هو إبراهيم ولد محمد السالك ولد كاي لأمه حورية بنت الوريع هو (بري) أو (ابايه) ولد في فترة الاستعمار بعد الحرب العالمية الأولى سنة 1928 في آدرار في ظروف الصعوبة والشدة والجفاف الشهيرة التي تواترت لدى المؤرخين وسطرها المختار ولد داداه في مذكراته تربى في أسرة أصيلة ومحافظة ورافضة للاستعمار في وقت كانت فيه بعض الأسر مبايعة للاستعمار وكان بعض الأفراد أعوانه وقد روى لي قصة حدث له مع والده حيث مر عليهم أحد قيادات الاستعمار فقدم إليهم أحد أعوانه (كوميات) وكان يريد أن يتملق للمستعمر بأموالهم فأخذ أحد الأكباش وأخبر المستعمر أن والد بري أهداه له لكن والد بري رفع يده إلى الأعلى مبسوطة مشيرا إلى المستعمر ففهم المستعمر الرسالة وأعطاه خمس عملات ثمنا للكبش وخجل مساعد المستعمر كان والد بري من المقاومة وشارك في معركة أماطيل الشهيرة تربى في أجواء الأصالة والمحافظة والإباء والكرم والشجاعة والمروءة وقد عرف بالمكارم وبالبر وبالعمل وقد كان ينهانا عن الإكثار من الأصدقاء في طفولتنا كان يقول أن كثرة الأصحاب تفقر أو تحقر (كثرة لصحاب الا تفقر ولا تحكر) ومع ذلك كنت أزوره أحيان مع أحد أصدقائي وذات مساء كنت معه في مجلس الشاي وكان معي صديق لي فتناول ابايه موضوع الأصدقاء وتكلم عن صفات الصديق السيء والصديق الجيد وقال ما أذكر منه : خير الأصحاب من إذا ذكرت أعانك وإذا نسيت ذكرك وشر الأصحاب من إذا ذكر لا يعينك وإذا نسيت لا يذكرك وأضاف أن إحدى صفات الصديق الجيد بره لوالديه وروى لي قصة أويس القرني الذي له والدة هو بها بر وروى لي قصة أحد أصدقائه الذي كان خلوقا وبرا بوالدته وتوفيت بين يديه عند قدومه بعدما صافحته وقالت جاء الخير وذهب الشر كان يتحدث عن صديقه (الليله) محمد الأمين الشريف وقد أدركته وأنا في الثالثة أو الرابعة من عمري وقد صار كفيفا أذكر إكرامه لي عندما زرته وطرافته فقط رحب بي كثيرا وأعطاني بعض البسكويت وكانت هذه العادة مشتركة بينهما فلا يمكن أن تزور ابايه دون أن يقدم لك شيئا تمرا أو فاكهة أو طعاما أو شرابا ولا يمكن أن تصادف ابايه في السوق دون يقدم لك شيئا أو ما تذهب به إلى البيت لدرجة أن رائحة فاكهة المانجو ارتبطت به عندي كثيرا فقد كان ابايه كثير الرماد طويل اليدين كريما لبيبا عالما بمعادن الناس قدم لي تلك النصائح بأسلوب إرشادي وأضاف (انت ذا الي ياله تصحب عرفتو) لقد عرفت من عليك أن تصادق كان يربأ بنا عن التخاذل والتماوت والبرود وكان يقول أنه يفضل الرجل الذي يسرق على الرجل البارد (الراجل البيرد أخير منو الراجل الي يصرك) وكان يقص علينا قصة أحد القدماء الذي كان يركض بجانب الناقة وهي تجري ويقفز من جانبها إلى جانبها الآخر وكان يروي في الإطار المشترك بين البر والنشاط أنه ذات صباح وهو صغير كانوا في لكصير الذي يبعد عشرين كيلو متر عن المدينة (أطار) وكانت تنقص إحدى مكونات الشاي السكر أو النعنع وكان الشاي مهما عند والده فركض نحو المدينة وأحضره قبل أن يغلي الإبريق (البراد) كان رحيما بالصغار محبا لهم وكان يفرحهم كثيرا وكانت تضحكه كلماتهم ويرددها ويسأل عن ماذا قالو وماذا فعلوا.
توفي عن ابايه أبواه وهو في سن الشباب فبدأ في العمل في ريعان شبابه مكابدا الحياة كان أخوه الكبير من أوائل السائقين والناقلين في البلاد بدأ بري بالأعمال اليدوية فكان بناء وكان متقنا لعمله وقد عرفته مقدرا لقيمة الوقت ومحترما لمعايير الجودة في العمل فقد حكى لي عن أحد العمال الذي كان يبني إحدى المدارس وشحن إحدى جدران أحد الفصول بالإسمنت فأمره المشرف على العمل بتكسيره مخافة في حال انهياره أن يودي بحياة الأطفال قصة مفادها أن البناء هو التوازن بين الصلابة والجودة في التشييد بالتوازي مع عدم الإضرار عند الانهيار وهو ما ينطبق على أي عملية بناء كما أنه في أحد المرات كان المشغل يريد أن يحتال عليهم في مسألة وقت العمل فكان يقدم لهم الإكرام وأدوات الشاي عند نهاية وقت العمل لكن ذلك لم ينطلي عليهم فكانوا عندما ينتهي وقت العمل يضعون أدواتهم ويغادرون كما عمل في مجال جلب الحجارة التي كانت تستخدم في البناء وفي إحدى المرات كان أحد أثرياء المدينة وتأخر في دفع ثمن الحجارة فتوجه ابايه إليه بعدما انتهى من الغداء لكي يعتذر عن أي إكرام سيقدمه له ثم حياه وطالبه بأموال العمال كما ذكر لي ابايه أنه زاه مرة واحدة بعد ذلك ليعوده عند مرضه زيارة خفيفة وقد شارك ابايه في إعداد طريق الإمبراطورية1 ثم عمل بعد ذلك في مجال التجارة وكان يقول أن رأس المال لا يعطى ولا يقترض ولكنه يجمع (رأس المال ما ينعط رأس المال يحصل) فقد كان جمع رأس ماله من تجارة (الجير) أسس مع رفاقه شراكة تجارية عرفت ب(بريات) ولم يكن سهلا أن يكون المرء من بريات فقد كانوا يتسمون بالأمانة والصدق والشجاعة والقوة والمروءة والدين والأخلاق وإيفاء الكيل وعدم الغش وعدم الخداع وعدم التربح الكبير في الناس فقد كانوا يدرسون السوق وناظرين إلى ما ينقصه ثم يستوردونه ويوفرونه بأيسر الأثمان وأجود النوعيات صنعوا بذلك اسمهم وذاع بذلك صيتهم وبوركت تجارتهم وأقبلت الناس عليهم (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَٰبَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَٰرَةً لَّن تَبُور) فقد كان من بينهم صديقه محمد الأمين الشريف (الليله) وسيد أحمد ولد فكناش ومحمد السالك ولد سيد الأمين ومحمد المختار ولد ماصه وبراهيم ولد خليفة وسعيد ولد بنيكن وسيدي محمد ولد سعيد وسبرو وقد توفوا قبله جميعا إلا ولد فكناش وكان يقال أنهم لا ينخدعون في البيع (ما يمترطو) وتروى عنهم قصص كثيرة يقال أنهم ذات مرة قد أكلوا ذئبا في الفيافي وتروى عنهم طريقة أكلهم للشاة (شاة بريات) حيث يبدؤون في أكلها من فراسنها لأنهم إذا بدأوا بكبدها وطحالها وقلبها وكلاها (أفشاي) فل يأكلوا بقيتها.
لقد عرفت بري غير مادي وغير مبال بالمال وغير محب له كان يذهب إلى عمله حاملا المال في كيس صغير مربوط (زكيبة محزومة) وعند ذهابه إلى العاصمة كذلك لجلب البضائع واستيرادها.
كان يقول أن من استهزأ بالأوقية تستهزأ به (اللي ازهز بلوكيه تزهز بيه) فلم يكن ابايه يحب الفساد بأي أنواعه وكان يحثنا على الترشيد في كل شيء وقد روى لي قصة عالم سؤل عن رجل كان يتوضأ على البحر فقال العالم أأقطره؟ كما كان ينهانا عن كل ما شرد عن الدين والأصالة والأخلاق ويعالمنا دقائق الأمور فقد كان يأمرنا بالبسملة عند الطعام والأكل بأيماننا ومما يلينا وأن لا نخفض رؤوسنا وأن لا نتوكأ على شمائلنا وكان ينهانا عن فرقعة الأصابع معتبرا أنها فقط للفنانين الذين يرقصون بأصابعهم وكان ينهانا عن قول (الو) للرد على الهاتف ويقول (الو ماهي شي) الو رديئة ويأمرنا بقول نعم أو السلام عليكم في مسألة السلام عند القدوم فقد كان يأمرنا بها ويأمرنا أن نعنيها فكان يستحضر القصة الشهيرة (السلام فالكلب وايدك احكمها شورك) السلام في القلب واسحب يدك نحوك وقد كنا نبجله وننصت إلى كل ما يقول وكنا نحييه برؤوسنا وقد كان يكره التدخين وحلق اللحى وتسريحات الشعر الشاردة واللبس المارق على المألوف وفي إحدى المرات كنت مسافرا معه إلى أطار وكان لدي ما يشبه العرف ولست بذي عرف ولست بتارك طوال الدهر عرف الأوائل فقال لي: محمد الأمين ماذا تريد بالقفف في الصيف (محمد الأمين انت اشلك بلغفف فالصيف) وكانت تضحكه بعض استدلالاتي ويتفهمها ففي مسألة اللحية كنت أناور أنه في بعض الأحيان يقتضي الحفاظ على الواجب ترك بعض السنن وكان النابلسي يرى نفس الرؤية فعلى سبيل المثال ترك البنا سنة الإقامة من أجل واجب توحيد المسلمين كما كنت أستدل بالآية (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا) كما كان ينتقد موضة سراويل المراهقين ويحكي طلعة في ذلك
وفي إحدى المرات سألني عن التقويم وكم اليوم في الشهر فأجبته مدققا (شهر النصار) شهر النصارى كما اعتدت السماع فأجابني (النصار بلا شهر) النصارى ليس لهم شهر ثم قال لي هناك الشهر القمري والشهر العجمي.
وكان يحكي لنا عن شاب ألهاه التأنق وما يلهي الشباب عن العمل في الواحة (الزريبة) وكانت لدى الموريتانيين آن ذاك موضة القفف وكان الشاب داهنا قفته ومطيبها وكانت تعتبر أناقة في ذلك الزمن فغضب منه والده بسب إهمال (الزريبة) فذهب إليه وسحبه وملأ قفته من التراب ووبه كثيرا لكن الشاب لم يحرك ساكنا ولم يغضب ولم ينفعل لشدة بره ثم أمره بالتوجه إلى (الزريبة) ففعل الشاب وأدى العمل وعند عودته قال له والده هي لك.
ويروي قصة رجل بر آخر استدعوه للتحقق من والده بعدما ذهب به السيل فلم يعرفه إلى من خلال ساقيه لأنه لا يعرف وجهه فلم يكن يرفع رأسه ولا يرفع عينيه للنظر إليه لشدة بره.
وكان ينتقد عادة الترف والترفه ففي مرة عندما قدمت من انواذيبو اخبرني أن المستعمرين كانت تذهب نساءهم إلى انواذيبو في الصيف ويبقى الرجال في أطار يلبسون سراويل قصيرة في أوج الصيف لما في حر أطار من صحة للرجال كما كان ينهانا عن إجهاد أنفسنا في الأمور الغير أساسية ففي أحد أصياف كنوال كنت على سطح المنزل أضبط صحن التلفاز في الزوال والحر الشديد بعدما طلبتني إحدى خالاتي ابنته فقال لي: محمد الأمين انزل إلى هنا البشر أهم من التلفاز (محمد الأمين كظ إيلاه التلفزه أهم منها ارواكيج) فقد علمنا أن التعب يزول بالتعب (بط التعب بالتعب يوغد التعب) اضرب التعب بالتعب يختفي التعب ومع ذلك كما كان لا يحب الفساد كان يعلمنا قيمة الإنسان وأهمية عدم هدر الطاقات وكان يعلمنا عدم الارتهان إلى الأشياء كان يقوم لنا صلاتنا وينهانا عن الركوع دون الإحرام إذا كان الإمام راكعا وعدم الجهر بتكبيرة الركوع لقد عرفت ابايه متدينا كان موفر اللحية عرفته محافظا على الأوقات والحقوق كثير الذكر وكان يقول في مسألة الوقت أن الموريتانيين جميعا سيبعثون وفي أعناقهم المغرب (الموريتانيين كاملين دور ينبعثو يسالهم المغرب) لأن المساجد اعتادت تبييض الفجر وتسويد المغرب فقد يضر تبيض الفجر بالوقت لكن تسويد المغرب يضيع وقته لقد عرفته محافظا على الأوقات محافظا على الوضوء دائما عليه دائما على الصلاة في وقتها وغالبا ما ترها يشفع ويوتر وقد تستيقظ فإذا بابايه يصلي من الليل كان كثير التهليل كثير الاستغفار كثير الذكر كان يقول بعد الصلاة أدعية أذكر منها :
يا عالما بأنني لست أطيق * رد البلاء ربي والني الرفيق
ولتكرمني بالذي بي يليق * ولا تحملني ما لست أطيق
ربي ارحمن وارحمن والدي * كما هما ربياني صبي
وارحم نسائي وارحمن لي البني * دهر الممات وفي دهرهما حي
يا ربي بالمصطفى بلغ مقاصدنا * واغفر لنا ما مضى يا واسع الكرم
كان بري يقول عند سماع الأذان : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه المقام المحمود الذي وعدته إنك لا تخلف الميعاد
كان ابايه متأثرا بعبد الحميد كشك ومحمد محمود الصواف ويوسف القرضاوي ومحمد ولد الطلبة وولد المحمدي وبداه ولد البصيري ومحمد سالم ولد عدود جالس محمد عبد الرحمن ولد فتى ومحمد الحسن ولد الددو وغيرهم من علماء الدعوة وقد ساهم في نشر العلم وتبليغ الدعوة وقد درس على صديقيه محمد عثمان بن محيي الدين ومحمد لحبيب ولد هيين ودرس عليهم أبناءه وأبناء إخوته كان محبا لأهل الخير والعلم ثم معينا ومستمعا ثم متعلما وعالما.
كان ابايه في شبابه مناضلا ورافضا للاستعمار ومقاوما له وقد سجن على خلفية أحداث تكل الشهيرة عرف بمقاومة الاستعمار وبالنضال من أجل الوطن قبل الاستقلال وبعده وقد كان مناصرا لإعادة توحيد الوطن كما عنونها المختار ولد داداه في مذكراته وكانت له (طلعة) قصيدة في قضية الصحراء كانت تبث في الإذاعة الوطنية يقول فيها :
الصحره صحرة موريتان * سياني نزلات وفركان
معاه وسياني لسان * وسيان سمع وسمعها
سياني واراغ الخذلان * منو يكان يجزعها
مفتخره تنضم لوطان * وموريتان مشجعها
والثاني كاع الا جيران * ولي كيفو ما يطمعها
كان ابايه أديبا كبيرا يعرف الشعر الحساني (لغن) ويتقنه وقد كان يحب الشعر العربي كذلك وكان يحب أن يحكى عليه ففي مرة من المرات كنت أقلب التلفاز بجانبه فمررت ببرنامج من الأدب الشعبي وتابعته جزءا منه فأخبرني بري عن تاريخ الأدب وكيف كانوا يحضرون مجلس الأدب وهم شباب حيث لم يكونوا يجلسون بجانب الفنانة ولا يتقابلون معها ولكناها كانت تكون متوارية عنهم وراء حجاب بحيث لا يرونها وقد أخبرني عن أسس الأدب الثلاثة وهي (المعن) و(الموجب) و(الوزن) المعنى والسياق والعروض فأي إخلال بأحد العناصر يخل بالأدب وهي تنطبق على كل شيء فاحترام الشكل العام لأي فن وأدب يعد أحد أسسه والإخلال بالمعنى والسياق يضر بأي عمل فالأدب الحقيقي يحافظ على هذه العناصر ويوازن بينها ومن أدبه ترجمته للأبيات :
ثمانية تجري على المرء دائما * فلابد للمرء أن يلقى الثمانيه
سرور وحزن واجتماع وفرقة * ويسر وعسر وسقم وعافيه
سرور وحزن الدهر يدور* بيهم ول ذا لمذكور
لجتماع فوقت مجبور * ويجي فراق وكيفيه
والعسر ال جاك امحظور * واليسر بفرح والنيه
أوقات المرض زاد غرور * سابك تجبرلو عافيه
قدم شي لاخرتك جنسك * ما تخطيه الثمانيه
وارع تم وحاسب نفسك * ذي الدنيه ماه رسميه
كان ابايه كريما حسن الجوار مكرما جيرانه محسنا إليهم يمنحهم ويسأل عن حالهم وقد عرفت جيرانه يقولون إذا ذبح آل كاي فقد سهمنا وكان يقري ضيوفه ويكرمهم ويحسن إليهم ويحدثهم ويفاكههم كان يصل الأرحام ويعود المرضى كان في شبابه فتى الفتيان كان يزرع أرضه ويذبح ذبيحته وكان في شبابه يعد الشاي بنفسه ولضيوفه ويخدمهم وقد عرفته جادا صارما حازما عازما كان مقدرا للوقت وكان منظما فقد كان برنامجه اليومي تضبه الأوقات المكتوبة ثم عقارب الساعة فقد كان يذهب إلى عمله في السابعة ويعود الواحدة ثم يذهب مساء في الثالثة أو الرابعة ويعود قبل المغرب كانت جلسات الشاي تتخلل يومه فقد كان يشربه من ثلاث إلى خمس مرات صباحا وضحى وعند المقيل وعصرا وبين المغرب والعشاء وقد أعددت له الشاي مرات وفي أغلب الأوقات ولكن كنت دائما ما أعد له الشاي بين المغرب والعشاء وكان يستدعيني أحيانا وكان لبري شاي خاص وأصيل فكان يعد بإبريق واحد بدل شاي الإبريقين الذي اعتادت عليه الأجيال الجديدة كما كان لا يحب الرغوة المصطنعة التي تعد بين الكؤوس كما لا يحب الرغوة المصطنعة في كل الأمور والمبالغة فيها ونفخها وكان يحضر أجود عينات ورق الشاي وكان يقول أنهم قديما كانوا عند ما يقال أن أهل فلان يعدون الشاي بورق معين فإن الجميع يفعل المثل وفي البداية وجدت صعوبة في إعداده لكن إعدادي له علمني أن إعداد الشاي يعكس سلوك الإنسان ويفضح شخصيته ففي مرة لاحظ أنني أسرف في غسل الكؤوس بالماء فقال لي أن النصارى يستحمون خمس مرات في اليوم ونبهني بعد ذلك أو قبله أن لا أسرف في غسل الكؤوس بالماء كما علمني أن لا أضيف الكثير من السكر في الكأسين الثاني والثالث لأنه عند إضافة السكر للمرة الأولى يكون الورق قد احتفظ بالسكر وعلمني ألا أكثر من صب الشاي وإعادته حتى لا يبرد فهي عملية تتطلب بعض التقدير والموازنة بين العناصر والسرعة في وقت معين كما كان يقول أن النعنع يحرقه بخار الشاي ولا يحرقه مائه فيجب إنزاله وإغراقه بالشاي كما علمني ألا أضيف ورق الشاي عند الشعور برقة الشاي (التلقام) عند الإبريق الثالث وإنما يجب إضافته قبل إضافة السكر للإبريق الأوسط كان يقول أن الهدوء لا بد منه لشارب الشاي ولمعده وكان يقو أنه قديم كان إذا رفع أحدهم صوته من بعيد أثناء الشاي كانوا يقولون (أراهو ذا لاهي يطير لنا أتاي) إنه سيحملنا على أن نترك الشاي كان يستحضر أبيات قيلت في الشاي عندما لا يكون كالمطلوب :
إذا لم نجد غير النميلة مشربا * شربناها ولم نسمع مقالة ذي عذل
وإذا حضر المفتول قلنا لنملة * مقالتها للنمل في سورة النمل
وكان المفتول أجود أنواع الشاي وكانت النميلة نوعية غير محببة وكان يروي قصة رجل كان فطنا ولا يمكن أن تضيف شيئا للشاي دون أن يعرف فأراد أحدهم أن يختبر ذلك فأخذ حبة من الشعير ولم يضعها في إبريق الشاي (الشاي) بل وضعها في ابريق الماء (المغرج) وسخنها مع الماء وأعد به الشاي دون أن يراه وسأل الرجل (ايو شماسي ذا الكاس) كيف وجدت الشاي فأجاب الرجل (زين الا لكان سلك من ذي حبة الشعير يعود ما خاسر عيه شي) كان سيكون أجمل بدون حبة الشعير.
وفي أول تعلمي له كنت حريصا على إعداده لكي أتعلمه ولم أكن أحسنه فكان بري يمازحني عندما أقول أنني سأعد الشاي كان يقول لي (أيو تعش تعش) تعشى أولا تعشى وعندما صرت أتقنه كان يقول لي (هذا ما خاسر عليه شي) أو لا بأس به وأذكر أول مرة قال لي فيها (هاذ كاس زين) إنه كأس جيد فكانت وسام شرف بالنسبة لي وكان بري يتحف مجالسه بالأدب وبالفكاهة فقد قص علينا أن أحد الأوائل أتته (الصرب) قوافل الترضية وهي عادة كانت في المجتمع القديم وكان من بينهم من لم يرض عنه فقال :
ما عادو اكداد * صرب الدشرة
فيهم لجواد * وتيرس لخره
وفي مرة كنت أتعشى معه وكان بري لا يحب أن يأكل بمفرده وكان يقول أنه عندما يكون يأكل طعما ويأتيه طعام أفضل منه لا ينتقل إليه وكان ينهانا عن الأكل من إناءين وكان يقول لي أن كل أنواع الخضروات رغم فوائدها فلها أمراضها التي تجلبها ما عدى البصل الذي هو أكثر الخضروات صحة وكان يعلمني أن أنزل الكسكس الذي يصعد مع الطبق المجوف (الطبسيل) وكان يعلمني طريقة تغطية (الطبسيل) فعندما يكون فارغا يوضع الطبق عليه بشكل طبيعي وعندما يكون فيه شيء يوضع الطبق عليه بالمقلوب بحيث يكون شبه منفوخا وقد حكى لي أثناء الأكل قصة رجل كان يأكل مع أكيل له فقال له أكيله : (آن لكمتي الا تطيح) إن لقمتي تسقط كثيرا فأجابه : (صالبها تبلز فيها عينيك وتحل لها فمك) طبيعي أن تسقط فأنت تحدق فيها بعينيك وتفتح لها فمك.
روالي كذلك قصة رجل أتى (فريك) أو قرية فوجد خادمة سألها من هي تلك الأسرة فقالت أهل الشيخ فلان ومن أولئك فأجابت أهل الشيخ فلان الفلوني ومن أولئك فقالت أهل الشيخ فلان ابن الشيخ فلان ومن أولئك فقالت أهل الشيخ فلان ابن الشيخ فلان الفلوني فقال لها قومي يا شيخة الخدم أعطيني شيخ العيدان ذلك لأوقد منه شيخ العظام هذا (كومي يشيخت لخدم عطين ذوك شيخ العودان نثكب بيه ذا شيخ لعظام).
كان يعجبه أن يكون الشخص (ما يوكل بيدين ماهم أيديه) لا يطعم بيدين غير يديه وهي كناية عن المبادرة والأخذ بزمام الأمور وعدم ترك القرارات الشخصية للغير.
كان يمازح جلساءه ويلاطفهم وفي مرة كان يأكل مع صديقه (الليله) بعدما صار الليله كفيفا فكان يمازحه بري ويضع العظام في ما يلي الليله من الطعام.
كان يروي قصة اثنين من قدماء أطار حيث كان أحدهما يقال له (لكراره) وهو يكرهها وتغضبه وهي مكان يشبه والوادي يأتي منه السيل (البطحة) وتتم زراعته واعتاد أهل أطار قول اسم السيل فيقولون تيارت والطواز ولكراره وكان الثاني يقال له (الجرة) وكانت تغضبه ويكرهها فوجد صاحبه على السد (الربط) يشاهد السيل فسأله (لكراره جات كالو ال جابت جره) هال جاءت لكراره فأجابه لقد جرت جرة.
لقد عرفته مؤمنا ذا يقين قنوعا راضيا صبرا محتسبا فقد زرته عند وفاة ابنته خالتي السالمة وقد كان شيخا يعالج الكبر فقد كان صابرا وأنشد أبياتا لعنترة بن شداد :
إذا كشف الزمان لك القناعا * ومد إليك صرف الدهر باعا
فلا تخش المنية والقينها * ودافع ما استطعت لها دفاعا
ولا تختر فراشا من حرير * ولا تبك المنازل والبقاعا
وحولك نسوة يندبن حزنا * ويهتكن البراقع واللفاعا
يقول لك الطبيب دواك عندي * إذا ما جس كفك والذراعا
ولو علم الطبيب دواء داء * يرد الموت ما قاسى النزاعا
وعندما كانت الأمور لا تسير على ما يرام وعندما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن تجد ابايه صابرا راضيا كان يقول الدنيا طبيعتها النفشه وعند تركي للجامعة وبعدما ظن أني ربما تم استهدافي وبعد التضييق على الإسلامين والإخوان وحصار قطر ودخول العالم مرحلة التفاهة التي كانت تجوب الإعلام كان يقول لي أن عبد الحميد كشك كان يقول : إن الله قد أنعم علي بالعمى لكي لا أرى وجوه الظالمين ثم قال لي ذات مرة : التلفاز حرام كرة القدم حرام كل شيء حرام إلا الجزيرة يقصد قناة الجزيرة وقد أفادتني كثيرا وشكلت وعيي ورتبت أولوياتي وأثرت لغتي كثيرا.
سياسيا فبالإضافة إلى نضال بري ضد الاستعمار وتبنيه لمواقف المختار وفي قضية الصحراء وقف ابايه إلى جانب الإسلاميين كذلك وقوفا مشرفا في الثمانينات والتسعينات وآواهم ونصرهم وحماهم وكان سندا لهم ضد حملات التضيق والاستهداف والتشويه والاعتقالات. كان ابايه يقول لي أن السياسة في موريتانيا ظلم ونفاق فالسياسي الموريتاني يظلم من هو أضعف منه وينافق لمن هو أقوى منه.
كان ابايه متعلقا بالمقاومة وبفلسطين كان واعيا وعيا شديدا بالعالم وبما يدور فيه من أحداث كان يتابع قناة الجزيرة في التلفزيون وفي المذياع وكان يدعو لأجل المقاومة ويدعو على الصهاينة وأعوانهم وكنت أدعو الله كثيرا أن يدرك تحرير فلسطين لشدة تعلقه بها ولكنه ولله الحمد أدرك طوفان الأقصى وأدرك بداية التحرير.
لقد كان في طفولته فطن الولدان ومميز الغلمان وفي شبابه خير الشبان وفتى الفتيان ثم كان بعد ذلك سيد الرجال وشيخ الشيوخ لقد كان علما علما وأديبا أديبا وعالما عالما لقد كان يعرف الكثير ويعرف ما يقول ويعمل بما يعرف ويفعل ما يقول كان شهاما كريما عالي الهمة محبا لمعالي الأمور كان مربط المكارم ومرتع القيم ومزدحم الفواضل يكفي للمرء أن يكون شهما أن يعرف ابايه أو أن يكون على صلة به.
مال المراثي فيك حائرة * تخاف ألا توفيك ما يجب
خصال أولياء الله قد ثبتت * فيك وفيك العلم والأدب
أنت الأمير العلي منزلة * أنت الثريا دونها الرتب
أنت الجواد المكرم الذي * يعطي لمن عفوا يعطي لمن طلبوا
بلاد شنقيط عليك قد ندبت * وبكى أطار والوديان تنتحب
ودمع الشمال قد بات منهمرا * على رحيلك فالأخيار قد ذهبوا
مرثيات إماجرن * ولماره وردت فيك
وماير لوليا فطن * ولعلمه ما تخطيك
فيك العلم ولمروه * والشهامة ولفتوه
ولجود ملي ذاكوه * ماه كابل يرخيك
وموريتان الا يروه * بدموع عل مشيك
والشمال بك يتلوه * وأطار الا يبكيك
جزاه الله عنا خيرا وبخير ما يجازي به عباده ورحمه برحمته الواسعة وأسكنه فسيح جناته وجعله في الدرجات العلى والفردوس الأعلى من الجنة وجعله من الذين قال فيهم (إِنَّ ٱلَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسْتَقَٰمُواْ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ ٱلْمَلَٰٓئِكَةُ أَلَّا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بِٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِى كُنتُمْ تُوعَدُونَ).