عرفتها قبل ثلاثة أشهر فقط، لكنها تركت في نفسي عظيم الأثر، وصرت كأني أعرفها منذ سنوات، ووددت لو أن الله مد في عمرها حتى أتعرف عليها أكثر في هذه الدنيا، ويبدو أنها -حسب ما أخبرت به- كانت كذلك معي، تسأل عني وتفرح بمجيئي وترتاح به، وتدعو لي بالغيب والشهادة، والأرواح جنود مجندة.
زرتها أول مرة بالمستشفى، وقد تأكدتْ أن السرطان اللعين اجتاح بدنها، فرأيت جسما يذبل وروحا تتألق، كأن روحها تصِحُّ وتقوى كلما مرض جسمها وازداد وهنا، خرجت من عندها مملتئا بالرضى والأمل، أنا الذي كنت زرتها كي أهوِّن عليها، أصبحتُ موضوع الوعظ والمواساة، أما هي فكانت تتحدث معي كما لو أن المريض غيرها.
كلماتها الواثقة، مزاحها الوقور، صوت ضحكتها الذي لا يحمل أي إحساس بالمرض أو الجزع، أعرف جيدا صوت الضحكة التي يتكلفها صاحبها، لكن وراءها أسى وحزنا، أما مريم فقد كان صوت ضحكتها يوحي بسعادتها الداخلية، خرجت من عندها مفعما بمشاعر عجيبة، اتصلت بأخي وأخيها محمد الأمين البان، لأبثه تلك المشاعر التي غلبت علي، أخبرته عنها، وعن إعجابي بما لها من إيمان وقوة نفس. أحسست أنه لم يتفاجأ بما قلت، قال لي بهدوء لا يناسب انفعالي بما رأيت: "مريم امرأة صالحة، هذا قليل من وصفها".
أختنا مريم محمد الحاج رحمها الله، بنت قرية الخير والدعوة والمجد بوخزامة،الداعية التي منذ أقبلت لم تدبر، ومنذ عزمت لم تنتقض لها عزمة في سبيل الدعوة والخيرحدثني أحد أقاربها بعد وفاتها فقال: عرفت مريم بين الناس بمواصلة الجد ودأب فعل الخير، تقدم درسا أو تحضر أخرى أو تعود مريضا، وكثيرا ما تذهب إلى بعض الأحياء المجاورة من المجتمعات الهشة فتعلمهم وترشدهم وتعطيهم وتواسيهم، حين أكمل حديثه تذكرت قول ابن الجوزي في التبصرة: "للنفوس الخيِّرة علامات: الجد في الغالب، والحذر من الزلل، والاحتقار للعمل، والقلق من خوف السابقة، والجزع من حذر الخاتم"، وقد كانت مريم كذلك.
وقد كان لها منهج غريب في الانتماء لهذه الدعوة، كانت تحمل هم الدعاء للدعاة ولأبنائهم، فكانت ربما قامت ليلة كاملة تذكر كل داعية باسمه، وتدعو له، وتقسم على الله أن يصلح ابناء الدعاة، الذين شغلهم تعليم الناس الخير والعمل لهذا الدين عن التفرغ لتربية الأبناء، وهذا باب من الخير كبير، لا يتفطن له إلا المخلصون.
زرتها بعد ذلك مرات وقد بدأت صحتها تتدهور أكثر، زرتها مساء يوم عرفة، قبل وفاتها بيوم واحد، كانت متعبة، لا تتنفس إلا بجهاز، كان وعيها حاضرا، حين لمحتني ردت علي السلام، مريم كيف حالك؟، قالت -وكأنها تريد أن تخفف عني وقع ما أرى من حالتها المتدهورة-: ما شالله، كنت مرتاحة قبل قليل، لكن الآن طرأ ما ترى، كنت أعرف أن ذلك مجرد ادعاء حتى لا تثقل علي، ولكنها لم تنس جبر خاطري ولو بكلمة أعرف أنها ليست صحيحة.
في أيامها الأخيرة -رغم اشتداد المرض والألم- كانت تمازح أختها فتقول: وجدتِني سأذهب إلى رحمة ربي، ولكنك –يا فاطْمَه- حبستني عنها بأدعيتك وتضرعك لي بالشفاء، تقول هذا بكل أريحية، كما تقول لها بأريحية وطيب نفس: إن هذا مرض موتي، فاتركوني أدعو ربي وأسأله المغفرة، كانت موقنة بأنها في طريقها إلى الموت، لكنها كانت تستقبلها بنفس مطمئنة وروح مشرقة.
لم أندم في حياتي على شيء مثل ندمي على عدم حضور لحظاتها الأخيرة، فقد كنت معها قبل ثلاث ساعات من وفاتها، للأسف كانت غائبة عن الوعي فم أستطع تكليمها، كان لدي إحساس بأنها النهاية، ولكنني لم أستطع البقاء حتى لا أشعر أخواتها المرافقات بإحساسي، أخبرنني أنها بعد ذهابي من عندها استفاقت، وبدأت تقرأ القرآن، وشعرت براحة وقوة، وكان آخر ما رتلت قوله تعالى: "يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي"، ثم نطقت الشهادتين في فصاحة ووضوح، وصعدت روحها الطاهرة.
رحم الله مريم محمد الحاج رحمة واسعة، واسكنها فسيح الجنان، وأعقبها في أهلها وولدها بخير، وجمعنا بها في مستقر رحمته، اللهم إنا قد أحببنا مريما فيك، فلم نرزق طول بقائها معنا في الدنيا، اللهم فلا تحرمنا من لقائها في مستقر رحمتك مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.