توهمت إسرائيل أنها باغتيال الشهيد القائد إسماعيل هنية ستحقق أحد أهم أهدافها في تفكيك حركة حماس، بشغل أعضائها أثناء حرب ضروس في الجدل والسجال حول معايير وطرق اختيار خليفة هنية من بين قادتها الكثر، لكن الله وفَّق الحركة فردَّت على الوهم الإسرائيلي بالإجماع على الرجل الأكثر خطرا على الكيان الصهيوني، وهو قائدها في غزة، الأسير المحرر يحيى إبراهيم حسن السنوار.
يحيى السنوار من الشخصيات القيادية الإسلامية التي طفت على سطح الإقليم والعالم بعد السابع من أكتوبر، وخلال ذلك ارتبط في أذهان الأمة وشبابها برمزية القائد الذي أثخن جندُه في إسرائيل، ورجل الأمن الذي تفوق على الصهاينة استخباريا وأمنيا، وألحق بالكيان من الضرر ما لم تستطعه دول كثيرة خلال عقود، محيِيًا بخططه الحربية ودهائه السياسي وخداعه الاستراتيجي عهودا من البطولة، تذكِّر بزمن صلاح الدين الأيوبي، كما تقول الصحافة الإسرائيلية نفسها.
يحمل إجماع حركة حماس على السنوار رئيسا لمكتبها السياسي العام عدة رسالات بالغة الدلالة لتأثُّرها البالغ بظرف الاختيار مكانا وزمانا، ولتعبير الاختيار نفسه عن حقيقة المؤسساتية في حماس حتى في الظروف الاستثنائية، ولما كشفه الإجماع عن الصفات القيادية التي يتمتع بها الرئيس الجديد.. وهي عوامل متضافرة جعلت الاختيار في حد ذاته حدثا مزلزلا ترددت أصداؤه في العالم أجمع، واتخذ بعدا أكثر رمزية داخل إسرائيل بسبب تشفّي معارضي نتنياهو فيه لأنه أراد الانتقام من إسماعيل الذكي فجاءه يحيى القوي.
رسالة حماس الأولى تعبير عن تشبثها بنهج المقاومة، وإيمانها بجدوى طوفان الأقصى؛ فاختيار السنوار بالإجماع- وهو سيد الطوفان- مفصح عن هذه الرسالة بجلاء، فكل أعضاء الحركة وتجمعاتها الأربعة في غزة والضفة والسجون والخارج مجمعون على جدوى الطوفان، وأبلغ تعبير عن ذلك هو الإجماع على السنوار، واختياره لرئاسة المكتب السياسي في هذا الظرف الاستثنائي، وهو القائد الذي كان انتخابه في المأمورية الثانية عام 2021 لقيادة مكتب الحركة في غزة عسيرا، ولم يتم إلا بشق الأنفس وإعادة الجولات بينه وبين القائد المهندس نزار عوض الله.
والرسالة الثانية موجهة لأهالي غزة، دعما لصمودهم ولبسالة شبابهم، ففروع الحركة تقول بلسان إجماعها لأبناء غزة أنتم أهل القيادة، وأنتم الأَولى بها، فليس من الذوق ولا من النبل منازعتكم في هذا الأمر، وأنتم الذين تبذلون دماءكم الزكية بسخاء لتحرير الأسرى والمسرى، والعودة إلى حيفا ويافا والنقب، وخير من يعبر عن غزة هو السنوار، وكان الشيخ محمد أحمد الراشد قد دعا الإسلاميين في العالم إلى مبايعة حماس باعتبارها الأجدر بالقيادة، والأكثر نجاحا رغم التحديات وشراسة الحروب الداخلية والخارجية عليها، وما نيل المراتب إلا بالتضحيات المصيبة.
والرسالة الثالثة إلى المحتل وحكومته وجيشه ومخابراته، فحماس تقول للصهاينة إن حربكم المدمرة خلال الأشهر العشرة لإخضاع غزة، ولتشويه قادة المقاومة قد باءت بالفشل؛ فالسنوار الذي بذلتم كل جهد لقتله جسديا ومعنويا ها هو يعود بعد سلفه الشهيد الزكي إسماعيل هنية مجسدا وحدة الصف الداخلي لحماس، ومرسخا وحدة الأمة كما وحّدتها جنازة أبي العبد، فمن الكعبة المشرفة إلى صنعاء الحكمة وأناضول الفاتح وخراسان العلماء ومغرب الفتوح، عبَّرت الجماهير عن حبها للسنوار، وإكبارها لإجماع الحركة المبرورة عليه.
والرسالة الرابعة من حماس إلى شقيقاتها في الحركات الإسلامية خارج فلسطين، خصوصا في مصر الكنانة، تقول لهم إن الأخيار في زمن تهديد البيضة يَقبُح بهم تضييع الجهود في الخلافات البينية، وتبديد القدرات في الجدالات البيزنطية، وإنه لا عاصم من “متلازمة الخليفة” لدى الإسلاميين إلا مؤسسات راشدة تحسم قانونها التداولي في السلم، وتستفيد من مواهب القادة، وتأخذ حظها من بركة الجماعية والشورى، وإن غير ذلك مآله الافتتان والتنافر، ولو حسنت النيات ونبلت المقاصد وتعمق البعد التزكوي.
تلك- في نظري- أهم رسائل اختيار السنوار لرئاسة حماس خلفا للقائد الموفق، الشهيد إسماعيل هنية، وهو اختيار إن تأثر الإجماع عليه بالظرف الحالي فإن صاحبه جدير بالقيادة ومتصف بكل مواصفاتها؛ فللسنوار في مذكرات الأسرى وشهاداتهم صورة، وله في محاضر المحققين وإفادات السجانين الإسرائيليين صورة أخرى، تقترب من الأولى في صفات أساسية، كالجَلَد والشجاعة والصمود، ومضاء العزيمة، وقوة الإيمان بالقضية، ويختلفان في تفسير بعض الصفات التي يراها رفاق الدرب محمدة، وبسببها دخل السنوار السجن وحكم عليه بأكثر من أربعة قرون.
محمد أبو طير، النائب في المجلس التشريعي عن القدس، والقيادي في حركة حماس، كان قد مكث في السجن عقودا متتالية، وعايش أجيالا مختلفة من الأسرى، يذكر في مذكراته يحيى السنوار بإكبار واحترام، فهو عنده “القائد الملهم والنموذجي”، و”أحد الإخوة الذين دفعوا ضريبة العزل” سنة 1992 لمدة عامين ونصف مع القادة الكبار، من أمثال الشهيد المهندس إسماعيل أبو شنب، والشيخ القائد الشهيد صلاح شحاتة، والشيخ القائد الشهيد صالح العاروري، والأستاذ توفيق أبو نعيم، وغيرهم.
لم ينقم أبو طير على السنوار إلا هوسه الأمني وشدته في التحقيق، لكنه يرى أن القائد السنوار لم يكن شديدا على المتهمين بالعمالة والمشتبه بهم فقط، بل كان شديدا على نفسه، ومن قواعده التي كان يلتزم بها، ويذكّر بها نظراءه زمن المواجهات والإضرابات عن الطعام في السجن، قوله: “إذا لم تخذل القيادة القاعدة، فعطاء القاعدة بلا حدود”.
كما يذكر أبو طير أن السنوار كان رحيما بإخوانه، فهو “الأخ الحبيب والابن البار”، وكان يخصهم بدعوات خالصة تلامس شغاف قلوبهم، فكان دعاؤه للشيخ أبي طير “أسأل الله أن يكون بك حفيا”، وكان يشمل السجناء بعطفه وعاطفته، فعن رجوع أبي طير إلى السجن عام 2010 يقول: “وفي يوم الجمعة الأول استقبلني الحبيب أبو إبراهيم السنوار بخطبة جمعة أحاطني من خلالها بعاطفته، ومثلي عند سماعه لهذه العاطفة عليه أن يتقي الله، والله أعلم بسريرتي، وأسأل الله أن يذكره في ملأ خير مني”.
والصفات القيادية المذكورة عن السنوار متواترة، وروتها أجيال مختلفة من الأسرى الفلسطينيين الذين عايشوه عن قرب في السجون الإسرائيلية، وأهمها الإيثار والتجرد، وخدمة الإخوة، والربانية والشورية، والصلابة في الحق، ووضوح الرؤية السياسية، والقدرة على التخطيط الاستراتيجي.. وثمة صفات أخرى أطنبت الصحافة الإسرائيلية في ذكرها، أبرزها قدرته القيادية على تنظيم الأسرى، وإرعاب المحتلين، وصلابته الأسطورية.
فصلابة يحيى في السجن لم تلهم الأسرى الفلسطينيين فقط قيم الصبر والثبات والصمود، بل انتزع بها الاحترام والتقدير من قادة السجن الإسرائيليين وضباط أمنه؛ فصموده الأسطوري “دفع أحد ضباط المخابرات إلى تقديم التحية العسكرية له، احتراما له ولشجاعته وثقته بنفسه”، كما وثقه إعلام المقاومة وجمعيات أنصار الأسرى.
انتزاع السنوار للاحترام من سجانيه ظل يتعزز داخل السجون الإسرائيلية، حتى جمع أبو إبراهيم بين قيادة الهيئة العليا لأسرى حركة حماس، وبين إدارة السجن؛ فقد نقلت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن مسؤول إسرائيلي أن السنوار “منذ دخوله السجن كان قائد مقر حماس هناك، ورغم أنه كان سجينا، فإن جهاز الأمن الإسرائيلي لم يوقف أنشطته في الحركة. عدا عن ذلك، نجح السنوار في توفير ظروف ممتازة للسجناء، ويمكن القول إنه هو من كان يدير السجن وليس مصلحة السجون”.
وفق الله السنوار، وكتب النصر والتحرير على يديه وأيدي إخوانه.