
ودونك نص ابن الهمام ممزوجا بشرح ابن أمير الحاج:
قال في مسألة حمل الصحابي مرويَّه المشتركَ ونحوَه على أحد ما يحتمله : مانصه: (وترك الصحابة الاحتجاج به ) أي بالحديث ( عند اختلافهم مختلف في رده ) أي الحديث ( وهو ) أي رده بتركهم الاحتجاج به عند احتياجهم إلى الاحتجاج به هو ( الوجه إذا كان ) الحديث ( ظاهرا فيهم وأما عمل غيره ) أي غير راوي الحديث ( من الصحابة بخلافه ) أي المروي ( فالحنفية إن كان ) الحديث ( من جنس ما يحتمل الخفاء على التارك ) للعمل به ( كحديث القهقهة عن أبي موسى ) الأشعري ( تركُه ) أي العمل به ( لا يضره) أي الحديث ( إذ لا يستلزم ) تركه قدحا في الحديث ( أو لا ) يكون الحديث ( منه ) أي جنس ما يحتمل الخفاء ( كالتغريب ) المذكور في قوله صلى الله عليه وسلم البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام رواه مسلم وغيره وهو إخراج الحاكم للمحصن الحر ذكرا كان أو أنثى إلى مسافة قصر فما فوقها وأول مدته ابتداء السفر كما هو مذكور في فروع الشافعية ( تركه عمر بعد لحاق من غربه مرتدا ) فأخرج عبدالرزاق عن ابن المسيب قال غرب عمر رضي الله عنه ربيعة بن أمية بن خلف في الشراب إلى خيبر فلحق بهرقل فتنصر فقال عمر لا أغرب بعده مسلما (فيقدح) ترك عمل غير الراوي له من الصحابة فيه ( لاستلزامه ) أي ترك العمل به حينئذ ( ذلك ) أي القدح فيه ( أو أنه ) أي التغريب ( كان زيادة تعزير سياسة ) شرعية إيحاشا للزاني وزيادة في تنكيله ( إذ لا يخفى ) كون التغريب من الحد ( عنه ) أي عن عمر ( لابتناء الحد على الشهرة مع حاجة الإمام إلى معرفته فيفحص عنه وكفره ) أي المغرب في بعض الوقائع ( لا يحل تركه الحد وقد قال عمر للمؤلفة بعده عليه السلام حين فهم انتهاء حكمهم وهم أهل شوكة: الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ومنعهم) فروى الطبري عنه أنه قاله لما أتاه عيينة بن حصن وأعقبه بقوله يعني ليس اليوم مؤلفة.([1]) انتهى بحذف غير محل الحاجة.
وقوله:( وهم أهل شوكة ):أي والحال أن المؤلفة عند الانتهاء أهل شوكة ومنعة يتوهم منهم العصيان.
ودونك نص الطبري:
فال حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثنا هشيم ، قال : ثنا عبد الرحمن بن يحيى عن حبان بن أبي جبلة ، قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، وأتاه عيينة بن حصن : {الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} أي ليس اليوم مؤلفة. انتهى من تفسير الطبري بلفظه([2])
وقال ابن الهمام: مسألةِ لا ينسخ الإجماع ولا ينسخ به . ثم بعد أ ن ذكر الخلاف في ذلك قال: ( قالوا([3]) وقع ([4])بقول عثمان حجبها قومك ([5]) وبسقوط سهم المؤلفة .
قال ابن أمير الحاج: (وبسقوط سهم المؤلفة) قلوبهم من الزكاة عند الحنفية وموافقيهم بإجماع الصحابة في زمن أبي بكر رضي الله عنه الدال عليه ما روى الطبري من طريق حبان بن أبي جبلة أن عمر رضي الله عنه لما أتاه عيينة بن حصن قال: الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر يعني اليوم ليس مؤلفة إلى غير ذلك من غير إنكار أحد من الصحابة ذلك([6]) انتهى.
قال جامعه: ومحل الشاهد فيه أن ما استدل به من قول عمر فمن شاء فليومن ومن شاء فليكفر على أن الكفر لا يحل ترك الحد قد أقره الصحابة بالإجماع.
وبذلك يكون الترخيص في تعطيل حدود الله تعالى بحجة أن المسلم اليومَ في بيته إذا أقيم عليه الحد يمكن أن يفتتن فيلحق بالكفار خلاف الحق و خلاف التحقيق.
وقصة جبلة بن الأيهم مع الفزاري الذي هشم أنفه أو قلع عينه مشهورة وفيها: ))فاعترف جبلة، فقال له عمر: أقدته منك.
فقال: كيف وأنا ملك وهو سوقة ؟ فقال: إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضله إلا بالتقوى، فقال جبلة: قد كنت أظن أن أكون في الاسلام أعز مني في الجاهلية، فقال عمر: دع ذا عنك، فإنك إن لم تُرض الرجل أقدته منك، فقال إذًا أتنصر، فقال إن تنصرتَ ضربت عنقك، فلما رأى الحد([7]): قال سأنظر في أمري هذه الليلة، فانصرف من عند عمر، فلما ادلهم الليل ركب في قومه ومن أطاعه فسار إلى الشام ثم دخل بلاد الروم ودخل على هرقل في مدينة القسطنطينية فرحب به هرقل وأقطعه بلادا كثيرة، وأجرى عليه أرزاقا جزيلة، وأهدى إليه هدايا جميلة، وجعله من سماره، فمكث عنده دهرا.))
ولما أُخبر عمر بحاله وشربه الخمر قال: أبْعده الله، تعجل فانيةً بباقيةٍ فما ربحت تجارته.
وأبياته في ذلك مشهورة:
تنصرت الأشراف من عار لطمة
وما كان فيها لو صبرتُ لها ضرر
تكنفني فيها اللجاج ونخوة
وبعت بها العين الصحيحة بالعور
فيا ليت أمي لم تلدني وليتني
رجعت إلى القول الذي قاله عمر
ويا ليتني أرعى المخاض بقفرة
وكنت أسيرا في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة
وقد يصبر العود الكبير على الدَّبَر([8]).
فإن صح ذلك فهو دفعة أخرى في صدر هذه الشبهة وإلا فلا حاجة بها لمزيد من الدفع.
والله الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
الشبهة الثانية:
قال في الندوة: تحريم الحكم بما أنزل الله إذا أدى إلى مفسدة من نوع المفاسد المعتبرة شرعا هو دائر بين الوجوب وبين التحريم... ثم قال: أمثلة كثيرة من عمل أصحاب رسول الله صلى الله عليه صلى الله عليه وسلم: الفاروق عندما أوقف حد السرقة عام الرمادة لأنه يرى أن هذا الحكم ليس مؤديا لمقصده المقصد لا يصل إليه فلهذا أوقف ذلك بناء على ما لديه من المعلومات عن أن الناس في حالة عسرة ومجاعة ولم ينكر عليه أحد من الصحابة كذلك وهذا – طبعا ليس تشجيعا لعدم تطبيق أحكام الشرع بل أنا من أشدكم حماسا لها عند توفر الشروط وقيام الأسباب وانتفاء الموانع.
جواب الشبهة الثانية:
الجواب وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب:
أول خطوة أخطوها : هو([9]) تقديم تعريف مختصر يكون قولا شارحا يتوصل به إلى تصور عام الرمادة لتكون الخطوة الثانية هي الحكم عليه: قال ابن كثير في البداية والنهاية:
قلت: كان في عام الرمادة جدب عم أرض الحجاز، وجاع الناس جوعا شديدا.
وسميت عام الرمادة لأن الارض اسودت من قلة المطر حتى عاد لونها شبيها بالرماد.
وقيل: لانها تسفي الريح ترابا كالرماد.
ويمكن أن تكون سميت لكل منهما.
والله أعلم.
وقد أجدبت الناس في هذه السنة بأرض الحجاز، وجفلت([10]) الاحياء إلى المدينة ولم يبق عند أحد منهم زاد فلجأوا إلى أمير المؤمنين فأنفق فيهم من حواصل بيت المال مما فيه من الاطعمة والاموال حتى أنفده، وألزم نفسه أن لا يأكل سمنا ولا سمينا حتى يكشف ما بالناس، فكان في زمن الخصيب [يبث([11]) ]له الخبز باللبن والسمن، ثم كان عام الرمادة يبث له بالزيت والخل، وكان يستمرئ الزيت.
وكان لا يشبع مع ذلك، فاسود لون عمر رضي الله عنه وتغير جسمه حتى كاد [يخشى[12]] عليه من الضعف.
واستمر هذا الحال في الناس تسعة أشهر، ثم تحول الحال إلى الخصب والدعة وانشمر([13]) الناس عن المدينة إلى أماكنهم.
قال الشافعي: بلغني أن رجلا من العرب قال لعمر حين ترحلت الاحياء عن المدينة: لقد انجلت عنك ولإنك لابن حرة.
أي واسيت الناس وأنصفتهم وأحسنت إليهم.
وقد روينا أن عمر عس المدينة ذات ليلة عام الرمادة فلم يجد أحدا يضحك، ولا يتحدث الناس في منازلهم على العادة، ولم ير سائلا يسأل، فسأل عن سبب ذلك فقيل له: يا أمير المؤمنين إن السؤّال سألوا فلم يعطوا فقطعوا السؤال، والناس في هَمٍّ وضيق فهم لا يتحدثون ولا يضحكون.
فكتب عمر إلى أبي موسى بالبصرة أن يا غوثاه لامة محمد صلى الله عليه وسلم .
وكتب إلى عمرو بن العاص بمصر أن يا غوثاه لامة محمد صلى الله عليه وسلم.
فبعث إليه كل واحد منهما بقافلة عظيمة تحمل البُر وسائر الأطعمات، ووصلت ميرة عمرو في البحر إلى جدة ومن جدة إلى مكة.
وهذا الاثر جيد الإسناد، لكن ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة مشكل، فإن مصر لم تكن فتحت في سنة ثماني عشرة، فإما أن يكون عام الرمادة بعد سنة ثماني عشرة، أو يكون ذكر عمرو بن العاص في عام الرمادة وهما.
والله أعلم.
وقال سيف بن عمر عن سهل بن يوسف السلمي عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: كان عام الرمادة في آخر سنة سبع عشرة، وأول سنة ثماني عشرة، أصاب أهل المدينة وما حولها جوع فهلك كثير من الناس، حتى جعلت الوحش تأوي إلى الانس([14])، انتهى محل الحاجة باختصار.
إذا علمت هذا فعام الرمادة لم تتوفر فيه شروط القطع لأن من شروط القطع عدمَ الإكراه، والضرورةُ إكراه فهي من الاضطرار أي الاحتياج إِلى الشيء . و قد اضطَرَّه إِليْهِ أَمرٌ : أَحْوَجَه وأَلْجَأَه.
قال الإمام القرطبي في تفسير قوله تعالى:{ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة : 173]}: الاضطرار لا يخلو أن يكون بإكراه من ظالم أو بجوع في مخمصة. والذي عليه الجمهور من الفقهاء والعلماء في معنى الآية هو من صيره العُدم والغَرَث - وهو الجوع - إلى ذلك - وهو الصحيح([15]).
وقال ابن جزي في القوانين الفقهية:
عادًّا شروط القطع في السرقة: ( الخامس ) أن لا يضطر إلى السرقة من جوع.([16]) انتهى بحروفه.
وقال أبو الحسن المالكي في : (( كفاية الطالب الرباني لرسالة أبي زيد القيرواني:
وللقطع شروط في السارق والمسروق فُهم بعضها مما تقدم فالتي في السارق أن يكون عاقلا ، بالغا ، غير ملك للمسروق منه ، ليس له عليه ولادة ، غير مضطر للسرقة. انتهى الغرض منه.))
قال العدوي:
(( قوله : "غير مضطر للسرقة" احترازا عمن سرق لجوع أصابه ([17]).))
وقال علي بن الحسين بن محمد السغدي، الحنفي في النتف في الفتاوي:
والخامس لاقطع في الآت الملاهي كلها مثل الطنبور والدهل والطبل والدف والمزمار ونحوها
والسادس في عظام الميتة
والسابع في المضطر اذا سرق فأكل وشرب أو لبس ونحوه.([18])
وقال كمال الدين محمد بن عبد الواحد السيواسي المعروف بـ"ابن الهمام" الحنفي في شرح فتح القدير: هذا والقطع في الحنطة وغيرها إجماعا إنما هو في غير سنة القحط ،وأما فيها فلا سواء كان مما يتسارع إليه الفساد أو لا لأنه عن ضرورة [ظاهر أو هي([19])] تبيح التناول وعنه عليه الصلاة والسلام: ((لا قطع في مجاعة مضطر)) وعن عمر رضى الله عنه لا قطع في عام سنة([20]).
وقال موفق الدين ابن قدامة المقدسي في الكافي في فقه ابن حنبل:
و لا قطع على المضطر إذا سرق ما يأكله إذا لم يقدر على ذلك إلا بالسرقة لأنه فعل ما له فعله قال أحمد : لا قطع في المجاعة لأن عمر رضي الله عنه قال : لا قطع في عام سنة. قيل لأحمد تقول به ؟ قال : إي لعمري لا أقطعه إذا حملته الحاجة و الناس في شدة ومجاعة.([21]) انتهى.
وقال ابن حزم في المحلى :مسألة : القطع في الضرورة:
قال أبو محمد رحمه الله: نا حمام نا ابن مفرج نا ابن الأعرابي حدثنا الدبري نا عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن أبي كثير قال : قال عمر بن الخطاب : لا [قطع([22])] في عذق , ولا في عام السنة . وبه - إلى معمر عن ابان : أن رجلا جاء إلى عمر بن الخطاب في ناقة نحرت , فقال له عمر : هل لك في ناقتين عشراوين , مرتعتين , سمينتين , بناقتك ؟ فإنا لا نقطع في عام السنة - والمرتعتان : الموطأتان ؟ قال أبو محمد:من سرق من جهد أصابه , فإن أخذ مقدار ما يغيث به نفسه فلا شيء عليه , وإنما أخذ حقه , فإن لم يجد إلا شيئا واحدا [فيه([23])] فضل كثير , كثوب واحد أو لؤلؤة , أو بعير , أو نحو ذلك , فأخذه كذلك فلا شيء عليه أيضا ; لأنه يرد فضله [لمن فضل عنه([24])] ; لأنه لم يقدر على فضل قوته منه , فلو قدر على مقدار [قوت([25])] يبلغه إلى مكان المعاش فأخذ أكثر من ذلك وهو [ممكن لا يأخذه([26])] , فعليه القطع ; لأنه سرق ذلك عن غير ضرورة , وإن [فرضنا([27])] على الإنسان أخذ ما اضطر إليه في معاشه , فإن لم يفعل فهو قاتل نفسه , وهو عاص لله قال الله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} وهو عموم لكل ما اقتضاه لفظه - وبالله تعالى التوفيق ([28]).
وقال الإمام القرطبي :خرج ابن ماجة أنبأنا أبو بكر بن أبي شيبة أنبأنا شبابة "ح" وحدثنا محمد ابن بشار ومحمد بن الوليد قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن أبي بشر جعفر بن إياس قال : سمعت عباد بن شرحبيل - رجلا من بني غبر - قال : أصابنا عام مخمصة فأتيت المدينة فأتيت حائطا من حيطانها فأخذت سنبلا ففركته وأكلته وجعلته في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : "ما أطعمته إذ كان جائعا أو ساغبا ولا علمته إذ كان جاهلا" فأمره النبي صلى الله عليه وسلم فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق من طعام أو نصف وسق.
قلت : هذا حديث صحيح اتفق على رجاله البخاري ومسلم ، إلا ابن أبي شيبة فإنه لمسلم وحده. وعباد بن شرحبيل الغبري اليشكري لم يخرج له البخاري ومسلم شيئا ، وليس له عن النبي صلى الله عليه وسلم غير هذه القصة فيما ذكر أبو عمر رحمه الله ، وهو ينفي القطع والأدب في المخمصة.([29])
وقال المناوي إنه لم ير من قال بالقطع في زمن المجاعة ودونك نص كلامه:
قال السيوطي في الجامع الصغير: (لا قطع في زمن المجاعة) (خط ([30])عن أبي أمامة). قال المناوي: في التيسير: أي في السرقة في زمن القحط والجدب لانه حالة ضرورة ولم أر من قال به([31])
قال جامعه:اعلم أنهم لم يبيحوا للمضطر في حالة الضرورة مال المسلم فقط بل أباحوا له قتاله وقتله فاذكر قول الشيخ خليل بن إسحاق المالكي في باب المباح : وللضرورة ما يسد ... إلى قوله عاطفا على ما لا تقدم عليه الميتة... وطعامِ غير إن لم يخف القطع وقاتل عليه.
قال المواق: من الموطأ : سئل مالك عن المضطر إلى الميتة أيأكل منها وهو يجد تمرا لقوم أو زرعا أو غنما بمكانه ذلك ؟ قال مالك : إن ظن أن أهل تلك التمر والزروع أو الغنم يصدقونه بضرورته حتى لا يعد سارقا فتقطع يده رأيت أن يأكل من أي ذلك وجد ما يرد جوعه ولا يحمل من ذلك شيئا ، وذلك أحب إلي من أن يأكل الميتة .
وإن هو خشي أن لا يصدقوه وأن يعدوه سارقا بما أصاب من ذلك فإنّ أكل الميتة خير له عندي ، وله في أكل الميتة على هذا الوجه سعة ([32]).))
وقال العدوي: ( قوله إن لم يخف القطع ) أي بأن ظن أن أهل ذلك التمر أو الزرع أو الجرين يصدقونه لضرورته حتى لا يعد سارقا فتقطع يده، وخوف القطع بعكس ذلك كما هو مصرح به في قول مالك([33]) .
وقال عليش:
((وما سيأتي في السرقة من أن من سرق لجوع لا يقطع محمول على من ثبت أن سرقته لجوع ، وظاهره ولو وجد ميتة ، وما دل عليه المفهوم هنا محمول على ما إذا لم يثبت قاله عب([34]).))
وقال الخرشي: ((وقاتل عليه ( ش) أي جوازا بعد أن يعلمه أنه إن لم يعطه قاتله ثم بعد ذلك إن قتله المضطر فهدرٌ وإن قتل ربُّ الطعام المضطرَّ فالقصاص أي إن كان المقتول مكافئا للقاتل.
وقوله: وقاتل عليه حيث لم يكن معه من الميتة ما يستغني به عنه وربما يرشد له ما تقدم من أنه إذا خاف بأخذه الضرر والأذية فإنه لا يأكله.
وكتب نحوه بعض الفضلاء ممن لقيناه ([35]).
وقال محنض بابه في الميسر: (و) إن منعه ربه (قاتل) المضطر (عليه) مالكَه إن لم يجد ميتةً بعد أن يعلمه أنه إن منعه قاتله قال ابن شأس: يطلبه منه بثمن في ذمته ويُظهر له حاجته فإن أبى استطعمه فإن أبى أعلمه أنه يقاتله فإن قتله المضطر فهَدَرٌ وإن قتله المالك فالقصاص . ([36])انتهى الغرض منه.
وقال الحطاب: (("وطعام غير" ش: قال ابن غازي: طعام بالجر معطوف على قوله لا لحمه. قال في القوانين وإذا وجد ميتة وطعام الغير أكل الطعام إن أمن أن يعد سارقا وضمنه. وقيل لا يضمن وليقتصر منه على شبعه ولا يتزود منه انتهى([37]).))
وقال عليش:
قال في الذخيرة وإذا أكل مال مسلم اقتصر على سد الرمق إلا أن يعلم طول طريقه فيتزود منه لوجوب مواساته إذا جاع .
وفي المواق إذا أكل المضطر مال غيره فقال ابن الجلاب يضمن ، وقال الأكثر لا ضمان عليه وظاهره وجد ميتة أم لا ([38]).
قال جامعه:والخلاصة أن ضرورة الجوع تبيح مال الغير بل تبيح قتاله وقتله ولاحد ولا قصاص.
إذا تقرر هذا تقرر بطلان قول العلامة: إن الفاروق رضي الله عنه أوقف حد السرقة عام الرمادة.
فحد السرقة عام الرمادة لم يوقفه إلا ضرورة الجوع التي لا تتم شروط القطع إلا بها.
فالفاروق رضي الله عنه خشي على الناس الموت جوعا حتى رأى أنه لا أحد أحق بماله من غيره ولذلك قال كما في شرح السنة:لقد
هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم ، فإن الرجل لا يهلك
على نصف بطنه فقد جاء في شرح السنة للإمام البغوي عند حديث " طعام الواحد يكفي الاثنين ، وطعام الاثنين يكفي الأربعة ، وطعام الأربعة يكفي الثمانية ":ما نصه: وحكى إسحاق بن راهويه ، عن جرير في تفسير هذا الحديث قال :
تأويله : شبع الواحد قوت الاثنين ، وشبع الاثنين قوت أربع.
قال عبد الله بن عروة : تفسير هذا ما قال عمر عام الرمادة : لقد
هممت أن أنزل على أهل كل بيت مثل عددهم ، فإن الرجل لا يهلك
على نصف بطنه. ([39]).
وقال الإمام البخاري في الأدب المفرد: حدثنا أصبغ قال أخبرني بن وهب قال أخبرني يونس عن بن شهاب أن سالما أخبره أن عبد الله بن عمر أخبره أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : عام الرمادة وكانت سنة شديدة ملمة بعد ما اجتهد عمر في إمداد الأعراب بالإبل والقمح والزيت من الأرياف كلها حتى بلَحت([40]) الأرياف كلها مما جهدها ذلك فقام عمر يدعو فقال اللهم اجعل رزقهم على رؤوس الجبال فاستجاب الله له وللمسلمين فقال حين نزل به الغيث الحمد لله فوالله لو أن الله لم يفرجها ما تركت أهل بيت من المسلمين لهم سعة إلا أدخلت معهم أعدادهم من الفقراء فلم يكن اثنان يهلكان من الطعام على ما يقيم واحدا([41])
قال الشيخ الألباني : صحيح.([42])
فتأمل ذلك ولا يحتاج إلى تأمل والخلاصة أن الفاروق رضي الله عنه لم يوقف حد السرقة عام الرمادة، وإنما فهم من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن من شروط القطع أن لا تكون هناك ضرورة، والله تعالى هو الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
([1]) - التقرير والتحبير في علم الأصول شرح ابن أمير الحاج على تحرير ابن الهمام في علم الاصول الجامع بين اصطلاحي الحنفية و الشافعية المؤلف : ابن أمير الحاج ، محمد بن محمد (المتوفى : 879هـ) الناشر : دار الفكر سنة النشر : 1417هـ - 1996م. مكان النشر : بيروت عدد الأجزاء : 3- ج: 2 ص: 355- 356ز
([2]) - تفسير الطبري وهو : جامع البيان في تفسير القرآن للطبري
المؤلف : أبو جعفر محمد بن جرير الطبري وبهامشه تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين القمعي النيسابوري طبعة دار الفكر- بيروت – 1398ه -1978م المجلدالسادس – الجزء العاشر ص 113.
ج: 11، ص:522
([3]) - أي المجيزون.
([4]) - أي نسخ القرآن بالإجماع.
([5]) - قاله لما قال له ابن عباس كيف تحجب الأم بالأخوين وقد قال تعالى: { فإن كان له إخوة فلأمه السدس } والأخوان ليسا إخوة. من شرح ابن أمير الحاج على تحرير ابن الهمام.
([6]) - التقرير والتحبير الطبعة السابقة- ج: 3 من ص 89 إلى ص 91.
([7]) - الذي في الأصل "الحد" بالحاء المهملة أي حد القصاص، ولا يبعد عندي أن تكون تصحيف "الجد" بالجيم، والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
([8]) البداية والنهاية للإمام الحافظ أبي الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي المتوفى سنة: 774هـ اعتنى بهذه الطبعة ووثقها عبد الرحمن اللادقي – محمد غازي بيضون طبعة دار المعرفة – بيروت لبنان- المجلد الرابع- ص :456- 457-458-.
([9]) - إذا كان الضمير مبتدأ واختلف مرجعه وخبره فكان أحدهما مذكرا والآخر مؤنثا جاز مراعاة كل منهما والأولى مراعاة الخبر.
([10]) - أي أسرعت.
([11]) - كذا في الأصل. ولعل الصواب يُلَتُّ. والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
[12] كذا في الأصل ولا يبعد أن تكون تصحيف [ يغشى] والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
([13]) ( شَمَرَ ) يَشْمُرَ شَمْراً ، ( وشَمَّرَ ) تَشْمِيراً ، ( وانْشَمَرَ وتَشَمَّر ) ، ( مَرَّ جَادّاً ) . تاج العروس من جواهر القاموس.
([14]) - : البداية والنهاية المؤلف : أبو الفداء إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي (المتوفى : 774هـ) حققه ودقق اصوله وعلق حواشيه : علي شيري الناشر : دار إحياء التراث العربي الطبعة : طبعة جديدة محققة / الطبعة الاولى 1408 هـ - 1988 م ج: 7 ص: 104- 105
([15]) - الجامع لأحكام القرآن لأبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي – طبعة دار الكتب العلمية – الطبعة الأولى 1408ه -1988م – ج: 2 –ص: 151.
([16]) - القوانين الفقهية / لابن جزى - طبعة جديدة منقحة - طبعة دار الفكر- (بدون تأريخ) – ص: 308.
([17]) - حاشية العدوي على شرح أبي الحسن لرسالة ابن أبي زيد وهي حاشية العلامة المحقق الشيخ علي الصعيدي العدوي على شرح الإمام أبي الحسن المسمى (كفاية الطالب الرباني لرسالة ابن أبي زيد القيرواني) في مذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه – طبعة دار الفكر (بدون تأريخ) - المجلد الثاني – ص: 305.
([18]) - النتف في الفتاوى تأليف شيخ الإسلام قاضي القضاة أبي الحسن علي بن الحسين بن محمد السغدي المتوفى461 - المحقق محمد نبيل البحصلي - الناشر دار الكتب العلمية، بيروت – لبنان - الطبعة الأولى 1417هـ - 1996م - ص 401 عدد الأجزاء 1.
ا
([19]) - كذا في الأصل ولعل الصواب [ظاهرة وهي]
([20]): 7، شرح فتح القدير تأليف الإمام كمال الدين محمد بن عبد لواحد السيواسي ثم السكندري المعروف بابن الهمام الحنفي، المتوفى 681هـ
على الهداية : شرح بداية المبتدي تأليف شيخ الإسلام برهان الدين علي بن أبي بكر المرغيناني المتوفى سنة 593هـ ومعه 1- شرح العناية على الهداية للإمام أكمل الدين محمد بن محمود البابرتي المتوفى 786هـ وحاشية المحقق سعد الله بن عيسى المفتي الشهير بسعدي جلبي وبسعدي أفندي المتوفى سنة 945هـ على شرح العناية المذكور وعلى الهداية.ويليه:تكملة شرح فتح القدير المسماة (نتائج الأفكار في كشف الرموز والأسرار) لشمس الدين أحمد المعروف بقاضي زاده، المتوفى 988هـ على الهداية شرح بداية المبتدي. ج: 5 – ص: 367 .
([21]) - الكافي في فقه الإمام المبجل أحمد بن حنبل تأليف شيخ الإسلام أبي محمد موفق الدين عبد الله بن قدامة المقدسي - ج:4- ص: 71.
([22]) - الذي في الأصل : [لا تقطع].
([23]) - الذي في الأصل :[ففيه]
([24]) - كذا في الأصل ولعله يعني بمن فضل عنه ربه لأنه لولم يفضل عنه أصلا قدم فيه فلايحل أخذه والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
([25]) - الذي في الأصل:[قوته]
([26]) -كذا في الأصل.
([27]) - الذي في الأصل: [فرضا]
([28]) - : المحلى المؤلف : أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي القرطبي الظاهري (المتوفى : 456هـ) الناشر : دار الفكر (بدون تأريخ) - المجلد 8 - ص 343.
([29]) - الجامع لأحكام القرآن الطبعة السابقة – ج:2 – ص :152.
([30]) - يشير بها للخطيب الحافظ أحمد بن علي بن ثابت أبو بكر البغدادي الفقيه الشافعي أحد الأعلام الحفاظ ، ومهرة الحديث.
([31]) -: التيسير بشرح الجامع الصغير – الطبعة السابقة - ج2 – ص:502.
([32]) - التاج والإكليل لمختصر خليل، لأبي عبد الله محمد بن يوسف بن أبي القاسم العبدري الشهير بالمواق والمتوفى في رجب سنة 897هـ الطبعة الثانية 1398هـ - 1978م الجزء الثالث – ص:234.
([33]) - حاشية العدوي على الخرشي طبعة دارالفكر (بدون تأريخ)– ج: 3 -30
([34]) - منح الجليل شرح على مختصر سيدي خليل للشيخ محمد عليش دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – الجزء الثاني - ص:459.
([35]) - الخرشي على مختصرسيدي خليل لأبي عبد الله محمد بن عبد الله بن علي الخرشي المالكي (1010- 1101هـ =1602-1689م) وبهامشه حاشية الشيخ علي العدوي وهو علي بن أحمد الصعيدي العدوي المالكي – طبعة دار الفكر – المجلد الثاني – الجزء الثالث – ص:30.
([36]) - ميسر الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل للعلامة محنض بابه بن اعبيد الديماني الموريتاني المالكي 1185-1277هـ صححه وراجعه بإشراف الناشر العلامة أحمدُّ بن التاه بن حمينّ وضع الفهارس العلامة: محمد عبد الله بن اشّبِيهْ ابن ابُّوه – قدم له حفيده العلامة: محنض بابه بن امَّيْنْ ابن محنض بابه - دار الرضوان للنشر لصاحبها: أحمد سالك بن محمد الامين ابن ابُّوه - الطبعة الأولى 1424هـ/2003. ج :2 ص: 24.
([37]) - مواهب الجليل في شرح مختصر الشيخ خليل تأليف أبي عبد الله محمد بن محمد بن عبد الرحمن المالكي المغربي الشهير بالحطاب 902هـ-954هـ الناشر دار الرضوان لصاحبها أحمد سالك بن محمد الامين بن ابوه انواكشوط موريتانيا – المجلد الرابع – ص: 28. وطبعة دار الفكر – المجلد الثالث – ص:234.
([38]) - منح الجليل شرح على مختصر سيدي خليل للشيخ محمد عليش دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع – الجزء الثاني - ص:459.
([39]) - : شرح السنة ـ تأليف الإمام الحافظ شيخ الإسلام الحسين بن مسعود أبي محمد الفاراء البغوي تحقيق وتعليق هاني الحاج الناشر دار التوفيقية للتراث – القاهرة – ج:6 – ص:79.
([40]) - بَلَحَ عليَّ وبَلَّحَ : أَي لمْ أَجِدْ عنده شيئاً . وفي ( التهذيب ) : بَلَحَ ما عَلى غَرِيمي : إِذ لم يكن عنده شيْءٌ وبَلَحَ الغَريمُ : إِذا أَفلَس . تاج العروس من جواهر القاموس.
([41]) - الأدب المفرد لأمير المؤمنين في الحديث الإمام الحافظ محمد بن إسماعيل البخار (194ه – 256ه ) تحقيق سمير بن أمين الزهري – مكتبة المعارف للنشر والتوزيع لصاحبها سعد بن عبد الرحمن الراشد – الرياض الطبعة الأولى 1419ه – 1998م – ج:1 - ص: 289- 290
([42]) - [ الأدب المفرد - البخاري ] الكتاب : الأدب المفرد المؤلف : محمد بن إسماعيل أبو عبدالله البخاري الجعفي الناشر : دار البشائر الإسلامية – بيروت الطبعة الثالثة ، 1409 – 1989 تحقيق : محمد فؤاد عبدالباقي عدد الأجزاء : 1 الأحاديث مذيلة بأحكام الألباني عليها - ص: 198.