الطينطان أو كيف تتجدّد كارثة (8/8) في ذكراها التاسعة؟

خميس, 2016/08/04 - 14:47
صورة من مدينة الطينطان

كانت الحياة تسيرُ عاديّةً، في نشاطٍ مُلفت وحيويّ، إلى أن حلّت الكارثة. هكذا تبدأ الكوارث عادةً، تماماً مثلما حدث في العام 2007 حين غمرت السيول مدينة الطينطان التابعة لولاية الحوض الغربي شرق موريتانيا. كارثة اجتهد المتضررون في تفسيرها على ضروبٍ عدّة متباينة، سعياً لتخفيف وطأة النكبة، بإيجاد أسبابٍ مُطمئنة، لحدثها الخارق، في فجائعيّته الأليمة بكوريّة ذلك اليوم من عشرية أغسطس الأولى المقرونة في التصوّر المنكوب بغضب السيول النّاقم. ذلك أنَّ أغسطس طالما بدى في وعي الناس شهرَ أمطارٍ غزيرة، يُثبت بها الخريف المنتشي بفعل انتصاره على الصيف.

كارثة السيول تلك التي حلّت آنذاك كانت بمثابة عاصفةٍ قويّة ضربت كل ماكان قائماً في المدينة من بنى تحتيّة ومؤسسات إدرايّة وأسواق تجاريّة، فأصبح بذلك كل الـذي"كان قائماً" غير قابلٍ للاستخدام إطلاقاً، بسبب الأضرار الجسيمة التي لحقت به، والتي أحالته كلّه إلى مادة تالفة ضرّها أكثر من نفعها.

انعكاسات الكارثة بدتْ جسيمةً، بالمقارنة، مع تاريخ المدينة الثمانينيّة التأسيس بشكلٍ فعليّ. فمع أنّ تاريخ التأسيس الحقيقيّ، لهويّة المدينة العصريّة (أي الطينطان) كان في تلك الفترة بالتحديد على أقلّ تقدير من حيث: تجمّع السّكان (البالغ عددهم 21,736 نسمة حسب إحصائيات 2013 م) و إنشاء مؤسسات الدولة الإداريّة الأساسيّة، حركيّة النشاط العموميّ، إلاّ أنّ لها جذوراً - حسب مايُقال في الشارع العمومي - في تلقي هذا النوع من الكوارث، بسبب موقعها الحسّاس الذي هو مُهدّدٌ دائماً بأن تغزوه السيول، من جهة جبال "العاكر" الشماليّة التي لاسدَّ يحول بينها وبين مدينة الطينطان، مع فارق البعد العشرات-كيلومتراتي. هذه الجذور التاريخيّة للكارثة، تحتفظ ذاكرة سكان المدينة ببعضٍ منها، كان حاصلاً في القرن الماضي. ففي بداية الثمانينات، وتحديداً الـ 1984، كانت الطينطان المدينة الجديدة آنذاك على ميعادٍ مع سيلٍ قويّ كان قادماً من جبال-كدية العاكر الواقعة شمال مدينة الطينطان؛ تماماً، كمافي هذه المرّة، حيث قدمت السيول من نفس المصدر-المكان.    

جغرافيّة الطينطان التي بُنيَ عليها أوّل وجوده تمثّلت في أرضيّةٍ سطحيّةٍ منسابة هي أقرب للوهاد من أيِّ شيءٍ آخر. وبفعل الممارسة اليوميّة في المدينة وازياد السّكان وسرعة الحركة حافظت تلك الجغرافيّة المدينيّة الحيّة على شكلها القائم، حيث أنها بقيت أرضُ وهادٍ خالصة لاقدرة ذاتيّة عندها على ابتلاع عدّة ميلمترات من الماء؛ ذلك أنّها كانت مُهدّدة بالغرق في أيِّ وقتٍ في حال تسقاطت أمطار غزيرة أو ماهو على ذلك النّحو. لذلك كان طبيعياً شيئاً ما أن تغرق تلك الأرض المدينيّة كُلياً إذا قدمت عليها سيول جارفة من منطقةٍ غزيرة بالمياه ولاسدَّ يحول ويمنع ويحمي. هذا ماحصل هذه المرة في العام الـ 2007 حين غمرت المياة مدينة الطينطان، في بعدها الأكثر نشاطاً وحركيّة مدينيّة.   

وقائع من السيرة الذاتية للكارثة

لكل كارثة سيرة ذاتيّة خاصّة بها، نظراً لأنها تحفر ذاتها عميقاً في الواقع، كحدثٍ مُفاجئ، مثلما حصل في الطينطان عام 2007، حين توافدت سيول قويّة على المدينة وأغرقت عصبها الحيّ بكامله، والذي كان هو أساس الحيوية في وجودها الغارق.

نستخدمُ هنا تعبير "كارثة" لأسبابٍ عدّة، أوّلها: باعتباره التعبير الأقصى مصداقيّة عن ماحدث حينذاك. ثانياً: إننا نستخدمه هنا كإشارة لعنصر الطبيعة فيما حصل، ومدى تأثير ذلك الضّار على البيئة والمجتمع. وهذا في حدِّ ذاته شرط موضوعي في تعريف الكارثة العلميّ. ثالثاً: كتهويل له ضروراته العاطفيّة الهامّة حين يكون هناك انعكاس إيجابيّ على واقع المدينة اليوم من حيث إعطائه اهتماماً إعمارياً جاداً وجديداً، يقضي على المشاكل المطروحة سعياً إلى تحسين حياة الساكنة. والتهويل، في هذه الحالة، هو حيلة مُقاومة في التعبير بعيدة التأثير وقويّته. إن الكارثة هي بلاغة للتدّهور.

قبل الدّخول في الحديث عن سيرة الكارثة، فلابدَّ كتمهيدٍ أساسيّ من الحديث عن السياق العام، الذي وُلدت/حدثت فيه الكارثة وبادلت التأثير بشكلٍ شديد المباشرة والتلقائيّة. ومعنى الحديث عن سياق الكارثة يتلخص في الحديث عن واقع الطينطان قبيل قدوم الفيضانات أو السيول.

لقد كانت مدينة الطينطان، التي قلنا سابقاً أنها تأسسّت فعلياً في الثمانيات، مدينة حيويّة جداً قبل سيول 8/8/2007 التي اتخذت مكانة كبيرة لها في ذاكرة المدينة المبلولة. وتتمثل مظاهر تلك الحيويّة في النشاط السكاني والاقتصاديّ والتنمويّ المُلفت الذي كانت تعيشه المدينة بشهادةٍ من الجميع. فمع الازدياد السكاني كانت المقاطعة تشهد تقدّماً في عملية التحديث المدنيّ على مستوى البنى القاعديّة التي هي شرط هامّ في تأسيس أيّ هويّةٍ مدنيّة جذريّة قادرة على تذويب التمايزات القبليّة الحادة عند السّكان. ففي مدينة الطينطان، في بعدها الحيّ، كانت التمايزات القبليّة والإثنيّة في تخطيط تموقع السّكان منعدمةً كُلياً. ويرجع ذلك لوجود مراكز ومؤسسّات عموميّة في الوسط المدينيّ الحيّ استطاعت جذب هؤلاء السكان إليها، على تنوع وتعدد خلفيّاتهم الإثنيّة والقبليّة والوظيفيّة. الأمر الذي انعكس بالتفاتٍ من قبلهم حول تلك المؤسسات، بمعزلٍ عن تلك التمايزات المرجعيّة التي كانت تحكم حياتهم بشكلٍ كليّ في ما مضى.

ينضاف إلى ذلك حركيّة ونشاط الاقتصاد هناك. فمدينة الطينطان وصلتْ لدرجةٍ من النّشاط الاقتصادي مذهلة جداً، انعكست بتأثيراتٍ جيّدة على حال المدينة و الساكنة. فالسوق المركزيّ للمدينة كان مثلاً يغذي القرى والمدن الصغيرة المُحاذيّة (عين فربة؛ اطويل؛ لحْريجات؛ مَدبوكُو..إلخ) بمئات السيارات المحمّلة بكل الحاجيات من مواد غذائية، أدوات بناء...إلخ. والتركيز هنا على المواد الغذائيّة أساساً التي كان يتم تصديرها إلى دولة مالي أحياناً كثيرة من الطينطان، خاصة هنا تلك المواد الأكثر الحاحيّة في الطلب. ويدلُّ على ذلك الشاحنات التي كانت تربط وترابط من أجل ذلك فقط، وهي الشاحنات نفسها التي كانت يوميّة القدوم إلى مدينة الطينطان والذّهاب عنها في تلك الفترة المذهلة والمزدهرة جداً.

عايشنا ذلك النشاط المُذهل في عزّ وجوده، ونحتفظ عنه بذكريات تسوقيّة مُنبهرة: كان السوق الاقتصادي بالمدينة صاخباً جداً، من أوّل الصّباح حتى بداية الليل. وكان كذلك محطة عبور من/إلى أساسيّة لابدَّ منها حتى يصحّ المسار. كما كان يعجَّ بآلاف من البشر مابين ساكنة المدينة، كجُلٍّ أساس، والقادمين من المناطق القريبة المحاذيّة لها، في مشهدٍ عجيب: مسيرات متفرقة من البشر، الشاحنات الثقيلة الممتدة في ميلانٍ كسول، السيارات الخنفسيّة السريعة، العربات الرّاقصة، الموتورات والدّراجات. كل شيْء يُباع، وكلّ شيءٍ يُشترى: فقط انشط على أيٍّ من الجبهتيْن أحببتَ، وامضِ تقسّط حظّك. هذا مايُطلبُ منكَ ويُنتظر منكَ لاشيء آخر بتاتاً. كان ذلك الحال مُفاجئاً للسّكان قبل الغرباء.

وفي مُحصّلته كان ذلك الازدهار الاقتصاديّ في جزءٍ منه عبارة عن سوقٍ أهلية/قبليّة وجدت منفساً تنظيمياً لها مع الانتهاجات الليبراليّة في التسعينات التي اتخذّها النظام الطائعيّ آنذاك سياسةً اقتصاديّة للدولة. فالقبيلة مع ذلك كله كانت في الخفاء تُنشّط تكتلاتٍ اقتصاديّة للأفراد الذين ينطوون تحت لوائها على أنْ تكون الدولة بعد ذلك راعيّةً عن بعدٍ لتلك التكتلات عبر منطق الحماية القانونيّة الذي يُكيّف لأغراضٍ ليّنة، نظراً لارتباطها بمزاج التوافق المصلحيّ الذي يتمّ عبر تبادل خدماتٍ مُعيّنة في ظروف محددة.

مع ذلك الازدهار ظلّت المدينة في حالةٍ جيّدة، على مستوى التحديث. وقد كان من المُتوقع، قبل حلول الكارثة، أن يتمَّ تحويلها من مُقاطعةٍ تابعة إلى ولايةٍ مُستقلة. هذا نظراً لما شهدتْهُ من تطوّر مدينيّ على مستوياتٍ عديدة جعل منها قبلة حيّة للأجانب عليها طلباً لغاياتٍ عدة: سكناً واستثماراً...إلخ. وهو تطوّرٌ راجع لذلك الازدهار الحيّ، الذي كان مثيله آنذاك نادراً جداً في باقي مدن موريتانيا. لكن ذلك الازدهار المُلفت في تلك الفترة ماكان، على مايبدو حينها، إلاّ بادرةً للكارثة الموجعة لاحقاً.

جاءت السيول إلى الطينطان في فترةٍ مختلفة سياسياً قليلاً، من حيث حال الحكم في البلاد. ففي تلك الفترة كان سيدي ولد الشيخ عبد اللّه قد جاء لسدّة الحكم، عن طريق انتخاباتٍ اعتُبرْت، على نطاقٍ واسع، شفّافة ونزيهة. وكانت تلك هي المرّة الأولى التي تبزغ فيها شمس المدنيّة بعد خسوفات العسكر بانقلاباتهم المتتاليّة، هذا على الرّغم من مايُقال عن الخلفيّة العسكريّة الخفيّة، في الأصل، لذلك الحكم المدني الجديد. ولكن بقدرما كانت تلك الفترة جيّدة وطموحة شيئاً ما بقدرما كانت سيئة جداً بالنسبة لسكّان مدينة الطينطان التي قدمتْ عليها السيول تلك الفترة في الثامن من أغسطس/آب خريف 2007. 

كانت تلك السيول أكبر ضرر لحق بسكّان المدينة في حياتهم العاديّة حيث أنه غرقت منازلهم ودُمّرت محلاّتهم التجارية، الأمر الذي أدّى لوقوع حالات تشرد كبيرة في صفوفهم صبيحة ذلك اليوم المشؤوم الذي ترسخ في ذاكرة الساكنة المطبوعة بحزنٍ جم لازمه بشكلٍ مُفزع نعيق الضفادع المتردد في قعر المياه التي أغرقت المدينة وحوّلتها لأطلالٍ موحشة جداً لم تجرب وقع الحنين بعد.

تردي وانعدام الخدمات العمومية 

مع مجيء تلك السيول اختفت جميع مراكز الخدمة العموميّة بالمقاطعة من مُستشفيات ومدارس بالإضافة إلى ذلك تعطّل شبكات المياه والكهرباء وغير ذلك من أشياء أساسيّة كان السكان يعتمدون عليها في حياتهم اليومية بشكل كبير. ويرجعُ ذلك إلى أنَّ كل مراكز تلك الخدمات كانت متمركزةً في وسط المدينة التي غمرتها السيول بقوّة حتّمت على السكان إخلاء منازلهم والتحوّل إلى الكثبان الموجودة في أعلى المدينة قرب حي السيف القديم، حيث بدأت هناك فصول معاناةٍ أخرى جديدة تمثّلت في حالات التشرد والضياع القاسية التي تشبه تماماً حال اللاّجئين الفارين من لهيب الحروب المُشتعلة.

ففي اليوم الأولى للنكبة تلك كانت المخيّمات البسيطة المترامية على الكثبان الرمليّة توحي بحصول كارثة لن تنساها ذاكرة المنكوبين أبداً، أولئك الذين كانوا يعيشون حينها على الموّاد المعلبة فقط من سردين وبسكويت "سرقلة"؛ ماتسبّب في أضرار صحيّة جمّة، تمثلت أساساً في الحمّى والنزيف وغير ذلك، وهو ماتعمّق شيئاً فشيئاً نظراً لانعدام تغطية صحيّة جيّدة وسريعة لديها القدرة على المواكبة.

وفي نفس الوقت كان السّكان المتضرورن يشربون فقط ماء الصهاريج الذي يحفظ في حاويات بلاستيكيّة تحت الشمس، وهو مايعتبر طبيّاً سبباً رئيسياً في انتشار السرطان بخليات الجسم، ينضاف إلى ذلك أن تلك الحاويّات الحافظة، التي مازال بعض السّكان يعتمد عليها، كانت تتسبّب في صدامات يوميّة بين السكان العطشين بفعل التدافع الشديد على الماء.

ومن المُمكن تخيّل القدرة المحدودة جداً لإحدى تلك الحاويات على سقاية عشرات الأسر (التي كانت تخصّص لها على أقل تقدير) المنكوبة وتلبية غايتها من الماء. وهنا، فرغم أن الكارثة التي شرّدت السكان أصلاً كانت عبارة عن ماءٍ (سيول جارفة) فإنه مع ذلك كان الحصول على الماء الصالح للشرب والاستعمال يشكل ندرةً حقيقيّة للسكان يبدأون في تحديها اليومي الصّعب في ساعات الفجر الأولى من كل يومٍ جديد. وهكذا أصبحت هناك تلازمية الفجر- والماء طاغيّة بشدّة على مسار حياتهم، فكما أنهم نزحوا فجراً مع حلول الكارثة من السيول الجارفة التي داهمتهم بغتة أصبحوا أيضاً يمارسون النزوح فجراً بشكلٍ مختلف بعيد ذلك: ليس هرباً من الماء هذه المرة ولكن هرباً إليه. 

بعد الكارثة بشهريْن تقريباً كان من المتوقع حلول افتتاح السنة الدراسيّة 2007/2008 التي لم يكن حتّى التفكير بها مُمكناً في نظر السّكان المنكوبين الذين لازالوا يُنشِّفون أنفسهم من بلل السيول الصفراء الغاضبة. ولم تكن استراتجيّة السلطة الكسولة تُعطي أهميّةً للموضوع، مابدى انعكاسه في أذهان السكان المنكوبين يوحي بأنه لربما اعتُبرت تلك الكارثة حظّاً طارئاً يُعفي النظام الحاكم من مسؤوليّاته إزاء أطفال المُقاطعة الذين أمضوا ذلك العام بأغلبيّتهم خارج قاعات الدّرس يرضعون أصابع الأمل عبثاَ إلاّ من استطاع منهم من موقعه وامكانيات أسرته المادية الالتحاق بالمدارس الخصوصيّة التي انتهزت الفرصة وبدأتْ تنتشر بكثرةٍ عجيبة. وكانت تلك المدارس الخصوصيّة التي أنشأها تجّار التعليم قد ظهرت بشكلٍ قويّ حالما تبيّن ضعف وفشل استراتجيّة الدولة المتخذة لمواجهة أضرار الكارثة على مستوى التعليم في المقاطعة، والتي انحصرت فقط على أعرشة من الزنك لم تراعي المعايير الصحيّة العالميّة، الشيء الذي تسبّب لاحقاً في أمراضٍ وأعطاب صحيّة في صفوف بعض الأطفال تمثلّت في الصمم وحالات الاغماء المُفاجئة التي يُعبّر عنها محلياً بـ"الدّوْسة". ولم تكن المدينة جاهزةً لمواجهة تلك الأعطاب صحياً من حيث آليّات العلاج والقدرة عليه. وحتّى هذه اللّحظة لاتزال مدينة الطينطان عاجزة عن إجراء عمليات بسيطة جداً كالزائدة - التي انتشرت بسبب التلوث – والتوليد بالإضافة إلى ذلك فحوصات اسكانير. وتنتهج المدينة سياسة الرفع الصحيّ إلى لعيون وكيفه رغم قرب تأسيس مُستشافاها المركزيّ الذي أُنشئ بُعيد الكارثة بفترةٍ ليست بالطويلة.

هذا التردي الكارثيّ للخدمات العموميّة أصبح مألوفاً في حياة سكان المقاطعة وجزءاً لايتجزأ من حياتهم اليومية البائسة رغم محاولات التجميل والتضليل العاجزة التي يقوم بها النظام في فترة الزيارات الكرنفالية والانتخابات الصوريّة. ومن المتوقع أن تبدأ بعض الجهات الرسميّة في استئناف تلك المحاولات الفاشلة بعد صدور هذا المقال، كمايحصل دائماً كلّما حُرّك ملف إعمار الطينطان تحريكاً مُزعجاً للنظام بجميع المنطوين تحت لوائه. ذلك النظام الذي عبّر جنراله محمد ولد عبد العزيز في زيارته للطينطان 2009 بعد عامٍ من انقلابه بأنَّ ملف اعمار الطينطان كان من الدّواعي المُلحة لانقلابه، على سبيل التبرير المُتهافت، بسبب مافيه من عمليات فساد كبيرة!

 واليوم يبدو كل ذلك زبداً واهياً. فالجنرال ولد عبد العزيز الذي عاشر كارثة الطينطان أكثر من ثماني سنوات لم يُقدّم لساكنتها أيَّ اهتمامٍ يُعالج من وضعيّتهم الصّعبة، بل تجاوز ذلك إلى احتقارهم عندما انشغل بانشاء مدنٍ جديدة معزولة كالشامي وانبيكت لحواشْ لغاياته السلطويّة التافهة تاركاً الطينطان تحت سيف مؤسسة إعمار الطينطان كارثة الكارثة.    

مؤسسة إعادة إعمار الطينطان!

لعلَّ الاسم الأنسب الذي ينبغي أن يُطلق على هذه المؤسسة الرسميّة-الحكوميّة هو "مؤسسة إعادة تدمير الطينطان" لا إعماره. وإعادة التدمير تلك هنا تتم بشكلٍ واعٍ هذه المرة، ولكن على مستوى مُختلف إلى حدٍّ ما من حيث الوسيلة المُتخذة في الممارسة. فهذه المؤسسة التي ظهرت بموجب مرسوم حكومي يحمل رقم 2007/217 في ديسمبر من نفس العام الذي قدمت فيه السيول على المقاطعة بدتْ أوّل الأمر أملاً للسكان المنكوبين، حين رأوا فيها توهماً في البداية إمكانيّة انتشالهم من واقعهم التشرديّ البائس الذي تسبّبت فيه الكارثة، ولكنها لم تلبث طويلاً حتّى ظهرتْ عكس ذلك كُلياً، الأمر الذي شكل صدمة حقيقيّة لكثيرٍ من المنكوبين الذين يعانون الجوع والعطش و يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في تجاهلٍ كبير لحالهم الصّعب من قبل الحكومة.

ذلك ماظهر حين أخلفت المؤسسة وعودها التي قطعتْ على نفسها أمام الساكنة المنكوبة، فكانت بذلك تقدم مثالاً شديد الواقعيّة عن الفساد والظلم اللذين يـ/تجسّدا في ممارسة كثيرٍ من السياسات الرسميّة إزاء النكبة الفيضانيّة التي تعيشها المدينة وتمرّ بها في مرحلةٍ تعدّ الأصعب في تاريخها على الإطلاق.

هذه المؤسسة التي أُنشئت بمرسومٍ حكومي هي من جنس المؤسسات التي تظهر في تواقتٍ تامّ مع الكارثة سعياً إلى معالجة أضرارها التي خلّفت على حياة المحيط المكانيّ والبشريّ الذي حدثت فيه. ولكنها لم ترعى اهتماماً جديّاً لذلك الأمر الذي خُلقت له. وسيظهر لنا ذلك من خلال عرض الوعود التي قطعت هذه المؤسسة على نفسها منذ البداية في وثيقةٍ رسميّة منها والنّظر لأرض الواقع ومقاربة ذلك من حيث التحقيق والمُقارنة.  وسنعرض الآن بعضاً من الوعود الأساسيّة التي وعدت بها هذه المؤسسة ساكنة الطينطان في وثيقةٍ رسميّة أصدرتها المؤسسة في يوليو 2008، أيْ بعد 4 أشهر من اكتمال إنشاء معالم المؤسسة. وها هي الوعود التي عهدت بها المؤسسة ولم تتحق: بناء مدينة عصريّة واستصلاح ماسلم من المدينة القديمة، بالإضافة إلى ذلك بناء 1250 سكن اجتماعي، ثم بناء 250 شقة اقتصاديّة، بناء خمس مدارس أساسيّة، مفتشية للتعليم، أشغال التجهيز والصرف الصحي والمياه والكهرباء، محكمة للمقاطعة، ثكنة لرجال الإطفاء، فضاء لألعاب الأطفال، محطة طيران، إعادة استصلاح وغرس واحات النخيل، تنفيذ برنامج التشجير والمساحات الخضراء...إلخ.

ومع مايتداول عن حلّ هذه المؤسسة من قبل وزارة الإسكان، فإنها قد اختفت منذ 2012 من المقرّ الذي كانت تستأجره وسط المُقاطعة دون أن تنجز شيئاً مُهماً يفيد حياة الساكنة على الصعيد الأكثر أهميّة. وقد ذهب فشل هذه المؤسسة إلى أبعد من ذلك؛ فعدد من السكان المشرودون الذين كانوا ينتظرون منها بناء مساكن تأويهم (1250 سكن اجتماعي التي عهدت بها في وثيقتها التأسيسية!) تركتهم في حالة تيه وصراع شديدة مع السلطات المسؤولة هناك، حيث أنه لايمكنهم بناء أراضيهم لأسباب عدّة، منها أولاً الفقر المتجسد في انعدام الامكانيات المادية وكذلك عدم السماح بالترخيص للبناء من طرف الحاكم الذي يرفض اعطاء وثائق الملكيّة للسكان لأسبابٍ زبونيّة مُبرّراً ذلك بأن المؤسسة هي المسؤولة عن ذلك الواقع حين احتفت بالوثائق في رحلة اللاّعودة إلى سلة المُهملات.

وانطلاقاً من كل هذا فإنه إذا كانت مهمة المؤسسة التي تمَّ إنشاؤها في عهد سيدي ولد الشيخ عبد الله هي إعمار الطينطان، فإنها لم تلبث طويلاً حتى ثبت عند السكان أنها مجرد وسيلة مُقوننة لجلب المُساعدات الدوليّة للمقاطعة والاستحواذ عليها لصالح أباطرة الفساد، بالتعاون والتنسيق في الخفاء مع شيوخ القبائل و أطر وتجّار المقاطعة على حساب السكان الضعفاء المتضررين الذين لاحول لهم ولاقوّة.

والغريب في الأمر هنا أنّ هؤلاء الشيوخ والأطر والتجار لم يستحوا من أنفسهم أبداً وهم يدعوون السكان المتضررين للتصويت بانتخابات 2013-2014، على أساساتٍ قبليّة وزبونيّة، في مراكز التصويت القديمة في المدينة الغارقة باستثناء مركز الثانوية القديم، مما يؤكد تأكيداً فاضحاً العلاقة المشبوهة والفاسدة بينهم وبين مؤسسة إعمار الطينطان التي فشلت في إعادة إعمار الطينطان فشلاً ذريعاً أكبرُ دليلٍ عليه أنه و بعد سبع سنواتٍ من الكارثة لاتوجد أماكن للتصويت [في الانتخابات التي تعنيهم من حيث التشابك المصلحيّ الفاسد] إلاّ في المدينة الغارقة!

أين هي المُساعدات الدولية للطينطان؟

هذا هو السؤال الذي يطرحه السكان بالحاح مُستمر كلّما نُوقشت قضيّة مدينتهم المنكوبة. يطرحونه وفي أعينهم حزنٌ قد انحسر ماء الأمل عنه لكثرةِ ماتمَّ خداعهم من قبل مسؤولي المقاطعة. ونحنُ بدورنا هنا نجد طرح هذا السؤال فريضة وجوديّة وأخلاقيّة يُحتمّها الواقع المأساوي للمقاطعة الذي يدور في دوّامة تزداد فيها المُعاناة قوّة مع مرور الزمن وتقادمه.

بُعيد الكارثة بوقتٍ قصير جداً توافدت مُساعدات معتبرة من دولٍ عديدة، من أبرزها بعض الدول الخليجيّة وبعض الدول الأخرى الإفريقية والأروبية. تلك المُساعدات انقسمتْ إلى مُساعداتٍ ماليّة ومُساعدات أخرى لوجستيّة  ومُساعدات غذائيّة وطبيّة. وكان الاتفاق البديهي جداً أنَّ تلك المُساعدات ستذهب إلى السّكان والمدينة لمعالجة آثار الكارثة عليهما في جميع المستويات. وكانت تلك المُساعدات قادرة إلى حدٍّ بعيد على معالجة تلك الآثار والقضاء عليها كُلياً، بل وإنشاء مقاطعة جديدة عصريّة تنسي السكان قوة الكارثة، وحجم الألم الذي خلفته في حياتهم. إلاّ أنّ ذلك لم يحصل - للأسف - ولم يصل للسّكان المتضررين إلاّ القليل منها، خصوصا تلك المُساعدات التي أشرف أصحابها على توزيعها، منها أساساً المُساعدات اللوجستيّة المتمثلة في الخيام والأغطيّة وبعض المواد الغذائية البسيطة. فبعض المُساعدات لم تصل إلى الطينطان أبداً، بل تمّ بيعها باكراً في أسواق نواكشوط من قبل بعض المتنفذين، وهذا يُشير إلى حجم التلاعب الذي اكتنف هذا الموضوع. 

فالسؤال هنا أين مُساعدات الطينطان هو في حدِّ ذاته مُطالبة بالتحقيق في مصير هذه المُساعدات من حيث الوصول و التوزيع الزبوني المبني على اعتباراتٍ اقصائية غير عادلة. بالإضافة إلى ذلك أنه ليس من المعقول أبداً على أيّ مستوى استمرار معاناة هذه المدينة المنكوبة التي حصلت على تمويلات خارجيّة وفيرة في حين ينتهج النظام سياسة انشاء المُقاطعات الجديدة المعزولة بتمويلاتٍ محليّة ذاتية. إن هذا في حدِّ ذاته يعيد الاعتبار لمشروعيّة طرح ذلك السؤال الذي يُفضي في النهاية إلى ضرورة فتح تحقيق جديّ وشامل حول مصير هذه المُساعدات المعتبرة.

فساد وزبونية أطر المقاطعة

أعادت الكارثة التي انتابت مدينة الطينطان إحياء القبليّة التي كانت قبل الكارثة خفيفة وضامرة الوجود في بعدها التأثيريّ على مستويات الإدارة العموميّة المُمثلة للدولة. إعادة الاحياء تلك غير الخجولة للقبيلة جاءت أساساً على أيدي من يعتبرون أطراً للمقاطعة من حيث التمثيل. فالأطر هؤلاء، الذين يصعبُ تصنيفهم جداً، يبدون في حالتهم العامة شبه طبقةٍ تعتمد معايير الانتخاب والتمثيل الاقتصادي الاجتماعي الوازن للانضمام الذي يترتب عليه بدوره قدراً من الأدوار والامتيازات المركبة. فهم في أصولهم، كمافي حالة الطينطان، عبارة عن أشخاص ينتمون لبعض المشيخات القبليّة الاقطاعية البائدة التي بوأتها الدولة مكانةً جديدة، مُقابل خفض سقف المنافسة والتنازل، في الوسط الشعبيّ المحيط. وهكذا فإنّ تنازل تلك المشيَخات أمام الدولة الصاعدة جعل منها (عن طريق الأفراد المُنتمين إليها) مُمثلاً للدولة نفسها على جبهاتٍ عدّة في نفس المحيط الذي كانت تنشط فيه بالسابق. لذلك بدى هنا أنّ الذي اختلف هو فقط آليات التمثيل التي تجدّدت هذه المرة مع بعض الحفاظ على موقعها ومركزها السابق الخاص.

الأطرهؤلاء هم إعادة انتاجٍ للدور الملعوب فقط من قبلُ، وهذا مايظهر من تصالح تموقعهم في المجال العام مع آليات النشاط القبليّ التقليديّة، التي يستخدمونها أحياناً كثيرة لغاياتهم الخاصة. وفي سياق الكارثة كان نموذجهم السائد تأكيدٌ على ذلك من نواحي عدّة، خاصّة وأنّ ذلك السياق تطلّب سياسات تمثيلٍ جديدة للاستفادة من المصالح التي ستنتج عن تلك الكارثة، والتي ستُوكل مهمة تسييرها إلى الأطر كمُمثل رئيس للسكان المتضررين الذين لامطلب لهم على الإطلاق غير تحسّن حالهم.

لقد شارك الأطر وتسبّبوا في كل عمليات الفساد التي حصلت بالمُقاطعة، وهي عمليّات انعكست أضرارها كارثيّة على طينطان مابعد أغسطس 2007. فهم من موقع مركزيّة أدوارهم لهم دخلٌ في كل شيءٍ يحصل هناك، وبذلك أصبحوا ضالعين في عمليات فسادٍ كبيرة طالت قضايا عدّة. ويمكن التمثيل هنا بقضيّتيْ: مساعدات الطينطان بعيد الكارثة بوقتٍ قصير؛ وأزمة العلف-ركَلْ في 2012. فالمواقع النافذة التي يتبوأها هؤلاء الأطر بالمدينة جعلتهم ينتهجون سياسات التخصيص الاحتكاريّ والتوزيع الزبوني في تلك الحالات، ليبقى السكان المتضرورن في حرمانٍ عامّ يتمثل غالباً في حصولهم فقط على فتات تلك المُساعدات الكبيرة، التي احتكرها أولئك الأطر النّافذون.

إنَّ فساد أطر الطينطان المُتجليّ في علاقاتهم المشبوهة مع السلطة هو سببٌ أساسي في الكثير من التردي الذي يتسم به حال المدينة، على جميع المُستويات. فذلك الفساد المُغلّف بزبونيّة قبليّة يظهر وكأنَّ همه الأوّل هو إبقاء الوضع على حاله الكارثيّ ذلك أنه يستفيد منه في صيغته تلك القائمة. 

احتجاجات سكان المقاطعة

ظهرت الاحتجاجات بمدينة الطينطان في وقتٍ باكرٍ جداً قياساً على تاريخ النكبة التي اجتاحتها عام 2007. فالمشاكل الجسيمة التي وّلدتها تلك النكبة، في حياة الساكنة، كانت كافيّة لظهور حالات احتجاج قويّة طالب السكان من خلالها بحقوقهم المسلوبة على أكثر من صعيد. وكأنّما كانت تلك النكبة هنا شرطاً لظهور وعيّ مدنيّ بقيمة الاحتجاج، كثقافة مدنيّة يُمارسها السّكان باستمرار، كلّما شعروا بأن وجودهم قُلّل من احترامه، وأنَّ حقوقهم اتخذتْ محجّة فسادٍ ينتهجها المُفسدون.

كانت تلك الاحتجاجات تلقائية وغير مؤطرة تعبّر عن نفسها من خلال صرخاتٍ غاضبة أحياناً في وجه الزبونبيّة القبليّة التي يُعامل بها مسؤولي المُقاطعة السّكان حتّى عام 2011 الذي ظهرت فيه الاحتجاجات بشكلٍ واعٍ وكامل التأطير، كما حدث - على سبيل المثال - خريف ذاك العام عندما رفضت مجموعة من السكان النّاشطين في سوق الحيوان تجاهل السلطات لمعاناتهم وشكاياتهم المتكررة من وجود "المَرْبَطْ" وسط حيّ السيف القديم غرب السوق الجديد الذي يرتاده السّكان المشردون بغزارة يوميّاً.

ومن تلك الاحتجاجات أيضاً ماحصل في حي "آكني المكسم" التابع لمقاطعة الطينطان الذي تعرّض لسيولٍ جارفة من الناحيّة الغربيّة حيث طالب سّكانه إثر ذلك ببعض الوقت بحقوقهم في التعليم والكهرباء حيث توجد مدرسة واحدة قديمة متهالكة (بتمويل ألماني) يدرس في الفصل فيها قسمان يجلسُ تلامذتهما  بدون مقاعد على الحصير مع انعدامٍ كليّ للكهرباء في الحي. كما حصلت انتخابات موازيّة ذات سمة لاسلطوية في الحيّ نفسه عبر من خلالها ساكنته بشكلٍ احتجاجي عن مطالبهم الملحة بالتزامن مع الانتخابات البرلمانية-البلدية عام 2013 حين كانت الانتخابات تجري بالمقاطعة في تجاهلٍ تامّ لمعاناة الساكنة.

وفي حلول الذكرى الثامنة (2015) على كارثة الطينطان قام بعض شباب المقاطعة بسلسلة أنشطة احتجاجيّة تمثلت في وقفاتٍ أمام الوزارة الأولى والبرلمان بالإضافة إلى ذلك اعتراض وزير الإسكان والعمران داخل ساحة بلدية الطينطان وحملةٍ إعلاميّة مكثفة بدأت بمؤتمر صحفيّ عُرض على جميع القنوات وتغطيّة حيّة للذكرى من قبل المواقع وشبكات التواصل الاجتماعيّ.

أزمة سوق الحيوان

كان سوق الحيوان المُسمّى "المربط " واقعاً في جانبٍ من المدينة القديمة قرب "آقوج" وعند قدوم الفيضانات تحوّل إلى "البُنيّة" غرب المدينة لبعض الوقت حتّى تحوّل عنه التجار بمحلاّتهم المحيطة فكان ذلك ضغطاً قوياً من قبلهم على المنمين كيْ يتحوّلوا بالسوق من مكانه ذاك إلى الأعلى وسط المدينة وبالقرب من السوق الجديد. كانت تلك التحوّلات خارجة دائماً عن إرادة المشتغلين في سوق الحيوان، لكن التحوّل الأخير كانت بداية لأزمةٍ قويّة لازالت مُستمر حتى اللّحظة، نظراً لمايُسبّبه المربط في مكانه الجديد من مخاطر صحيّة وبيئة على المدينة وساكنتها.

كانت الخطوة الأولى التي  قام بالمنمّون هي تقديم شكايات للجهات الرسميّة لتحويل "المربط" عن مكانه الحاليّ، غير أنَّ قوّة ضغوط التجار من أجل مصالحهم الضيّقة على حساب السكان بيّنت أنّ هناك إرادة متينة ضدّ ذلك التحويل. فلم يبق أمام المنمّون حينها إلاّ الخروج بـ"المربط" خارج المدينة بعدّة كيلمترات، لكن ضغوط التّجار واصلت مطاردتهم بالتنسيق مع الحاكم الذي فرض ضريبة مُجحفة (تمثلت في مبلغ 6000 أوقية!) على كل سيّارة تتوقف وتنزل في مكان ذلك المربط الجديد خارج المدينة الذي تحوّل إليه المنمّون بإرادةٍ منهم. وبعد أيام من تلك الضغوط رحل المنمّون مرةً ثالثة عن مكانهم ذاك إلى مدخل المدينة غير بعيدٍ من حيّ  "أم النور" فكان ذلك بدايةً لقمعٍ قويّ مارسته قوات الشرطة-الدرك على المنمين الذين تعرّضوا لتنكيلٍ شديد حين داهمتهم قوات الأمن فجراً وهم يصلّون.  بعد احتدام المواجهة بين المنمين الصامدين وقوات الأمن استعانت الأخيرة بقوات من الدّرك قادمة من تامشكط وعين فربة بالإضافة إلى مجموعة من الشرطة قادمة من مدينة لعيون، فاشتدت إثر ذلك وتيرة القمع حيثُ أطلقت قوات الأمن الرصاص الحيّ فسقط أحد المواطنين يُدعى حمادّه ولد اعبيدي بعد أن أصابته رصاصة في الفخذ. وكانت نهاية ذلك اليوم انتصاراً مُفرحاً للمحتجين بعد هروب قوّات الأمن.

بعد تلك الأحداث العنيفة التي انتصر فيها المحتجون استمر "المربط" في مكان المواجهة قبل أن
 تبدأ السلطات في انتهاج طريقة جديدة من المُماطلة والتسويف كي تمتص حماس المحتجين بعد تدخلٍ مشروعٍ أروبيّ دعم قرار تحويل "المربط" بمبلغ 40 مليون أوقيّة كانت كافيّة لإنشاء سوقٍ للحيوان بمعايير جيّدة خارج المدينة وفقاً للدراسة التي قدّمها المنمّون للجهة الممولة. لكن أطماع مسؤولي البلديّة في ذلك المبلغ عرقلت تطبيق فكرة تحويل السوق خارج المدينة. وحتّى الآن لايزال "المربط" في مكانه غير اللاّئق وسط المدينة لتنضاف إلى أزمته مشكلة أخرى هي اختفاء التمويل الأروبيّ الذي استحوذت عليه البلديّة بشهادةٍ من محمد محمود ولد البنيه رئيس اتحادية المنمين على مستوى المقاطعة الذي عبّر عن الاستدراج الماكر الذي تعرّضوا له من قبل العمدة الحاليّ.

أي جديد في الذكرى التاسعة؟

تحلَّ هذه الذكرى ولا أمل في أفق واقع السّكان المنكوبين الغائم الذي لم يعهد استقبال سياسات فعليّة التجسيد، حتى هذه اللّحظة، حول معاناتهم. ولكن يستمرُّ تجاهل النظام لهذه المقاطعة المنكوبة، وهو الذي قام بإنشاء مدنٍ من العدم، في خلواتٍ ميتة، كمدينتيْ الشامي وانبيكت لحواشْ. ويحدث هذا ترسيخاً لاحتكاريّة قبليّة معهودة، وكذلك اتباعاً للنهج الزبونيّ الذي تسعى السلطة من خلاله إلى اكتساب مكانةٍ وقت الانتخابات. الجديد فقط هو أّنَّ المدينة في ذكرى نكبتها التاسعة لازالت كما كانت وأكثر سواءً. فمن ناحيّة كان الاهتمام الذي أُعطيَ لها منحصراً فقط على مسائل تبدو غير مُلحة بالنسبة لواقع السّكان اليوميّ الذي يعانونه. هذا إذ أنَّ ذلك الاهتمام الرسميّ المُخجل كان متجسداً فقط في إعادة البناء الهشَّ للطرق وكذلك بعض مؤسسات الدولة الرسميّة، ليترك الساكنة من المواطنين المنكوبين لطموحاتهم العادية ولكن المُستحيلة كمايبدو في سكنٍ لائق ومعيشة كريمةُ يعدّان حقاً بسيطاً في كل الظروف أحرى الظروف الاستثنائيّة التي يمرُّ بها الإنسان وتستدعي اهتماميّة أفضل من ذي قبل تراعي صعوبة وضعه الجديد الذي أصبح يعيش فيه بعد الكارثة التي مرّ بها.

إنّ الجديد فقط في قضية الطينطان هو أنّ السكان قد ملّوا من حلب ضروع الأمل عبثاً ولم يتبقى لهم سوى اللّجوء إلى السؤال التحقيقيّ حول قضيتهم: أين اعمار الطينطان؟ والذي يلقون به في وجه كل داخلٍ للمدينة. وقد بيّنت بعض الأحداث الأخيرة بالمُقاطعة وجاهة هذا السؤال. من ذلك ماحدث حين سقط خزّان المياه الرئيسيّ بالمقاطعة الذي مُنحت صفقة إنشائه بالتراضي لرجلٍ أعمال مقرب من النظام استخدم تلك العلاقة للقيّام بعملٍ لم تتوفر فيه أيّ معايير للدقة والجديّة، على الرّغم من أهميّة موضوع الخزان في حياة سكان المقاطعة المنكوبة. فهل سيفتتح التحقيق الجادّ في أمر صفقة هذا الخزّان أم سيتم تجاهله كماتم تجاهل مصير المُساعدات الدولية لاعادة اعمار المقاطعة؟ ويستمر التساؤل.

عالي الدمين
أحمد أبيه