التعزية من السنة إلى البدعة/ الشيخ محمد يسلم محفوظ

أحد, 2024/03/03 - 15:14
الشيخ محمد يسلم محفوظ- فقيه وداعية

التعزية لغة واصطلاحا:

التعزية في اللغة من العزاء وهو الصبر "وقولهم تعزيت عنه أي تصبرت أصلها تعززت أي تشددت (...) والاسم منه العزاء"  .

"والتعزية التأسية لمن يصاب بمن يعزو عليه وهو أن يقال له تعز بعزاء الله وعزاء الله قوله عز و جل (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وانأ إليه راجعون) وكقوله تعالى (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسر لكيلا تأسوا على ما فاتكم).

والتعزية في الاصطلاح: الأمر بالصبر والحمل عليه بوعد الأجر والتحذير من الوزر بالجزع ، والدعاء للميت بالمغفرة ، وللمصاب بجبر المصيبة. 

حكم التعزية: 

والتعزية مندوبة لما فيها من مواساة المصاب وإعانته على صبر المصيبة والدعاء له وللميت. 

فضلها:

وورد في فضلها أحاديث ضعفها الحفاظ مثل:

حديث: " من عزَّى مصابا فله مثل أجره"   

وحديث: "ما من مؤمن يعزي أخاه بمصيبته إلا كساه الله عز وجل من حلل الكرامة يوم القيامة"  

 

وقتها:

اختلف العلماء في وقتها فذهب المالكية إلى عدم توقيت التعزية بوقت، فتجوز التعزية قبل الدفن وعنده وبعده ، قال الفاكهاني في شرح الرسالة: "ولم أر لأصحابنا تعيين وقت التعزية" ونقل شراح المختصر جوازها قبل الدفن وعنده وبعده وقال الشافعية وأبو ثور لا تسن بعد الدفن وأما الشافعية والحنابلة فمذهبهما كمذهب مالك.

وقد عزّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته في ابنها أثناء الموت’ فعن أسامة بن زيد قال:"كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلت إليه إحدى بناته تدعوه وتخبره أن صبيا لها أو ابنا لها في الموت فقال للرسول ارجع إليها فأخبرها أن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى فمرها فلتصبر ولتحتسب فعاد الرسول فقال إنها قد أقسمت لتأتينها قال فقام النبي صلى الله عليه وسلم وقام معه سعد بن عبادة ومعاذ بن جبل وانطلقت معهم فرفع إليه الصبي ونفسه تقعقع كأنها في شنة ففاضت عيناه فقال له سعد ما هذا يا رسول الله قال هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء"  .

 فالتزام التعزية بعد الرجوع من الدفن ليس له أصل غير الاستحسان من بعض الفقهاء المتأخرين، 

والاستحسان لا يثبت الأحكام، فالمقتدى به هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولم يرد عنه توقيت فلتزام التوقيت بدعة إضافية.  

الجلوس للتعزية:

لم يكن جلوس أهل الميت من أجل انتظار المعزين من هدي السلف، بل من البدع المحدثة، فما يفعله الناس اليوم من التهيئة للتعازي والاعتناء بها وتشهير الميت بما يذكر من محاسن عمله - والأغلب أن تكون فيها مبالغة وربما كانت كذبا،- أقرب لمآتم الجاهلية منه لهدي السلف، فقد مات في حياة النبي صلى الله عليه وسلم من الرجال والنساء والصبيان الكثير فلم تقم لهم خيام للتعازي ولا تجمع الناس عندهم ولا جلسوا ينتظرون من يأتيهم للعزاء، ولا ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل كل ميت مات في زمنه وهم كثيرون. وقد مات أبناؤه وبناته صلى الله عليه وسلم إلا فاطمة فما جلس للعزاء ولا أتته الوفود ولو فعل ذلك لاشتهر بين الناس. بل نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النياحة ودعوى الجاهلية، فعن مسروق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" .

وقد كان الاجتماع عند أهل الميت والاعتزاز به وذكر مآثره من عمل الجاهلية فكانوا يتباهون بأمواتهم بإظهار الحزن عليهم بالتجمع والبكاء والمباهاة بالمكانة والمزية وذكر المحاسن في مجالس التعزية.

 كما قال طرفة بن العبد: 

فإن مت فانعني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنت معبد

ولا تجعليني كامرئ ليس همه كهمي ولا يغني غنائي ومشهدي  

فأين هذا مما نراه من المباهاة بكثرة المعزين وكثرة الهدايا والوفود القادمة من المسافات البعيدة من الداخل والخارج حتى صارت تكتب أسماء المعزين في سجل التعازي وتصور الوفود والهدايا ومن لم يأت للتعزية ينعت بالأصابع ويلمز في المجالس. 

وأصبحت مكانة الميت أو مكانة ذويه تعرف بكثرة حضور المعزين.

 وهو ما يجعل التعزية اليوم أقرب للمعاني السياسة المطلوب فيها التجمهر وكثرة الناس والتقرب من المعزى بإشهاره بالوفود ، منها إلى قربة يقصد بها حمل المصاب على الصبر. 

وإذا استمعت إلى حديث المعزين في مجالس التعزية تجدها أحاديث سياسة وأخبار محلية ودولية وفرص للقاء المسؤولين وطرح الحوائج الخ.  

 ومما يعكر صفو هذه التعازي بهذا الشكل أنها: أصبحت عادة ملة أهل الكفر في العالم كله من أوربا وأمريكا إلى إفريقيا وآسيا فالتعزية عند الجميع ثلاثة أيام ، يمنح القانون لكل من مات له ميت راحة ثلاثة أيام يجلس فيها للعزاء ويجتمع عليه الناس من كل صوب. 

إن هذا الفعل لو لم يكن فيه إلا موافقة اليهود والنصارى وملة أهل الكفر والتشبه بعمل أهل الجاهلية لكفى،فعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا شبرا وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم قلنا يا رسول الله اليهود والنصارى قال فمن" .

فخيمة العزاء اليوم لا تخص المسلمين بل تعمل لكل ميت في العالم حسب مكانته الاجتماعية أو مكانة أحد أفراد أسرته. 

وقد نص الفقهاء على كراهة الجلوس للتعزية قال المحاملي: " ويكره الجلوس للتعزية؛ لأن ذلك محدث، والمحدث بدعة).

وقال النووي رحمه الله تعالى:( قال الشافعي: وأصحابنا ـ رحمهم الله تعالى ـ يكرهون الجلوس للتعزية، قالوا: يعني بالجلوس أن يجتمع أهل الميت في بيت فيقصدهم من أراد التعزية، بل ينبغي أن ينصرفوا في حوائجهم.  

قال الإمام الطرطوشي رحمه الله تعالى: ( قال علماؤنَا المالكيون: التصدي للعزاء بدعةٌ ومكروه، فأَما إن قعد في بيته أَو في المسجد محزوناً من غير أن يتصدى للعزاء؛ فلا بأس به، فإنه لما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - نعيُّ جعفر؛ جلس في المسجد محزوناً، وعزاه الناس).

وقال الإمام الطرطوشي أيضاً: (فصل المآتم: فأَما المآتم؛ فممنوعة بإجماع العلماء قال الشافعي:(وأَكره المآتم، وهو اجتماع الرجال والنساء، لما فيه من تجديد الحزن ويكلف المؤونة )  .

وقد بين الإمامان الشيخ عبد الله بن داداه والإمام بداه بن البوصيري أن ما ذكره الأئمة من الكراهة كراهة حرمة وأن الجلوس لانتظار التعازي من البدع المحرمة لأنها من النياحة المحرمة. 

فعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: "كنا نعد الاجتماع عند أهل الميت وصنع الطعام من النياحة" رواه أحمد وابن ماجه.

قال أحمد عبد الرحمن البنا المعروف بالساعاتي شارح مسند أحمد " ورواه ابن ماجه من طريقين إحداهما على شرط مسلم والأخرى على شرط االبخاري 

ثم قال: وقول الصحابي كنا نعد كذا من كذا هو بمنزلة إجماع الصحابة رضي الله عنهم وتقرير النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الثاني فحكمه الرفع وعلى التقريرين فهو حجة" .

وقد صححه الألباني في أحكام الجنائز وفي صحيح ابن ماجه.

وقال السندي ـ رحمه الله تعالى:( قوله " كنا نرى" هذا بمنزلة رواية إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم. أو تقرير النبي- صلى الله عليه وسلم -، وعلى الثاني فحكمه الرفع، وعلى التقدير فهو حجة) .

فيظهر من أثر جرير أن الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يرون المنع من ذلك، بل يعدونه مع صنعة الطعام من النياحة، التي هي من أفعال الجاهلية.

ومعلوم أن النياحة محرمة ويحمل قول من قال بكراهة الجلوس للتعزية من الأئمة على الحرمة وهو ظاهر كذا قال الإمامان الشيخ عبد الله بن داداه والإمام بداه بن البوصيري ونقلا على ذلك أقوال العلماء.  

السفر للتعزية:

وإذا كان الجلوس للتعزية من البدع المحرمة فإن السفر إلى من يجلسون لها لا يجوز لأنه سفر إلى منكر أما إذا سافر إلى أهله وذويه لعزائهم وحملهم على الصبر ونحو ذلك مما لا يشتمل على بدعة فلا باس. 

فحكم السفر يأخذ مقصده فإن كان لأمر مباح كان مباحا وإن كان لمحرم حرم .. والتعزية مندوبة في الأصل لكنها لم تعد كذلك لما حف بها من بدع والمظاهر والأغراض التي أخرجتها عن غرضها الأصلي الذي هو تسلية أهل الميت وحملهم على الصبر مع ما في السفر من مشقة وكلفة في المال والوقت وتعطيل الأعمال وتكليف أهل الميت الضيافة ولو لم يأكلوا عندهم فالضيافة لا بد أن تعد حفاظا على العرض كما أنه لا بد للمسافر أن يأتي بهدايا لأهل الميت عادة مع ما قدمنا من أن الجلوس للتعزية بدعة منكرة .

 فعن أنس بن مالك قال كنت عند عمر بن الخطاب فسمعته يقول: ( نهينا عن التكلف) وهذا له حكم الرفع وإن كان موقوفا على عمر 

مدة التعزية.

استحسن بعض الفقهاء أن لا يعزى المصاب بعد ثلاثة أيام لأنه يأنس عن مصابه في هذه المدة إلا إذا كان مسافرا.- ويعنون هنا التعزية المشروعة الخالية من البدع والمنكرات-

 وليس في مدة التعزية نص من سنة ولا عمل من سلف . قال الرافعي "ولأن الغرض من التعزية تسكين قلب المصاب والغالب سكون قلبه في هذه المدة فلا يجدد عليه الحزن قال الشيخ أبو محمد الجويني فيما علق عنه: وهذه المدة على التقريب دون التحديد" والعلة في ذلك غير منضبطة فمن الناس من يأنس في اليوم الأول ومنهم من لا يأنس عن ميته فلا حد. واستدل بعض المتأخرين بقوله صلى الله عليه وسلم : "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ، إلا على زوج : أربعة أشهر وعشرا" وهذا الحديث لا دليل فيه لأن الاحداد إنما يكون للمرأة بترك الزينة ثلاثة أيام للقريب غير الزوج وأما الزوج فأربعة أشهر وعشرا وليس للرجل أن يحد على ميت زوجة أو غيرها فقد دلّ الدليل من الكتاب والسنة وإجماع الأمة على أنه ليس لغير المرأة أن يحد على ميت بل ذلك خاص بها, فقياس التعزية على الإحداد قياس مع وجود النص الدال على أن التعزية لا حد لوقتها وذلك أنه صلى الله وسلم عزى أثناء الموت وعزى بعد الثلاثة ولأن الاحداد لا يجوز للرجل.

  فقد عزى بنته في ابنها أثناء موته وعزى آل جعفر بعد الثلاثة فعن عبد الله بن جعفر أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهل آل جعفر ثلاثا أن يأتيهم ثم أتاهم فقال « لا تبكوا على أخى بعد اليوم ». ثم قال « ادعوا لي بني أخي ». فجيء بنا كأنا أفرخ فقال « ادعوا لي الحلاق ». فأمره فحلق رءوسنا. وهذه تعزيتهم في اليوم الرابع ولم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم حد في وقت التعزية ابتداء ولا انتهاء وما يذكر في انتهاء التعزية إنما هو استحسان لا نص فيه ولا عمل من السلف المقتدى بهم.

 وقد حكى إمام الحرمين "عن أحمد أنه لا حد، لأن الغرض الدعاء، والحمل على الصبر، والنهي عن الجزع، وذلك يحصل على طول الزمان". 

الأموال المقدمة لأهل الميت

ما يفعله الناس اليوم من التباهي بالهدايا لأهل الميت لم يكن معروفا من هدي السلف ولا يدخل تحت حديث (اصنعوا لآل جعفر طعاما ) فذلك إنما هو غداء أو عشاء - من أجل شغلهم عن تهيئة الطعام- يفعله الجار والقريب,

  ولا يدخل تحته بحال تقديم الهدايا والأموال من إبل أو غنم أو غيرها لأهل الميت لإعانتهم على الضيافة المحرمة ، مع ما تدخله على الناس من حرج ويلزمهم من تكاليف لا تطيب بها نفوسهم وإنما حملهم عليها الحفاظ على أعراضهم والمباهاة لأقرانهم وعشائرهم ،

وإذا افترضنا أن البعض تطيب به نفسه ولا يكلفه، فإن عامة الناس يدخل عليهم الحرج بسبب الكلفة المفروضة بالحياء، والحفاظ على العرض فمن لم يفعل ما يفعله الناس استبيح عرضه.

 وقد نص العلماء على أن من أخذ مال غيره بالحياء كان له حكم الغصب. 

 قال الغزالي رحمه الله تعالى: "من طلب من غيره مالا في الملأ أي الجماعة من الناس فدفعه إليه لباعث الحياء لم يملكه، ولا يحل له التصرف فيه، وهو من باب أكل أموال الناس بالباطل"  

وقد رأينا من ذلك ما لا يقره الشرع ويمجه الطبع. 

وقد طرح سؤال عن من يملك هذه الأموال المقدمة في التعازى ؟

والذي يظهر أنها لبيت المال إذ لا مالك له فليست للورثة لأن الميت لم يملكها في حياته وليست لوكلاء التعزية لأنها لم تقدم لمعين يتملكها وإنما قدمت لمأتم التعازي 

فالواجب عدم قبولها وردها لأصحابها إذا عُلموا وإلا صرفت في مصارف بيت المال.