تميزت الانتخابات الرئاسية 2024 بدرجة كبيرة من السلاسة والدقة، وقد تقاربت نتائج محاضر سيني مع نتائج مستخرجات الأحزاب السياسية التي تمكنت من تغطية شاملة لمكاتب التصويت وخاصة حزبي تواصل والإنصاف، ومع ما تحصلت عليه حملات بقية المترشحين.
نفس الشيء تقريبا إذا رجعنا إلى نتائج الانتخابات الرئاسية 2019 رغم رفض المعارضة حينها الاعتراف بالنتائج.
الاختلالات الحقيقية والكبيرة كانت في الانتخابات البرلمانية والبلدية والجهوية 2018 و2023 فما السبب يا ترى؟
الإجابة المتبادرة عند الكثيرين هي التزوير! وهذا صحيح إلى حد ما؛ فالتزوير حاضر في الرئاسيات وفي الانتخابات المحلية، ولكن ليس التزوير هو التفسير الوحيد لهذا الاختلاف في درجة السلامة الفنية لاقتراعين لا تفصل بينهما سنة ومن نفس جهة الإشراف (2018 - 2019) و(2023 - 2024).
لكن المشكلة الرئيسية في رأيي هي في تعقيد العملية نفسها أي أنها مشكلة عجز بالدرجة الأولى لأن الانتخابات المحلية والنيابية في شكلها الحالي تعتبر عملية عبثية يستحيل ضبطها وبالتالي تستحيل إدارتها في بيئة كبيئتنا ومجتمع كمجتمعنا، فلا سيني قادرة على إدارتها من الناحية الفنية واللوجستية والتنظيمية ولا الأحزاب قادرة على مواكبتها بشريا وفنيا؛ لأنه مهما بلغت قوة الأحزاب فلن تستطيع أن تحل محل اللجنة؛ لأن عملها في النهاية فرع تابع مكمل مراقب على عمل اللجنة.
وسأرصد في هذا المقال بعضا من أوجه التعقيد بل والاستحالة في هذه العملية (أقصد طبعا الانتخابات المحلية والنيابية مقارنة بالرئاسية) ثم أختم بمقترحات للمستقبل.
أولا: أوجه التعقيد:
1. كثرة وفوضوية اللوائح والترشيحات: فقد وصل عدد اللوائح المترشحة 2023 إلى 2082 لائحة (1378 بلدية، 145 جهوية، 559 نيابية) تتنافس على 4142 مستشارا بلديا، و146 مستشارا جهويا، و176 نائبا برلمانيا، وهذا في الحقيقة رقم هائل جدا يصعب ضبط شكلياته (شكليات المحاضر والمستخرجات وبطاقات التصويت...) والتي تختلف حسب كل بلدية وحسب كل مقاطعة وجهة، تختلف في الأحزاب المترشحة لها، وفي ترتيبها، وفي بيانات المحاضر الثابتة كعدد المسجلين والمصوتين، مع ثلاث لوائح وطنية (الوطنية المشتركة والنساء والشباب).
2. ضيق الآجال القانونية: مع تعقيد العملية في حد ذاتها، فإن الآجال المخصصة لها تعتبر آجالا تعجيزية تقريبا، فمثلا بالنسبة للوائح البلدية تستمر المراجعة فيها إلى غاية اليوم 40 قبل يوم الاقتراع، فاللجنة لا يمكنها أن تبدأ في أي عمل فني ذا بال قبل أن تنتهي الترشيحات.
والحال نفسه بالنسبة للائحة الانتخابية وتوزيع المكاتب وعددها والمسجلين فيها، والتي تستمر مراجعتها حتى ثلاثين يوما قبل يوم الاقتراع..
ما يجعل العبء كبيرا على الأحزاب الجادة في مواكبة العملية فإن تصميم برامجها الفنية مرتبط بما ستقدمه اللجنة من معطيات رسمية حول عدد اللوائح، وتشكيلتها، وعدد المراكز، وعدد المكاتب في كل مركز، وحتى أرقامها ومسمياتها...!
نفس الشيء بالنسبة لرؤساء وأعضاء مكاتب التصويت حيث لا تنشر إلا عشرة أيام قبل يوم الاقتراع وقد تتأخر، وغالبا ما تكون ناقصة المعلومات، ما يجعل مهمة الأحزاب مستحيلة في تدقيق هذه اللائحة ومعرفة المزورين والمشبوهين، وحتى لو عرف بعضهم فإن البدائل تكون صعبة لضيق الوقت، فهي في الغالب لائحة الأمر الواقع!
3. طول فترة العملية: والتي في المتوسط ستستمر 48 س وربما أكثر من الفرز والمراجعة والتدقيق، وهي فترة أيضا تعجيزية وفوق قدرة الطواقم المشرفة من اللجنة والمراقبة من الأحزاب السياسية، فغالبا ما يستسلم رؤساء المكاتب للإرهاق أو للنوم، وإذا واصلوا فإن عملهم يكون ناقصا ومرتبكا.
4. زيادة عدد المكاتب: ست لوائح وستة صناديق ستضطر اللجنة إلى زيادة عدد المكاتب وذلك بنقص المسجلين في كل مكتب، وهو ما يزيد عدد المكاتب بقرابة الثلث عن العدد المفترض، مع ما تفرضه الزيادة الطبيعية في أعداد الناخبين؛ مما يتسبب في الكثير من الخلط باستحداث مراكز جديدة كليا، أو نقل مكاتب إلى مراكز أخرى، أو حتى نسيان مكاتب بأكملها قد تظهر في اللائحة ولا توجد في الواقع، أو العكس، كما يترتب عليه زيادة العبء على الأحزاب السياسة في القدرة على مواكبة العملية وإشغال الكثير من طواقمها المدربة عن جلب الناخبين وتعبئتهم في مواكبة هذا العمل الفني الصعب!
5. قدرات ذهنية وبدنية عالية: فالعملية بشكلها الحالي تتطلب قدرات ذهنية وبدنية كبيرة جدا غير متوفرة عند كثير من الطواقم من رؤساء وأعضاء المكاتب، وحتى عند الكثير من مسؤولي اللجنة في المقاطعات، وهو ما يتسبب في كثرة الأخطاء الحسابية، أو التعبئة الخاطئة للمحاضر، أو حتى تركها دون تعبئة! وفي النهاية سترجع السلطة التقديرية لمسؤولي اللجنة لتصحيح الاختلالات وسد الثغرات.. ولكم أن تتصوروا..!
6. التفريط في أصوات الناخبين: حيث يتم التفريط بنسبة كبيرة جدا من أصوات الناخبين لا يبلغ مستواها التعليمي ولا استيعابها الفني مستوى تعقيد العملية الانتخابية، تخيلوا أن مواطنا أميا أو محدود التعليم سيضطر للتصويت ست مرات في صناديق متعددة لن يميزها إلا بألوانها التي تختلف في نماذج التعبئة عنها في الواقع، ثم سيضطر بعد ذلك للتفتيش عن خياره أو خياراته من بين عشرات الصور والأشكال! (قد تصل أحيانا في مجموعها إلى 130 شعارا سيختار من بينها) فهذه عملية صعبة ومربكة للمجرب الخبير وللطالب الذكي؛ فكيف بالعامل البسيط وربة البيت التي لا تكتب ولا تقرأ!!
وهذا ما يفسر العدد الهائل من البطاقات اللاغية: فمثلا في 2023 بلغ عدد البطاقات اللاغية في اللائحة الوطنية المشتركة 308 آلاف صوت لاغي! ما يمثل أكثر من 24% من عدد المصوتين، والنسبة أكبر في لائحتي الشباب والنساء (314 ألفا و319 ألفا)، وفي 2018 بلغت نسبة البطاقات اللاغية في نفس اللائحة أكثر من 32% من عدد المصوتين!
وهذه جريمة سياسية وديمقراطية، وعبث بإرادة الناخبين، حيث أن ثلث المصوتين يتجشمون عناء التعب وربما السفر ويحددون اختياراتهم ومع ذلك يتم التفريط في أصواتهم بسبب لا مبالاة الأحزاب السياسية واللجنة المستقلة. لتتحول أصواتهم إلى مادة فعالة لتسمين مرشحي المال والقبيلة ممن لا وزن لهم في السياسة ولا أثر! طبعا الأرقام أعلاه هي الفائض بعد التسمين مما اعترفت به اللجنة!
مقترحات للمستقبل:
ينبغي الشروع من الآن في دراسة جدية للاختلالات القانونية والإجرائية التي تعيق سلامة وسلاسة هذه العملية فكلما كانت المراجعة مبكرة وبعيدة عن سيف الانتخابات وضغطها وحساباتها، كانت أسلم وأدعى للقبول والتبني من طرف الجميع، فمن العيب ونحن في هذا العصر ومع كل هذه الإمكانات والتكنلوجيا أن نكون غير قادرين على تسيير أهم استحقاق وطني يؤثر في كافة مفاصل حياتنا ويهدد أمن وتماسك مجتمعنا!
فمن المخجل أن تعجز اللجنة عن توفير المستخرجات للممثلين (في 2023 عجزت اللجنة عن توفير المستخرجات بنسبة قاربت الأربعين في المائة في بعض المناطق!) كما عجزت عن توفير الكثير من مستلزمات التصويت بالكميات الكافية (بطاقات التصويت، أقفال، حبر، سواتر..).
ومن المخجل أيضا أن تستغرق لجنتنا الموقرة ثمانية أيام لتعلن ولادة قيصرية مشوهة لنتائجها المؤقتة، في انتخابات لا يشارك فيها إلا قرابة المليون ناخب! في حين نرى العالم من حولنا يشارك في الانتخابات عشرات الملايين، ولا تستغرق سوى ساعات قليلة حتى تكتمل نتائجها!
وهذه جملة مقترحات وأمثلة من القضايا التي ينبغي أن تكون محل دراسة ومراجعة:
1. بطاقة التصويت الواحدة: ومن ميزات هذا المقترح أنه سيسهل العملية بدرجة كبيرة وسيعلي أيضا من شأن الأحزاب والكتل السياسية الوطنية على حساب التسول الانتخابي العائلي والفردي، وهي للأسف ظاهرة مشينة حولت أصوات الناخبين إلى سوق سوداء تتم المزايدة عليها (فصوت لفلان وآخر لعلان، وصوت للقبيلة، وصوت للدولة.. وهكذا! وفي النهاية ستضيع أغلب تلك الأصوات!)
وللأمانة فاللجنة المستقلة طرحت هذا المقترح في 2023 ولكنه قوبل بالرفض دون وعي أو دراسة من طرف أحزاب المعارضة، ولعل النتائج الهزيلة والمتكررة لهذه الأحزاب في البلديات والبرلمان تعظ بضرورة تجريب خيارات خرى!
2. من الخيارات البديلة اعتماد بطاقتي تصويت: واحدة للبلدية والجهوية، وأخرى للنيابيات، وهذا أيضا سيخفف من صعوبة العملية، وهذا التفريق له ما يبرره لطبيعة الخلاف بين البرلمان جهة التشريع، وبين جهات التنمية المحلية والجهوية وخدمة المواطنين.
3. من الاقتراحات أيضا فصل الانتخابات زمنيا: بحيث تكون الانتخابات البلدية والجهوية في وقت، والانتخابات التشريعية في وقت آخر، وهذا وإن كان سيخفف التعقيد؛ إلا أنه سيزيد العبء المادي والتنظيمي على الدولة والأحزاب السياسية.
4. ومن الاقتراحات كذلك دراسة إمكانية التصويت الالكتروني: ويلاحظ أنه كلما تمت رقمنة وأتمتة خدمة معينة، فإنها تصبح أدق وأسهل وأكثر موثوقية، ويمكن مرحليا اعتماد جهاز البصمة للتعرف على المصوتين في أفق اعتماد التصويت الإلكتروني.
5. كما ينبغي مراجعة الآجال القانونية والدستورية بحيث تكون كافية وغير ضاغطة من أجل تحضير جيد للعملية الانتخابية (مرسوم استدعاء هيئة الناخبين، آجال الترشيحات، إعلان مكاتب التصويت، الآجال المخصصة للطعون..)
6. كما ينبغي الحوار حول تقطيع انتخابي عادل يعبر، عن التوزع الحقيقي للسكان ولا يعطي امتيازات انتخابية غير مبررة إحصائيا لجهات ومناطق على حساب أخرى!
7. العمل على توسيع وتعزيز النسبية ومراجعة النسبية الهجينة التي اعتمدت في الانتخابات المحلية الأخيرة، وأدت إلى خروج المعارضة بنتائج صفرية في الانتخابات البلدية، فالمهم في البلديات هو العمدة وليس المستشارون، والعمدة منصب واحد لا ينبغي أن يمر إلا بأغلبية مطلقة!
وأخيرا..
إذا لم يتوفر الحد الأدنى من المعقولية في شروط وظروف تنظيم الانتخابات فنيا، فإن المعارضة ستظل تطارد خيط دخان، لا هي تدركه ولا هو يختفي لتقنط وتستريح!
فإذا كانت العملية في أصلها بنيت بحيث لا يمكن إدارتها ولا ضبطها ولا السيطرة عليها؛ وبالتالي لا يمكن تقويمها ولا قياسها، فإنها ستتحول إلى فوضى خلاقة يستفيد منها الأقوياء والنافذون وتوجهها السلطات.
ومن مساوئ هذا التعقيد أنه أغرق اللجنة والأحزاب المعارضة في أعباء فنية ولوجستية كبيرة، وأعفى في المقابل الإدارة المحلية والحكومة من أي مسؤولية أو دور تنظيمي أو لوجستي.. وبالتالي تفرغت للعمل النوعي المؤثر! وهو التحكم في إرادة الناخبين وتوجيه اختياراتهم!!
بينما إذا وجدت ظروف ملائمة لانتخابات معقولة فنيا ولوجستيا، فإن الأحزاب ستدخر الكثير من جهودها وطاقاتها النوعية لمكافحة التزوير، ولمكافحة وسائل التأثير غير القانوني على إرادة وتوجهات الناخبين؛ والتي تمثل في رأيي العائق الحقيقي والكبير أمام أي تغيير جدي في هذه البلاد، أو أمام تمثيل حقيقي للمعارضة في البرلمان وفي جهات التنمية المحلية، يوازي حضورها ومكانتها في الشارع الموريتاني.