
كان الليل قد أرخى سدوله وآوت العاصمة نواكشوط بكل صخبها وضجيجها لمضجعها بعد يوم متعب طويل اصطف فيه ساكنتها أمام مراكز الاقتراع لتقرير من سيكون ساكن القصر الرمادي في السنوات الخمس القادمة .
كانت عقارب الساعة تزحف ببطء وروية نحو الثانية والنصف فجرا فيما كانت غرفة العمليات الانتخابية لتواصل في ذروة عملها ونشاطها كأن لم تنتبه بعد للساعات التي مضت مذ توقف الاقتراع وبدأت نتائج الفرز تصل تباعا.
بدا المدير العمدة شعيب منهمكا في الرد على اتصالات لبعض علية القوم وردت للتو، كان من المتصلين مترشح من مترشحي الرآسة يسأل عن مآلات الأمور وعن نتائجه، فيما كان مدير حملة مترشح آخر يسأل بلطف إن كان بالإمكان تزويده ببعض النتائج المتعلقة بنقاط محددة على جناح السرعة ، فيما كان "ول عابدين " يجوب الممر الطويل الفاصل بين القاعة الشمالية والمكاتب في الجهة الأخرى ليتوقف بجانب كبير المهندسين الذي تسمرت عيناه على شاشة كبيرة مثبتة أمامه تجبى إليها ثمرات إدخال عشرات المهندسين المنتظمين في صفوف مرصوصة أمام الأجهزة ويصلها خراج عملهم المنتظم الدؤوب ...
من أقصى القاعة جاء صوت أنين مكبوت مكتوم ... كان أحد المهندسين الشباب يدخل نتيجة أحد المكاتب النائية التي لم نتجاوز فيها أصوات تواصل الصوتين أو الثلاث، فيما دب النشاط والحيوية في الركن الآخر من القاعة حيث كان مهندس آخر يدخل بعض النتائج الواصلة للتو من مدينة الطينطان ويقول في ثقة : أيو الحمد لله ..
.
مرر "ول عابدين " سبّابته على هاتفه النقال أكثر من مرة وهو يلقي عليه نظرة يتبعها بنظرة أخرى للشاشة المثبتة أمام كبير المهندسين وهو يقول في ثقة ...لَباسْ .. لباسْ .. لا زلنا متقدمين على سيني بتسعة عشر مكتبا وقرابة الأربعة آلاف صوت ...
قلت استثيره : فقط تسعة عشر مكتبا ؟ هذ قليل .. !
تبسم ضاحكا من قولي وقال في ثقة وفخر : هذه دولة كاملة ، تمتلك كل الوسائل والإمكانيات ونحن لا نمتلك سوى هؤلاء الشباب المتطوعين ... أحسست أنا الآخر بذات شعور الفخر والاعتزاز يتسلل إلي ويسري قشعريرة لذيذة في جسمي وأنا أمعن النظر في تلك الصفوف المنتظمة من الشباب العاكفين على لوحات المفاتيح كأنما شدت أناملهم إليها بوثاق متين وكأنما على رؤوسهم الطير...
لن يتقاضى أي من هؤلاء المهندسين الأكفاء سنتيما واحدا ولا يتطلع إلى كلمة شكر أو ثناء أو صورة مع مدير أو منسق، بل خلافا لذلك يعتقد بعضهم أنه مقصر وأن عليه بذل المزيد ، وغالبا ستكون سيارة كل واحد منهم قد سلمت هذ ا لصباح للجان النقل لتعين في توصيل الناخبين الذين لا يمتلكون وسائل نقل للوصول لمواقع التصويت.
تجرج هولاء الشباب من جامعات مختلفة ودرسوا بلغات متعددة وجاءوا من كل ولايات الوطن والوانه وأعماره ولكن حب الوطن والإيمان بأن تواصل وحده القادر على تغيير واقعه هو الذي جعلهم جنودا في هذه القاعة في هذ الوقت المتأخر من الليل.
يرتبط بعضهم بعقود مع شركات مختلفة ويدير بعضهم شركات ويعمل البعض الآخر في مجالات متعددة لكن أولوية الأوليات لهم اليوم جميعا هي إنجاح هذ العمل الجبار الذي يقومون به ، ويوشك أن يصل محطته الأخيرة ...
لقد تم تكوين وتدريب قرابة تسعة آلاف شاب قاموا بعملية التمثيل في 4453 مكتبا بواقع ممثل وخلف لكل مكتب، كما قاموا بتثبيت وحدة إدخال معلومات متكاملة في كل مقاطعة من مقاطعات الوطن وتم تدريب طاقم كفء على استلام النتائج في تلك المقاطعة وارسالها بطريقة تقنية وآمنة لمركز العمليات المركزي في نواكشوط في ظرف زمني قصير ، ولأن أهل تواصل يعرفون واقع البلد جيدا فقد تم تدريب الطاقم على طرق بديلة لإرسال النتائج حال عدم وجو النت في تلك المنطقة أو انعدامها أصلا ... لقد حسب المهندسون لكل طارئة حسابها ...
قطع حبل تفكير نقاش بين مهندس شاب وكبير المهندسين الذي انتقل اليه في ركن قصي من القاعة المجاورة.. عرفت ان ثمة مشكلة، كان الشاب يقول : لقد تم الادخال بطريقة سليمة ولكن لا تزال ثمة مشكلة ... هناك فرق .. 3 أصوات.. خلت في الأمر مبالغة أو تنطعا فتدخلت فيما لا أعرف وقلت : ولكن 3 أصوات شيء يسير، قال المهندس الشاب : صوت أو مائة الف صوت لا فرق .. لن يقبل البرنامج المواصلة.
...هنالك خطأ ما... أعاد المهندس المحترف النظر للبرنامج أكثر من مرة، إنه يعرف هذ البرنامج جيدا ويعرف قدراته التي لن يتم استخدام خمسة في المائة منها في هذه العملية كما يقول ... لقد صنع البرنامج بنفسه وأعانه عليه قوم آخرون، وليس منطقيا ما يراه أمامه ... أخيرا تهللت أسارير وجهه وبدا كما لو وقع على كنز ثمين وهو يهز رأسه ويقول: يوجد خطأ في عملية الجمع بالمحضر ...
تنفس الجميع الصعداء واتُّخِذت الإجراء اللازمة وواصل الشباب عمله ليعود كبير المهندسين لجهازه الكبير الذي تأوي إليه نتائج كل الشباب ويعطي صورة واضحة عن الوضع في البلد كلها... سألت المهندس إن كنا على وشك معرفة النتائج النهائية فأجاب باقتضاب ... نبذل ما في وسعنا لتكون جاهزة في أسرع وقت ممكن ، ثم عاود الانكباب على لوحة مفاتيحه لأنسحب بهدوء … فالمكان مقدس مهيب تتملكه سكينة العمل والإنجاز وتحيطه روعة العلم والعمل والمعرفة والإتقان والإخلاص.