب عنها رؤية حلم طالما داعبها منذ سنتها السادسة.

لم يكد النعاس يغشى عينيها حتى اعترتها موجة غضب عارم على محمد محمود وقصصه التي أخرت رواحهم حتى اصفرّ محيا الشمس.

كانت تقاسيم وجهه المستدير واهتزازات رأسه الثائر وتأشير أسنانه الناصعة تتراءى أمامها وهو يقص على أبيها أخبار رجال المقاومة أو(لَـمْهَاجْرِيَّ) كما يحبُّ أن يسميهم ..

وأبصرته يكفت كُمَّ دراعته حين وصل إلى تفاصيل معركة "لكويشيش" بعد عودة أعلي الذي شارك فيها من مخبئه وما تردد عن عزم افرانصة على معاقبة المعارضين لاستفتاء "وَيْ ءُ نُونْ" هذه السنة وفتوى ولد البخاري أن الواجب أن يختار أبعد الخيارين من رغبة النصارى وبدأت تطبع قسمات وجهه جدية لم تؤثر على متعة سرده واهتمامه بالتفاصيل. حاولت أن تقطع بحنق متابعتها لذكرى قصصه بانقلابة هزت أطراف الفرو الممدد على طول الحصير الخلفي ماسا أرجل كل النائمين وتحت أرجل بعضهم لكن أحاديثه تلك قد وصلت بها إلى لحظة انفعال وهو يروي ما سماه أعجوبة الأعاجيب.

كان صوته منحشرا وهو يقول ضاربا فخذ محمد :

أه اسكت يَخَيْ لم نتأثر بما أصاب الناس من عري وفاقة عام (الهوفة) كنت في "فوتة" وفي إحدى لياليها الصامتة التي يتمالأ فيها الحر والبعوض على فتح أعين الساهرين رغما عنهم ، سمعنا صوت صرخة منكرة من صوت نسائي مترف وكنت من آخر من حضر من الناس فوجدت ابنة أمير فوته ممدة سيرا من الحصير كأنها ماتت منذ أمد وقد تحاماها الراقون و الأطباء .. وسكت قليلا ثم أردف بهدوء " عالجتها بالاثنين معا ..

ولوى المخدة الجلدية بعنف ثم غرز فيها مرفقه قائلا بصوت غليظ وخافت "أعطاني الأمير (ملح أيد) فيه فرس عربية بعتها لأحد الأمراء بمائة ناقة وعشر "بيصات" من صفان" وثلاثة "إحياك" أياما قليلة قبل غلاء الثياب!!