شيء من البَلْكَةِ / محمد عبد الله لحبيب

جمعة, 2017/01/13 - 17:04
الكاتب محمد عبد الله لحبيب

والبلكة (بكاف معقود [جيم مصرية]) رديف الأنفة، أو هي عزة النفس بتعبير القاضي الجرجاني. والجرجاني هذا غير عبد القاهر صاحب إعجاز القرآن وأسرار البلاغة، وإنما هو القاضي علي بن عبد العزيز، توفي أواخر القرن الرابع، ولي القضاء لبني بويه، أيام الصاحب، وهو الأديب الشاعر صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، وقد كان قاضيا أديبا عالما ألف في التاريخ، والأنساب، والنقد.

وحمل لقب الجرجاني في التاريخ الإسلامي كثير؛ أبرزهم أربعة؛ المذكوران، والشريف الجرجاني الفلكي الموسيقي اللغوي الفقيه. ومحمد بن يحيى المحدث معاصر علي.

وقد كنت إلى عهد قريب أظن القاضي صاحب أجمل بيت أتسلى في اغترابي:

يقيم الرجال الموسرون بأرضهم وترمي النوى بالمقترين المراميا

إلى أن أخبرني الشيخ جوجل قبح الله سعيه، أن أبيات الشوق في بغداد لغير القاضي، ولكنني أتعصب لفطرتي في ذلك، وأغصب الأبيات للقاضي، بدل الشاعر الغمر الذي دلتني عليه الشركة الأمريكية، على طريقة:

أنا الذي قال هذا البيت لا ابن أبي سلمى وشيخي به المعني لا هرِمُ

أو على منهج الشيخ أبي فراس: لتعطينيهما أو لأنبشن أمك من قبرها. حتى أني ما عدت أذكر اسم الشاعر الذي قادني إليه جوجل، ولا أريد أن أذكره. أعيش على لذة أن الأبيات من شعر القاضي الجرجاني، فقد أحببتها كما أحببت شخصية القاضي الذي يذكر بعهد الفتوة، وبمجد البلكة الأثيل. البلكة طبعا كاسمها، تكسر نظرية اعتباطية الدلالة، وينبئ وقعها في الأذن عن أنف أشم مخناف، [خنف بأنفه تكبر، وهي من عربي الحسانية الجميل]. وكان الشيخ أبو فراس خنوفا إلا أن يذله فقر فيكسر رقبة النحو، ويرفعها على ما يسوء النحاة وينوؤهم، أو تركعه النوار، قدس الله سرها.

الفرزدق، رفع الله منزلته، لا ينتمي إلى #السلالة، في تصنيفات الشيخ Miny Lamine وانكساراته القليلة تدل على بلكة أصيلة. بعض أهل لخيام يستخدمون البلكة رديفا للتكبر، وكنا أيام الصبا نعد "بلكة تريكة الدشرة" شيئا منكورا تقربهم مظاهره المتأنقة من أنثوية متأنف منها في عرف صلابة البدوي. النظافة المفرطة (الصكلة (بكاف معقود) أصلها العربي قريب: الصقلة، أو الصقالة) من علامات التشبه بالنساء. الرجولة في المفهوم البدوي رديف الشدة، وليس بالضرورة الغلظة أو الجلافة. كما يزعم ذلك عنا أهل الحضر، ويختلقون قصة علي ابن الجهم، في شعره. أجزم أنها من وضع راوية متعصب على أهل البدو لنفرته من فطرتهم، وصدقهم المنساب في كل شيء. أستمتع بخيرات أهل الحضر، وأنظر بازدراء كثير مما يعتبرونه "حضارة ومدنية".

ترقق الحضارة (بمعنى الإقامة في الحضر)، وسكنى الدشرة (الدشرة عربية - حسانية) الطبيعة، وتورث رقة لا تتأتى لأهل البدو سليقة، ولأهل البدو رقتهم أيضا، وقد كان الهوى يقتل عذرة، وهم بدو، وشعرهم إلى اليوم أرق الغزل وأعفه.

بلكة الجرجاني خلدها في نص أدبي يصلح مدونة في أخلاق الهمنة؛ مهننة الصحافة، وأي مهنة تحتاج رأيا، ولا تدر الكثير من الأرباح.

وما زلت منحازا بعرضيَ جانبا من الذم أعتدُّ الصيانة مغنما
إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلا عن موقف الذل أحجما
أرى الناس ما داناهمُ هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أُكرِما
ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأَخدِمَ من لاقيتُ لكنْ لأُخدَما
أأشقى به غرسا وأجنيه ذلة إذن فاتباع الجهل قد كان أحزما
ولو أن أهل العلم صانوه صانهمْ ولو عظموه في النفوس لعظما

#الجرجاني

غلاف كتاب الوساطة