الإسلاميون .. محافظون بفكر ليبرالي

أربعاء, 2024/08/28 - 22:38
بقلم الدكتور عبد الله بيان - طبيب وكاتب موريتاني

تأسّست كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة (الإخوان المسلمون)، قبل نشأة الدولة القُطرية الحديثة في منطقتنا كما هو معلوم. وقد أدى ذلك – في ظل النهج الأممي الذي طبع بداية هذه الحركة – إلى تبنيها أدبيات فكرية وهياكل تنظيمية، كان لها لاحقًا انعكاس سلبي على مدى نضج المقاربة الحزبية والسياسية الإسلامية خلال التجربة الديمقراطية. وهي المسألة التي ألقت بظلالها- مع تفاوت بين البلدان- على العديد من العناوين الإسلامية الوسطية الأخرى.

فمن الواضح أن الجديد متمثل في دولة الاستقلال، ولاحقًا الممارسة الديمقراطية وما واكب ذلك من استهداف أمني باغت الإسلاميين وأربكهم، قبل أن يهيئوا أرضية فكرية صلبة للتعاطي مع هذه الأشكال والهياكل الوافدة، انطلاقًا من الفهم الواعي لخلفياتها وغاياتها الأصلية.

من رجال الدعوة إلى رجال الدولة

بعد انتشار التيارات الاشتراكية، الشيوعية والبعثية والناصرية، في الشرق الأوسط، وتزايد حضور خطاب التحرر من الاستعمار الغربي، تأثرت الحركة الإسلامية بذلك، وشهدت في بداياتها ميلًا فكريًا باتجاه الدعوة لتطبيق "العدالة الاجتماعية في الإسلام" (سيد قطب، 1952)، والعودة إلى "اشتراكية الإسلام" (مصطفى السباعي، 1959)، والتركيز على التمييز أحيانًا بين الرؤية الإسلامية الاجتماعية والفلسفة الاشتراكية (اشتراكيتهم وإسلامنا، بشير العوف، 1966).

بيدَ أن صِدام الإسلاميين مبكرًا مع الأنظمة الأحادية، وتعرضهم للظلم والاستهداف، ولجوء العديد من قياداتهم إلى دول أوروبا وأميركا الشمالية، كان له في ظلّ تفوق السردية الحداثية الغربية الأثر البالغ في تبني منظري هذه الحركة لاحقًا لقيم الديمقراطية الليبرالية (ليبرالية نسبية طبعًا).

رافق ذلك التحول الفكري ومهّد له تزايدُ الوعي بحقيقة الدولة القومية الحديثة، وحدود المتاح في واقعها من الأهداف الأممية الحالمة التي رسمها الآباء المؤسسون؛ حيث بدأت قيادة التنظير والتنظيم تتحول من رجال الدعوة إلى رجال الدولة داخل الحركة، وتم فسح المجال واسعًا أمام منظرين وقيادات أكثر انفتاحًا وانسجامًا مع قيم النظام العالمي الجديد، بحكم العيش في الغرب أو التعرف على تجربته من خلال التمدرس في نظامه المعاصر. وهنا بدأ الانزياح الفكري نحو لَبْرَلة نظريةٍ وقيادية لا تعكس حقيقة القاعدة العريضة لهذه التيارات المحافِظة والمتدينة.

وللأمانة، ليس هذا التحول خاصًا بالحركات الإسلامية، فتفوُّق محور الغرب بعد الحرب العالمية الثانية جعل أغلب التيارات السياسية تتأثر بنموذجه الليبرالي، بل ويصبح بعضها أسيرًا لهياكله وأشكال مؤسساته الإدارية والسياسية. ففي الوقت الذي لم توجد فيه انتخابات ديمقراطية على النمط الغربي في بداية السبعينيات إلا في حوالي 30 دولة – مثلًا- بدا العالم في العقود الموالية كما لو أنه يتحول سريعًا في هذا الاتجاه؛ حيث وصل عدد الدول التي لديها انتخابات ديمقراطية مع مطلع القرن الحالي إلى ما يزيد على 100 دولة.

أثر البيئة وفلسفة المكان

عادة ما يكون اطّلاع النخب المهاجرة أو الزائرة للغرب – ومنها النخب الإسلاميّة – على المجتمعات والتجارب السياسية فيه، عن طريق الاحتكاك بساكني العواصم والمدن الكبيرة ذات الأغلبية الليبرالية، والقراءة لكتّابها ومثقفيها التقدميين. هذا بالإضافة إلى الانفتاح المعروف للأحزاب والنخب اليسارية بشكل خاص في أوروبا وأميركا الشمالية على المهاجرين، وتقبلهم أكثر من غيرهم للتنوع الديني والعرقي، والدور الفاعل لذلك في جعل أحزاب اليسار الليبرالي الوجهة المفضلة للمسلمين والمهاجرين هناك.

وقد أدت هذه العوامل المحليّة وسابقتها العالمية إلى تأثُّر قادة الرأي في الحركات الإسلامية بتحيزات وخلاصات فكرية وسياسية ناتجة عن رؤى مجتزأة أحيانًا؛ لم يَدرس أصحابها بما فيه الكفاية الأسباب والأسس التاريخية التي هيّأت لها في بلدانها الأصلية، حتى بات المتابع للساحة السياسية الإسلامية يلاحِظ أنه أمام تيار محافظ من يمين الوسط، يُقاد ويُنظَّر له بأفكار وقيم ليبرالية، أو يسارية ليبرالية.

وقد سبق أن نبه الأستاذ سلوستري دساسي (أحد مدرسي الشيخ رفاعة الطهطاوي في فرنسا) إلى هذا التعميم الحضاري المخِلّ، الذي يقع فيه الزائر للبلدان الغربية؛ فبعد أن ألّف داعية التنوير كتابه (تخليص الإبريز) انطلاقًا من تجربة إقامته في فرنسا، بداية القرن التاسع عشر، حيث عاش خمس سنوات في الحي الجامعي لبعثة الدولة العثمانية في باريس، لا يخرج منه إلا أيام العطل والأعياد، كما ذكر، علق عليه أستاذه دساسي بالقول: "به [أي الكتاب] يُستدل على أن المؤلف جيد النقد، سليم الفهم، غير أنه ربما حَكم على سائر أهل فرنسا بما لا يُحكم به إلا على أهل باريس والمدن الكبيرة. ولكن هذه نتيجة متولدة ضرورة من حالته التي هو عليها، حيث لم يطّلع على غير باريس وبعض المدن".

وهكذا، وفي سبيل الالتحاق بركب الديمقراطية الليبرالية، دخلت هذه التيارات مرحلة ما بعد الإسلامية؛ فتخلت باسم الواقعية وفهم طبيعة الدولة القُطرية عن شعارات من قبيل: الإسلام هو الحل، وتطبيق أحكام الشريعة، ومناهضة العلمانية والانحلال الأخلاقي.. وأعْلت من شأن "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" (راشد الغنوشي، 1993)، ومن تقديم الشرعيّة السياسية على الشريعة الإسلامية (محمد المختار الشنقيطي، 2004).

وطالبت هذه التيارات بالتمييز – ولك أن تقول الفصل – بين الدين والسياسة (سعد الدين العثماني، 2009)، بل ورأت أن مجتمعنا ليس كافرًا حتى نطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية فيه، وأنه "عيب" على المرشحين أن يرفعوا شعار التعهد بتطبيقها عند وصولهم للسلطة (عبد المنعم أبو الفتوح، 2012)، كما اعتبرت أحيانًا أن الدولة ليس من مهمتها هل صلى الناس أم لم يصلّوا، لبسوا الحجاب أم لم يلبسوا، شربوا الخمر أم لم يشربوا (الغنوشي متحدثًا باسم حركة النهضة، 2017)..

وفي ذات السبيل كذلك، تم اختيار الرأي القائل بإلزامية الشورى، وتكييفها إجرائيًا مع المقاربات الديمقراطية التمثيلية، ليس لجعل الأخيرة أفضل الموجود لتحقيق الأولى، وإنما لاعتبارها "تمثل تطبيقًا لمبدأ الشورى" (الرؤية المرجعية لحزب تواصل في موريتانيا، 2018).

حصاد الطوباوية الديمقراطية

لقد كان لهذا التحول الفكري والمنهجي- القيادي بالإساس- تأثيرات سلبية عديدة على الحركة الإسلامية؛ ألقًا في الخطاب، وتراجعًا في الانتشار، وتفويتًا لفرص الحكم، وتعقيدًا للخلافات على مستوى القيادة. كما أنه لم يجعلها في النهاية تيارات سياسية مُرحّبًا بها داخل المنظومة الديمقراطية الدولية. وسأكتفي من تلك التأثيرات السلبية الآن بالوقوف عند مسألتين:

  • الخلافات القيادية:

لم تستطع القيادات المحافِظة داخل هذا التيار أن تُنتج لقاعدتها العريضة فكرًا حديثًا منسجمًا مع مفردات الدولة القومية المعاصرة؛ وذلك بعد أن استسلمت لأمرها الواقع، واكتفت بتبني ومسايرة المنجز الحداثي ومطالب الشارع العام. كما أن القيادات الإسلامية الأكثر انفتاحًا وواقعية، والتي تولت ريادة الإنتاج الفكري، لم تنجح هي الأخرى في تفكيك قيم المواطنة ومبادئ الديمقراطية الغربية، وإعادة بنائها بشكل يرتبط بقيم شعوبها المحافِظة ويتصالح فعليًا مع خطابها الإسلامي.

هذا الواقع – مع عوامل أخرى – أوجد خلافات في هرم الحركة الإسلامية بين يمين التيار وحداثيّيه (واقعيّيه)، ترسخت مع الوقت حتى وصلت إلى ما بات يعرف عند بعض الدارسين بأزمة القيادات الإسلامية. وقد عقّد من تلك الخلافات ما أسلفنا من اقتصار شبه حرفي في علاج آثارها على استنساخ الهياكل والأشكال الإجرائية الديمقراطية التمثيلية؛ فلا القوم رجعوا إلى آليات التدبير القيادي في صدر الإسلام (العهدين النبوي والراشدي)، ولاهم تبنوا روح الديمقراطية وتطبيقاتها الحزبية داخل دول المنشأ.

ومن هنا استُخدم مبدأ الأغلبية أحيانًا كوسيلة لتمسّك بعض الأشخاص والرؤى بالقرار لفترة طويلة، أو كآلية لإبعاد القيادات المخضرمة والشبابية ذات الطرح المختلف، حتى أوشكت هذه الحركات أن تفقد حيويتها في عدة بلدان إسلامية، وتعاظَم في بعضها الخلاف والاستقطاب وصراع الأجنحة القيادية.

فأنت في الغالب تجد عند النخب الإسلامية فهمًا واستيعابًا جيدين لتعدد أنظمة الحكم في الدول الغربية، ولكنك تجد مقابل ذلك عكسَه فيما يتعلق بمعرفة "أنظمة الحكم" في الأحزاب الغربية، ومدى تنوعها واختلافها – حسب الحاجة – من بلد إلى آخر، ومن اتجاه سياسي إلى آخر داخل البلد نفسه.

وكذلك الأمر بشأن الاطلاع على الآليات التي تسمح بتعدد التيارات داخل الحزب الواحد، وكيف ينفصل الهيكل الإداري أحيانًا ليسهّل تعايش القيادات السياسية مختلفة التوجه داخل نفس الحزب؛ فقارئ هذه الأسطر غير المتخصص لا يعرف -مثلًا- اسم رئيس أي من الأحزاب السياسية في الولايات المتحدة، لا حاليًا ولا سابقًا، ولكنه يعرف أسماء العديد من القادة الديمقراطيين والجمهوريين.

أيضًا، تغيب عن جل هذه النخب درجة المرونة والطبيعة الديناميكية التنظيمية، التي سمحت- مثلًا- لحزب المحافظين في بريطانيا (تأسس 1834)، والحزب الديمقراطي في أميركا (تأسس 1928)، أن يحافظا على ألقهما وحضورهما السياسي لما يقارب حتى الآن مئتي سنة.

  • تضييع فرص الحكم:

حيث أصبح بعض الإسلاميين بسبب طول معاناتهم مع الأنظمة المستبدة يرون أن الأزمة الدستورية التي تعيشها الأمة الإسلامية هي مصدر جميع المشاكل البنيوية، التي عانت منها في الماضي وتعانيها في الحاضر (رغم أن تاريخ الأمم الأخرى ليس أفضل حالًا)، وأن إرساء الديمقراطية الليبرالية هو السبيل الأوحد لأي تنمية أو تطور أو ريادة.

وقد أدى هذا التصوف في ذات الديمقراطية إلى تفويت بعض فرص الحكم على الإسلاميين لأسباب، نذكر منها اثنين هامين:

  • أولًا، لم ينتبهوا إلى أن أساليب الحكم غير أساليب الطريق إليه، وأن البلدان العربية في واقعها الحالي لا تتوفر أي منها على الشروط اللازمة لرسوخ الممارسة الديمقراطية؛ فلكي تدخل الدولة المسار الديمقراطي ثم لا تعود إلى الوراء (على افتراض أن الديمقراطية تقدم إلى الأمام) لا بد لها من مجموعة شروط، من أبرزها ارتفاع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي، واتساع الطبقة البورجوازية وإيمانها بالديمقراطية (فلا بورجوازية تعني لا ديمقراطية، حسب تعبير عالم الاجتماع السياسي برينغتن مور)، ونضج مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والأحزاب السياسية، والوصول إلى درجة دولة المواطنة.

فالديمقراطية في بلداننا، في أحسن حالاتها، قادرة على أن توصلك إلى الحكم، لكنها غير كافية لبقائك فيه. ولا يزال القادم إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع يحتاج في ترسيخ حكمه الأساليب ذاتها للقادم إليها بانقلاب عسكري! والتي من أهمها: القيادة الحذرة للجيش والمخابرات، والإدارة المتبصرة للملف الدبلوماسي- الاقتصادي الدولي، واستغلال الإعلام، والإمساك بخيوط التركيبة الإثنية والقبلية والدينية للمجتمع.

وهكذا أدت نظرة الإسلاميين الطوباوية للمنظومة الدولية، والبحث عن إرضاء المنافسين والخصوم في الداخل والخارج، إلى سلبهم السلطة في تونس وفي مصر وفي المغرب، بدرجات متفاوتة. وهذا ما انتبه إليه لاحقًا أحد شركاء الإسلاميين في حكم تونس، وهو الرئيس السابق المنصف المرزوقي، فحذر منه قائلًا: "ادرسوا جيدًا تجربة سياسة النهضة وافعلوا بالضبط العكس، أي لا للتوافقات، لا للحلول الوسطى، لا للطيبة، لا للطوباوية، لا للخوف، ولا للتفاؤل المفرط مع أي شكل يتخذه الشر".. في تأكيد لمحورية الاستقطاب في العمل السياسي، وأن "التفكير في السياسة باعتبارها توافقات وإجماعات تصور خاطئ، وأنه لا بد للسياسات الديمقراطية أن تكون استقطابية"، حسب تعبير المنظرة البلجيكية شانتال موف.

  • ثانيًا، أورثت الإسلاميين تجربتُهم مع الأحادية ميلًا شديدًا تجاه نموذج القيادة الديمقراطية (أو القيادة الجماعية)، وهو نموذج من أضعف نماذج القيادة، آمنٌ لكنه غير ناجح، يسهل معه تسلل الخلافات البينية داخل قمرة القيادة، ويُضعِف الأداء في المجالات التي تحتاج الحسم والمبادرة، وحكم الدول طبعًا من أهم تلك المجالات. وهكذا قصُر وزراء الإسلاميين ومسؤولوهم عن إنجاز المأمول بعد وصولهم للسلطة، وترددوا وتراجعوا عن وعود وشعاراتٍ حمت مشروعهم وحملته إلى المقدمة.

ومن ذلك ما قامت به حركة النهضة من إسهام في ترسيخ القيادة الجماعية للدولة (النظام المختلط) كنمط للحكم في تونس؛ فكانت سببًا من أسباب إعاقة ووأد تجربتها في إدارة الشأن العام. وهو المقترح المشابه الذي قدمه حزب تواصل سنة 2011، عندما طالب في وثيقته "إصلاح قبل فوات الأوان" بتحويل نظام الحكم في موريتانيا من رئاسي إلى برلماني.

وكأن دولًا هشة مثل تونس أو موريتانيا تتحمل حالة عدم الحسم القيادي الذي ينتج عن الأنظمة البرلمانية، وأن ذلك ليس خطرًا يتهدد حكم هذه الأحزاب – إن هي وصلت إلى السلطة – قبل تهديده كيان الدولة وتماسك أركانها. فهل تتحمل شعوبنا وميزانياتنا مثلًا ثلاثة انتخابات عامة في أربع سنوات، كما حدث في بريطانيا (2015 و2017 و2019)؟ وهل تتحملها لمرتين متتاليتين في العام نفسه، كما حدث فيها 1974؟ من الواضح أن الأمر ردة فعل على الأحادية والاستبداد، لم يُدرس بما فيه الكفاية.

هل من عود على بدء؟

يحسن القول هنا إن الديمقراطية، حتى وفي ظل الحديث عن دخول العالم مرحلة تجاوُزِها، تبقى أفضل الآليات المجرّبة لقيادة الدولة المعاصرة. وإن المقصود بالملاحظات الآنفة لفت الانتباه إلى أن هذا التيار المتدين بحاجة لتقديم رؤية ديمقراطية محافِظة، تنطلق من واقع وقيم البلدان الإسلامية وتستجيب لحاجاتها ومطالبها الخاصة، وليس الدعوة للاستبداد وحكم الفرد كبديل وحيد عن الديمقراطية الليبرالية.

كما أنها أيضًا لا تعني المطالبة بالعودة للخطاب والشعار الإسلامي والاقتصار على ذلك فحسب، وإنما بأن يقدّم المحافظون مشروعهم الإصلاحي للناس من جديد، كما حاولوا أن يبدؤوه أول مرة ببساطة وصدق؛ مشروعًا متكاملًا لإعمار الأرض وفقًا لمنهج السماء.

فالإسلاميون الحداثيون، وهم في الغالب من يُنتج وينظّر في فكر الدولة وشؤون الحكم المعاصر، لم تستطع رؤيتهم -على ما يبدو- التوفيق بين تغيير المناضلين والتغيير بهم، وأخفق جلّ قادتهم في الجمع بين شرطَيْ القائد الناجح: تحقيق الأهداف والحفاظ على تماسك الأتباع. وقد أوقع ذلك إشكالات عديدة، ليس على مستوى الانسجام القيادي فحسب، وإنما أيضًا على مستوى حماس عموم قاعدة التيار للفِكَر والمقترحات المقدمة لحل مشاكل الدولة والمجتمع، هذا بالإضافة إلى ما أحدث من تشويش، وإضعاف للثقة، وسهولة في فك الارتباط السياسي، وتراجع في الألق والانتشار.

والواقع الحالي يقول إن الثورة المضادة والالتفاف على مكتسبات الإسلاميين في الربيع العربي- أولًا-، وطوفان الأقصى وما صاحبه من انكشاف لزيف القيم الإنسانية للمنظومة الدولية- ثانيًا-، وتراجع الزخم العالمي للديمقراطية الليبرالية في بلدان المنشأ، حيث اعتُبرت ذات يوم نهاية التاريخ- ثالثًا-.. كلها عوامل ستجعل من المنتظر أن تكون تجارب حكم الإسلاميين في المستقبل أكثر نضجًا وأصلب عودًا وأقرب إلى المحافظة.

وقد لاحظ المتابعون في موريتانيا مؤخرًا عودة الشعار والخطاب الديني الواضح لدى مرشح الإسلاميين للرئاسيات الماضية. ولكن لا يزال الوقت مبكرًا للحكم على تلك التصريحات ومثيلاتها؛ إن كانت اختيارًا شخصيًا انتخابيًا أو قرارًا لدى هذا التيار لا رجعة فيه، خاصة أن الأمر لم يسبقه أو يواكبه تأسيس نظري يشرح ويبرر هذا التحول.

وأختم بالتذكير بكون الإسلاميين يعانون في الوقت الراهن من تراجع كبير في التنظير وتقديم الرؤى السياسية التأصيلية، إلى درجة باتت تُنتقد من داخل هذا التيار نفسه؛ فهم الآن "عالة على كتابات فكرية [سابقة] تنتمي لوقتها"، حسب تعبير الأستاذ محمد جميل منصور. إلا أن هذا التراجع التنظيري يصل حد الأزمة الفكرية فيما يتعلق بإنتاج رؤى الدولة الحديثة عند القيادات المحافِظة بشكل خاص.

وقد آن لهذه القيادات في تعاطيها مع المنجز الحداثي أن تتجاوز مرحلة المسايرة والاستسلام، وأن تتصالح مع توجهات قواعدها، وخاصة في ظل التحولات السياسية المتوقعة، وذلك من خلال العودة إلى مشروعها الإحيائي الأصيل، بتقديم رؤية فكرية شاملة لقيادة الدولة والمجتمع، تغلب فيها أسلمة الحداثة على ما يبدو الآن أقرب إلى تحديث الإسلام.

نقلا عن الجزيرة