ولم يكن النفاق والمنافقون موضوعًا يهمّ الأمة الإسلامية في كل زمان ومكان لما جعل الله سبحانه له في القرآن العظيم تلك المساحات الكبيرة من الآيات الكريمات، من أوائل سورة البقرة (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين - البقرة ٨)، الآيات، ثم سورة آل عمران: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون - آل عمران ١١٨)، الآيات، ثم سورة النساء: (إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا - النساء ١٤٥)، الآيات، وهلم جرًا مرورًا بمئات الآيات في القرآن الكريم، والتي تفصّل أحوال المنافقين وعلاماتهم وخطورتهم تفصيلًا، إلى أن نصل إلى سورة كاملة من سور المفصل باسم: سورة (المنافقون).
ولابد من إعادة هذا المفهوم القرآني المركزي إلى مكانه اللائق به في الفكر والثقافة الإسلامية، لابد أن يعلم المسلم أن تعريف المنافق هو إنسان كافر لا يؤمن بالله ولا رسوله ﷺ أصلًا في دخيلة نفسه: (وما هم بمؤمنين - البقرة ٨)، أو هو في أحسن أحواله مذبذب لا يجزم في قلبه بأن هناك إلهًا ولا رسالة نزلت من السماء على رسول أصلًا فيتردد: (مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء - النساء ١٤٣)، إلا أن هذا الكافر الشاكّ يتظاهر بالإسلام ويعمل بأعمال المسلمين ويقول بأقوال المسلمين في ظاهره، لا لشيء إلا من أجل مصالح معينة عند المسلمين -أو غيرهم- لا يمكن أن تتحقق إلا إذا تظاهر بأنه مسلم: (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون - البقرة ١٤).
صحيح أن آيات القرآن تشمل المنافقين الذين كانوا على عهد النبي ﷺ وهؤلاء كان لهم خطرهم الكبير على الدعوة الإسلامية في عصرها الأول، وكان لهم خطرهم على قائدها ﷺ الذي تحالفوا مع أعدائه من كل لون، وحاول اثنا عشر منهم قتله ﷺ في عقبة تبوك وفشلوا في ذلك: (وهموا بما لم ينالوا - التوبة ٧٤)، إلى آخره - إلا أن آيات المنافقين في القرآن لا يُقصد بها الاقتصار على فضح منافقي عصر الرسالة فحسب، بل هي دروس ضرورية للأمة في كل زمان ومكان، لكي ينتبه عقلاؤها وأولو الألباب فيها إلى خطر النفاق والمنافقين، ولكي يتعلموا كيفية التعامل مع تلك الظاهرة الخطيرة.
وبعض الناس يعترض على اتهام الناس بالنفاق بالمعنى العقدي، أي استبطان الكفر وإظهار الإيمان الذي اصطُلح على تسميته بالنفاق الأكبر، وما يترتب على ذلك الاتهام من التعامل معهم كما نتعامل مع الكفار سواء بسواء، وحجتهم أن النفاق حال قلبي لا يطلع عليه إلا الله تعالى، ولعلهم يتذرعون بالقاعدة التشريعية التي يُحاسب فيها الناس على ما يُبدون من أعمال لا على ما نظنّ في قلوبهم من نيات، والقاعدة صحيحة لا ريب، ولكنها لا تنطبق على من يتجاوز نفاقه خصوصية نفسه وخفايا هواجسه، بل يرتكب أعمالًا ويقع في شناعات في الواقع الحيّ، هي بعينها علامات النفاق التي ذكرها الله ورسوله ﷺ. هنا يمكن أن نحكم على هؤلاء بالنفاق بناء على تأكد ارتكابهم لتلك الأفعال، بل ونُجري عليهم أحكام الكفار المحاربين إذا حاربوا معهم، كما نرى بأم أعيننا في واقعنا اليوم.
وقد جرت سنن الله تعالى أن المحن يتمايز فيها المؤمنون عن المنافقين، وجرت سنن الله بأن الصف المؤمن لا يمكن أن ينتصر قبل أن يتحقق هذا التمايز: (ليميز الله الخبيث من الطيب - الأنفال ٣٧)، (وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين - العنكبوت ١١)، والقصد من تمييزهم هو أن يُعزل هؤلاء عن صفوف المؤمنين ولا يُحسبون عليهم ولا يتمكنون من مواقع السلطة أو التأثير فيها، إذ أنهم خطر وضرر لا يُحتمل: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا - التوبة ٨٣)، (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا - آل عمران ١١٨).
إذن، إذا ظهرت علامات النفاق في أناس كما علمناها من القرآن والسنة بما لا يدع مجالًا للشك، حكمنا عليهم بالنفاق يقينًا، وعاملناهم كأعداء أصليين للأمة بما يستحقون من معاملة، خاصة في أوقات الحرب التي لا يستحقون فيها إلا معاملة غليظة كمعاملة الكفار المحاربين سواء بسواء. قال تعالى لنبيه ﷺ ولمن يقتفون أثره من بعده: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ومأواهم جهنم وبئس المصير - التحريم ٩)، وقال تعالى فيهم: (هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله - المنافقون ٤).
وفيما يلي عشرة كاملة من أبرز علامات المنافقين في القرآن الكريم، في رؤوس أقلام حسب ما يسمح به المقام، والتي إذا تحققت بلا شك في أناس حكمنا عليهم بلا شك أنهم من المنافقين، وعاملناهم بما ينبغي لهم من معاملة:
(١) نصرة الكفار على المؤمنين: هؤلاء يعدون الكفار بالنصرة ثم يقومون بها فعليًا، ولو كانت على خُفية خوفًا من المسلمين: (ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرجن معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنكم - الحشر ١١)، ومن النصرة اتخاذ اليهود والنصارى أولياء، أي حلفاء وقت الحرب -والمقصود بطبيعة الحال المحاربون المعتدون منهم-. قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين. فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين - المائدة ٥١-٥٢). فأولياؤهم (منهم) أي يهود ونصارى كما قال الله، وصدق الله.
(٢) إفقار وتجويع أنصار الإسلام حتى يكفوا عن نصرته: هذه اليوم أصبحوا يسمونها سياسات ”تجفيف منابع الإرهاب“ أو ”تجويع الشعوب لتركيعها“ أو ”إفقار الإسلاميين حتى يموتوا جوعًا أو تقع نساؤهم في البغاء“، كما يردد المنافقون وينفذون منذ نصف قرن وإلى اليوم في غزة، لا تُخفي ذئابهم ذلك إلا لمامًا. وهذا من أكبر علاماتهم وهي مصداق قوله تعالي عنهم: (هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السماوات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون - المنافقين ٧).
(٣) كثرة الحلف بالله حماية لأنفسهم ومصالحهم: قال تعالى عنهم: (اتخذوا أيمانهم جنة - المنافقون ٢)، جُنَّة أي وقاية وحماية. (ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا - النساء ٦٢). (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم - التوبة ٤٢)، (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم - التوبة ٥٦)، (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه - التوبة ٦٢)، ومن العجب العجاب أن هؤلاء يجيئون يوم القيامة فيحلفون لله تعالى نفسه كذبًا: (يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم - المجادلة ١٨).
(٤) يبتغون العزة في الكفر، ويظنون الذلة في الإيمان: هم في عصرنا معجبون مبهورون بل عبيد مفتونون بأصحاب السلطة في الإمبراطورية العنصرية الحالية، وهم في نفس الوقت يشعرون بالذلة والعار من انتمائهم إلى أمة الإسلام. قال تعالى عن اختلال موازين العزة والمذلة عندهم: (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون - المنافقون ٨)، وقال: (بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما. الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا - النساء ١٣٨-١٣٩).
(٥) التحاكم إلى قوة الطاغوت لا إلى سلطان الحق: المنافقون ليس عندهم بوصلة ولا معيار ولا سلطان لوحي أو حق أو عدل أو خُلُق أو رحمة أو إنسانية، وإنما البوصلة والمعيار والسلطان الوحيد الذي يحترمونه هو القوة الغاشمة لوسائل العنف والبلطجة على كل المستويات، أو هي حسب الاسم القرآني البليغ لتلك الظاهرة الخطيرة: التحاكم إلى الطاغوت. قال تعالى عنهم: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به - النساء ٦٠).
(٦) الخوف والذعر: المنافق رعديد مرتعب من حساب الناس له وتجده يخاف من ظله. قال تعالى: (يحسبون كل صيحة عليهم - المنافقون ٤)، (ويحلفون بالله إنهم لمنكم وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون - التوبة ٥٦)، والفَرَق هو الخوف الشديد.
(٧) الجشع المادي والبخل: هدف المنافقين الأكبر هو تلك المكاسب المادية التي يحققونها من المسرحية التي يمثلون أدوار المسلمين فيها، وهم في هذا الشأن لا يشبعون ولو امتلأت بطونهم إلى التخمة، ولو أكلوا مال الصدقة أو حقوق الناس. قال تعالى: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون - التوبة ٥٨)،
(٨) قسوة القلوب كأن الرحمة قد نزعت منها: عند المنافق، ليس هناك إشكال ولا تطرف له عين ولا يندى له جبين من قتل الناس البريئة، أو إفساد البيئة الطبيعية بما عليها من مخلوقات. هذا ما تنضح به قلوبهم كما يظهر في أعمالهم: (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام. وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل - البقرة ٢٠٤-٢٠٥).
(٩) الدعوى الكاذبة أنهم مصلحون وساعون في الخير: وما أكبر وأعرض وأكذب دعاوى المنافقين أنهم مصلحون ومحسنون وتوفيقيون وحلّالون لكل أزمة. قال تعالى: (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون - البقرة ١١)، (ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا. أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم - النساء ٦٢-٦٣).
(١٠) الاهتمام بمظاهر الأجسام مع خراب القلوب: (وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم كأنهم خشب مسندة - المنافقون ٤).
وبعد. فإنه في ظل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها أمتنا والحرب الإمبريالية الشاملة التي يشنها الأباطرة من أهل الكفر عليها جهارًا نهارًا، بدءًا من إبادة الشعب الذي يحتل محل القلب من جهادها وكرامتها وعزتها ومقدساتها في فلسطين، والتي بدأت حربهم تتسع إلى حرب شاملة دقت طبولها لإعادة ترتيب الخريطة الدولية كما يريد أعداء الأمة وعلى حساب شعوبها ومقدساتها ومقدراتها، فإنه لا مجال للتسامح مع المنافقين في قيادات الدول ولا في بطاناتها والنافذين فيها وهم كُثْر في أيامنا النحسات هذه، ولا مجال للتسامح مع المنافقين في صفوف المجاهدين والداعمين على كل جبهة، ولا في غيرها من المواقع. لا مناص من مواجهة ظاهرة المنافقين على كل المستويات في واقعنا والتعامل معها بالجدية التي تليق بخطورتها. لابد من جهاد المنافقين.