تمر هذه الأيام على عملية طوفان الأقصى سنة كاملة، ولم يتغير شيء في أفق القضية الفلسطينية، ولا في المؤسسات الدولية المؤثرة في حكم وتسييره العالم، وذلك لاعتبارات معروفة ومحفوظة وهي أن المعركة غير متكافئة، وفي بيئة غير مكتملة الشروط اللازمة ومناسبة بالقدر الكافي... فحركات مقاومة مهما أتيت من قوة لا تقاس، بجيش مدجج بأحدث الأسلحة والتكنولوجيات الحديثة، ومدعوم من قبل دول العالم العظمى كلها، وياتيه المجج من كل مكان، وفي واقع عربي مهزوز ومهزوم، ومع ذلك فقد حققت الكثير من المكاسب التي غفلت عنها الأمة وتغافل عنها العالم، ومهما تكن نتائج هذا الحدث العسكري المخابراتي السياسي عالي المستوى، فإنه التاريخ قد سجل في ملفه الذي لا ينسى ولا يغفل ما يلي:
أولا: أثبتت عملية طوفان الأقصى، أن المقاومة في مثل هذا الواقع الذي يشهده أهلنا في فلسطين، هي السبيل الوحيد لتحرير البلاد والعباد، وليس التطبيع والحوار السلمي السلبي. وأن الشعوب مهما كانت ضعيفة فإن حركاتها مباركة وقابلة للتطور والتقوية والارتقاء إلى مصاف القوى الفاعلة. والشاهد على ذلك هذه العملية "طوفان الأقصى"، التي تعد أكبر دليل على إمكانية تطور الضعيف وارتقائه، إذ لم تكن حركات المقاومة في فلسطين –ومنذ ثمانينيات القرن العشرين- إلا مجرد انتفاضات ومظاهرات سلاحها الحجارة والملوطوف... فتحولت مع الأيام والسنين إلى قوة استخباراتية وعسكرية تناطح أكبر قوة عسكرية في المنطقة، ورغم أنها لم ترتق إلى مستوى الجيوش النظامية في العالم، إلا أنها أحرجت الصهاينة وأربكت العالم بما تقوم به من أنشطة جهادية عالية المستوى، عسكريا واستخباراتيا وسياسيا؛ بل لم يشهد العالم منذ الحرب العالمية الثانية ارتباكا كالذي شهده هذا العام ما بين 7 أكتوبر 2024 /إلى يومكتابة هذه السطور من أواخر شهر سبتمبر.
ثانيا: في الأسبوع الأخير من سبتمبر 2023، أعلن نتنياهو في الأمم المتحدة بشارته للعالم بأن دولته في مأمن وقال "كنت في العالم الماضي قد حذرتكم من الخطر الإيراني على المنطقة، واليوم أبشركم بأن بلادي في مأمن من العدو" لا يخاف عليها منت أحد فهي محاطة بدول صديقة بعد أن كانت محاطة بدول عدوة لعقود طويلة، وأظهر خريطة فلسطين التاريخية المحاطة بالأعداء، وفلسطين المحتلة اليوم بلون أخضر محاطة بالمطبعين والأصدقاء، وكما أعلن عن قرب التطبيع السعودي الذي سيكون له ما بعده من الأثار السياسية والاقتصادية، كما أشار إلى الانقلاب الاقتصادي والسياسي والعلاقات الدولية بعد "إتمام عملية التطبيع"، والتحولات الاقتصادية التي سيشهدها العالم بفضل الخطوط البرية والبحرية الجديدة التي ستفتح عبر النشاط الصهيوني لكل العالم بقدر ما يتم التضييق على العالم العاربي والإسلامي، ومن ثم الهيمنة الكلية على خريطة الشرق الأوسط... ولم يمر إلا أسبوعان حتى تنفجر الأوضاع في غزة بعملية طوفان الأقصى، ضاربة بشارة نتنياهو في الصفر، لتكشف عن الاإستقرار الذي تشهده المنطقة، والذي لن يكون إلا باستقلال فلسطين، وجلاء الصهاينة عن المنطقة.
ثالثا: كشفت عملية طوفان الأقصى عن هشاشة النظام الصهيوني وضعفه، ولولا المدد الأمريكي الأوروبي لما استطاع الصمود ولسقط هذا الكيان في رمشة عين، كما زعزع الطوفان واقع السلطة الفلسطينية التي لم تحرك ساكنا منذ اغتيال ياسر عرفات، ولم يبق لها من دور تقوم به إلا التآمر على المقاومة وعلى كل من يفكر في تحرير فلسطين، بفضل التنسيق الأمني مع الصهاينة. ومع ذلك لم تكن محمودة من قبل العدو. ورغم أن أبو مازن لا يتردد في التعبير عن احتقاره للمقاومة بأساليبه الساخرة المختلفة، فإن المقاومة قد فتحت له منافد ليتحرك، ولكنه بكل أسف لم يحرك ساكنا؛ بل اضطر رجال السلطة لنفض الغبار عنهم ليعلنوا عن أن أوسلو قد سقط ولم يبق له معنى.
لقد تحرك كل العالم للمطالبة بالدولة الفلسطينية إلا المعني الأول وهي السلطة الفلسطينية، التي لم تحرك ساكتا ولم تُنْطِق ساكتا، إلا بعد عام تقريبا، حيث طلع علينا أبو مازن بخطابه الدي افتتحه بقوله "لن نرحل لن نرحل لن نرحل"، وفيما عدا ذلك لم يقل شيئا.
رابعا: أثبت طوفان الأقصى بطلان جميع الحلول الترقيعية التطبيعية، ومن ذلك فكرة الدولة الفلسطينية، سواء بالصيغة الغربية التي تراها حكما ذاتيا في ظل الدولة العبرية، أو في شكل سلطة مستقلة على جزء من فلسطين التاريخية، وذلك لأن فكرة الدولة الفلسطينية بالصيغ المطروحة لن تتحقق لما بين الفرقاء من اختلافات جوهرية، ومن ناحية أخرى أن الصهاينة لن يقبلوا بها بسبب ما شاهدوا من تطور نوعي للمقاومة، فلم تعد المقاومة مجرد مجموعات مبعثرة ومتنازعة، وإنما أضحت قوة ضاربة لها ثقلها، فماذا لو كان للفلسطينيين دولة؟ كيف سيكون حال هذا الشعب وقت امتلك الطائرات والمطارات والمكانة الدولية فتقيم العلاقات والشراكات والمشاورات والتحالفات...إلخ.
إن الموقف الصهيوني اليوم سيكون أشد صلابة من أي وقت مضى، لما رأى من المقاومة، في رفض الدولة الفلسطينية، وكذلك المقاومة التي لا تعترف بالدولة الصهيونية فهي رافضة من حيث المبدإ مشروع الدولتين؛ لأنها تؤمن بتحرير البلاد كلها.
خامسا: فضح طوفان الأقصى أن الصهاينة ليس استعمارا عاديا كما كان الاستعمار التقليدي في صيغته التاريخية، وإنما هو استعمار ممثل لقوى الاستعمار العالمية، فقد انتفض كل العالم داعما للصهاينة مقررا أنه لهم الحق في الدفاع عن أنفسهم، دعم لم يقف عند المواقف السياسية وحسب، وإنما دعم بالمال والسلام وقطع الغيار، وتنقل الأساطيل والبوارج البحرية في عرض البحار، وربما بلغ الأمر تهديد كل من يدعم المقاومة ويساندها بشكل من الأشكال مساعدتهم، بحيث لم تجد المقاومة من دعم في العالم إلا من إيران وأذرعها، وفي أطر محدودة جدا لأن إيران أيضا لها مصالحها وعلاقاتها التي لا تتجاوزها، وبصفة أقل الجزائر البعيدة عن المسرح.
سادسا: لقد فضح طوفان الأقصى النظم الغربية كلها أمام شعوبها، بحيث تحركت شعوب العالم كله في اتجاه إحقاق الحق وإبطار الباطل، بحيث لم يخل شارع من شوارع عواصم العالم من مظاهرات داعمة للشعب الفلسطيني، واحتجاجا على دول العالم الداعمة للصهاينة، بما في ذلك الشعب الأمريكي الذي تحرك في اتجاهات مختلفة، منها الاحتجاج الذي رفعه الكثرون فعبروا عن رفضهم تسليح الصهاينة بأموال الضرائب التي يدفعها المواطن من عرق جبينه، وكذلك حركة الطلبة في الجامعات الأمريكية تحديدا، الذين نظموا اعتصامات في جامعاتهم احتجاجا على قتل الأطفال والنساء والغارات على المستشفيات وتجريف المقابر، ورفضا للتعون مع المؤسسات الصهيونية، والمطالبة بفسخ عقود الجامعات مع الجيش الصهيوني.
ولم يبق الاحتجاج والفضح للأنظمة الغربية على مستوى عامة الشعوب، وإنما انتقل إلى النخب المتخصصة مثل الحامين ومنظمات حقوق الإنسان؛ بل تحركت بعض الدول في إطار المؤسسات الدولية، برفع دعاوى قضائية ضد الكيان الصهيوني، لتصنيفه ضمن مجرمي الحرب والإبادة.
سابعا وأخيرا: أثبت طوفان الأقصى لشعوب العالم الإسلامي اليائسة، إلى أن الشعوب لا تقهر، وكشف لهم عن الكثير من وسائل المقاومة التي بين أيديهم، من التي تساهم في نهضتهم ومساهمتهم في تحرير فلسطين.
وأول هذه الوسائل مقاطعة المنتجات الغربية والاستغناء عنها، لا سيما في الأمور الكمالية، وذلك من أهم الآليات المساعدة على الاستقلال الاقتصادي الباعث على تحريك الاقتصاد الوطني، للتحرر من هيمنة الغرب، لا سيما وأن القضية الفلسطينية مستعمرة استعمارا استيطانيا غير عادي، بدعم من جميع الدول الغربية التي تمثل الاستعمار التقليدي؛ لأن الوجود الصهيوني في فلسطين، ضمان لجميع المصالح الغربية في المنطقة.
ورغم الآلام والمواجع ومع أصاب اهلنا في غزة والحصيلة الثقيلة للأرواح، أكثر من مائة الف بين شهيد ومصاب، و75 بالمائة من غزة محطم ومباد، وملايير من الممتلكات أتلفت...، ومع كل هذه المآسي، قد حققت المقاومة الكثير من المنجزات السياسية التي كان يمكن للسلطة أن تدعمها وتدخل على الخط فتستثمر في الدب عن الشعب والضغط على الصهاينة، لكن بكل أسف لم يجد أبو مازن ما يقوله في الأمم المتحدة بعد عام من الجرائم الصهيونية في حق الشعب الفلسطيني وأهل غزة تحديدا، إلا مطالبة دول العالم في مساعدته على الدخول إلى غزة، ليسترجعها بعدما افتكتها منه المقاومة، وجعلتها قاعدة للمقاومة متحررة من كل التزام خانع مخذول.