بدأ الوجود الموريتاني في قطر في منتصف سبعينيات القرن الماضي، وتحديدًا سنة 1975، بعد التأسيس الحديث لدولة قطر، وتميزت العلاقة بين الدولتين بالقوة والتطور، حيث كان الرئيس المختار داداه من أوائل الرؤساء العرب الذين زاروا الدوحة بعد استقلال قطر، ما يؤكد أهميتها عنده في ظل وجودها بجوار دولتين تربطهما علاقات قديمة وراسخة بالجمهورية الإسلامية الموريتانية، هما المملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة.
وإذا كان الاهتمام الموريتاني بهذه العلاقة متميزًا، فإن الجهد القطري لتطويرها ظل حاضرًا وقويًا، واشتركت الدولتان في اتفاقيات، ووقعتا مذكرات تفاهم في عدد من المجالات الهامة، وتبادل المسؤولون الزيارات، التي وطّدت علاقات الأخوة بين البلدين والشعبين الشقيقين، وينتظر هذه العلاقات آفاقٌ للتطوير والرفع من مستوى فاعليتها، واستفادة كلا البلدين منها بشكل أكبر.
زيارات متبادلة
كان من أولى الزيارات زيارتان للرئيس المختار داداه في السبعينيات للدوحة؛ الأولى منهما عام 1972، تلك الزيارة التي جاءت لتهنئة سمو الأمير الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني بمناسبة توليه حكم دولة قطر، كما كانت تأكيدًا على أهمية العلاقة الناشئة مع البلد الشقيق، ولبحث مجالات التعاون وجوانبه المتعددة، ثم أعقبتها زيارته عام 1975، رفقة الرئيس السنغالي السابق "ليوبولد سيدار سنغور"، حيث استقبلهما سمو الأمير الشيخ خليفة بن حمد آل ثاني، واتفقوا على فكرة "تجسيد التعاون الأفريقي العربي، خاصة فيما يتعلق بدعم القضية الفلسطينية"، وظلت العلاقات مستمرة رغم تعاقب الرؤساء والأمراء في البلدين.
ولم تقتصر زيارات الرؤساء الموريتانيين للدوحة على زيارات الصداقة والعمل، بل تجاوزتها إلى الإقامة والمشاركة في الفعاليات العربية والدولية، حيث كانت الدوحة مستقر إقامة الرئيس معاوية ولد الطايع من أيام الانقلاب عليه في أغسطس/ آب 2005م، إلى الآن، ما يعطي إشارة إلى أن له سابق علاقة وأخوة وصداقة بنظيره آنذاك، سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة. بالإضافة إلى ما تحرص عليه قطر من صناعة الرصيد المعنوي أو القوة الناعمة، عبر مبادراتها في جوانب متعددة، من بينها استضافة الرؤساء والشخصيات العامة.
لكن الرئيس معاوية قبل إقامته في الدوحة كان قد زارها زيارة رسمية في ديسمبر/ كانون الأول 2003م، ردًا على زيارة قام بها سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لنواكشوط بعد محاولة الانقلاب الفاشلة 2003م، التي دبرها "فرسان التغيير"، وفي فبراير/ شباط عام 2006 زار قطر زيارة رسمية رئيس المجلس العسكري للعدالة والديمقراطية، رئيس الدولة، العقيد المرحوم إعلي ولد محمد فال، وذلك تلبية لدعوة من سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني.
سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، كان بدوره أول زعيم عربي يزور موريتانيا عام 2008، بعد انتخاب أول رئيس مدني، المرحوم سيد محمد الشيخ عبدالله، وكانت برفقته حرمه الشيخة موزا بنت ناصر، وأوان تلك الزيارة عبّرت الدوحة عن سعيها إلى تمويل أكبر مشروع لاستخراج وتركيز الحديد الخام شمالي موريتانيا، بتكلفة مليار ونصف المليار دولار، وهو ما عرف بمشروع "العوج".
وأوان الحرب على غزة (ديسمبر/ كانون الأول 2008 – يناير/ كانون الثاني 2009)، شارك الجنرال محمد ولد عبدالعزيز بصفته رئيس المجلس الأعلى للدولة الحاكم آنذاك في القمة العربية التي عقدت في الدوحة في يناير/ كانون الثاني 2009م، وأعلن في ختام أعمالها اتفاق موريتانيا وقطر على تجميد علاقاتهما مع إسرائيل.
وبعد وصول الرئيس ولد عبد العزيز إلى الحكم عبر الانتخابات، استمرت العلاقات بين البلدين في تطور مطرد، وتوج ذلك بزيارتين؛ الأولى عام 2011 لولد عبدالعزيز لحضور حفل افتتاح الألعاب العربية التي استضافتها العاصمة القطرية الدوحة، والثانية إلى نواكشوط عام 2012، أداها سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، لتفتح تلك الزيارة آفاقًا جديدة من التعاون الثنائي، نتج عنه توقيع 13 اتفاقية تعاون ومذكرة تفاهم (سيأتي ذكر مواضيع بعضها لاحقًا)، لتستمر تلك العلاقات الصادقة والتقدير الوافر بين البلدين.
هذه العلاقات أكدها سمو الأمير الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بحضوره أعمال القمة العربية المنعقدة لأول مرة في نواكشوط 2016م، حين تقاعس عنها ملوك ورؤساء ومسؤولون. وفي مارس/ آذار 2023م، زار الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني الدوحة للمشاركة في القمة الخامسة للأمم المتحدة حول الدول الأقل نموًا.
ورغم أن طابع بعض هذه الزيارات يختلف، فتارة تكون زيارة عمل ومشاركة في فعاليات، وتارة تأتي في إطار الصداقة والأخوة والتعاون الثنائي، فإنها كانت مهمة لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين.
لم تقتصر الزيارات القطرية الموريتانية على قادة البلدين، بل شملت شخصيات من مناصب ومراتب مختلفة؛ منها زيارة سمو الشيخة موزا بنت ناصر التي قامت بها إلى نواكشوط ومقاطعة بوتلميت 2007م، ودشنت فيها مستشفى حمد بن خليفة المنجز من طرف المؤسسة القطرية الموريتانية للتنمية الاجتماعية، بالشراكة مع وزارة الصحة الموريتانية وجمعية قطر الخيرية، وبدعم من سمو الشيخة موزا التي تبنت آنذاك مشروعًا متكاملًا لعصرنة المدينة، يتضمن وضع مخطط عمراني، يجعلها تخضع لمعايير البنى التحتية الحديثة، وذلك قبل أن يتعثر المشروع.
كما قام عشرات المسؤولين القطريين الذين يمثلون مؤسسات وقطاعات قطرية مختلفة بزيارات عدة لموريتانيا، إلى جانب وزراء ومسؤولين موريتانيين، كانت الدوحة – ومازالت- تستضيفهم في مهام عمل منذ تأسيس العلاقات حتى اليوم.
اتفاقيات ومذكرات تفاهم
وقعت موريتانيا وقطر عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم في عدد من المجالات، ويبدو أن هذه الاتفاقيات بدأت تشمل مجالات عدة، منذ وصول سمو الأمير الشيخ حمد بن خليفة، إلى سدة الحكم منتصف التسعينيات، حيث ارتبط البلدان بعدد من الاتفاقيات منها:
• اتفاقية إعلامية موقعة في الدوحة بتاريخ 25 فبراير/ شباط 1997.
• اتفاقية تعاون بين وكالتي الأنباء الموريتانية والقطرية موقعة بتاريخ 1 مارس/ آذار 1998.
• اتفاقية تقضي بإنشاء لجنة مشتركة للتعاون، موقعة في الدوحة بتاريخ 16 مارس/ آذار 1998.
• ثلاث اتفاقيات حول التبادل التجاري وتشجيع الاستثمار وتجنب الازدواج الضريبي سنة 2004.
وشملت الاتفاقيات بالإضافة إلى ما تقدم جوانب أخرى من بينها:
• اتفاقية إنشاء لجنة عليا مشتركة عام 2000م.
• مذكرة تفاهم للتعاون والتنسيق بين وزارتي خارجية البلدين عام 2002م.
• اتفاق التبادل التجاري والتعاون الاقتصادي والفني عام 2003م.
• اتفاقيات تعاون متعددة تمت في عام 2012، من بينها تعاون في المجالات: القانوني والقضائي، والثقافي، والشؤون الإسلامية والأوقاف، واتفاقية تنظيم استخدام العمال الموريتانيين في دولة قطر، واتفاقية للتعاون في مجال حماية البيئة والتنمية المستدامة.
• كما تم أيضًا خلال العام نفسه توقيع مذكرات تفاهم في عدد من المجالات من بينها مذكرة تفاهم للتعاون في مجال التعدين، ومذكرة تفاهم للتعاون السياحي، ومذكرة تفاهم للتعاون في مجال الزراعة والبيطرة، ليتم بعد ذلك الاتفاق على "البرنامج التنفيذي الأول للاتفاق الإعلامي بين حكومتي البلدين للأعوام 2011-2013م".
وفي بداية أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم أجاز مجلس الوزراء القطري مشروع مذكرة تفاهم بين البلدين، يهدف إلى تعزيز التعاون في مجالي السياحة وفعاليات الأعمال، كما أعلن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في مقابلة مع وكالة الأنباء القطرية عن وجود شراكة بين "قطر للطاقة" و"الشركة الموريتانية للمحروقات" في مجال استكشاف الغاز في المياه الموريتانية.
كما سبق هذه الاتفاقيات ومذكرات التفاهم تقديم قطر لموريتانيا في التسعينيات قرضًا بمبلغ سبعة ملايين دولار لتمويل مشاريع صحية وتعليمية، وفي عام 1998، تم إلغاء الديون المترتبة على هذا القرض، كما قدم صندوق قطر للتنمية عام 2015م منحة بقيمة "25" مليون دولار لبناء ثلاثة سدود في موريتانيا.
وأخيرًا تعهدت جمعية قطر الخيرية بالمساهمة في تمويل مستشفى جمعية إيثار الصحي لمرضى السرطان الموريتانية، بمبلغ 1.32 مليار أوقية موريتانية قديمة (ما يقارب 12 مليون ريال قطري)، هذا بالإضافة إلى عملها المستمر في موريتانيا عبر مشاريعها المتعددة.
آفاق للتطوير
لا يمكن تجاهل وجود فرص حقيقية وآفاق واعدة لتطوير مسار هذه العلاقات، التي يزيد عمرها على خمسة عقود، وتتوزع فرص تطويرها عبر مجالات مختلفة، يمكن لكلا البلدين الاستفادة منها؛ ففي الجانب القطري يمكن لموريتانيا أن تستفيد من العلاقات مع قطر في جوانب منها:
• السعي الجاد إلى جلب الاستثمار القطري لاكتشاف الغاز الموريتاني، الذي تتسابق الشركات العالمية نحوه، وقطر بصفتها دولة مصدرة للغاز، وصاحبة تجربة طويلة وكفاءة عالية في استخراجه وتصديره، يمكن أن تتولى – بالشراكة مع الدولة الموريتانية وبعض الشركات العالمية العاملة في المجال- استخراج الغاز بأسعار مناسبة للجانب الموريتاني.
• دعوة رجال الأعمال والشركات القطرية إلى الاستثمار في المجال الزراعي، وتسهيل التراخيص، ما سيساعد على دخول قطر مجال الزراعة الموريتانية، وهو مجال مازال جديدًا وواعدًا بفضل التربة الصالحة للاستثمار، وحداثة التجربة الموريتانية التي تطمح للاكتفاء الذاتي للسوق الموريتانية في هذا الجانب، كما يمكن للمستثمرين العمل على تصدير الخضراوات والفواكه من موريتانيا نحو قطر.
• منح الطلاب الموريتانيين عبر تخصيص نسبة من المقاعد لهم في الجامعات القطرية سنويًا، لتأهيلهم في المجالات التي تحتاجها موريتانيا الآن، كالتخصصات المرتبطة بمجال الغاز والنفط والطاقة المتجددة، والانفتاح على التعليم الإنكلسكوني، الذي ما زال ضعيفًا في موريتانيا نظرًا لهيمنة نظيره الفرنكوفوني.
• البحث عن تأسيس مشروع للتعاون الثقافي مع قطر، كإنشاء متحف أو مركز ثقافي في نواكشوط، يساعد في تطوير البيئة الثقافية وسوق الكتب في موريتانيا، ويمكن أن يكون ذلك عبر هيئة متاحف قطر، أو مؤسسة الحي الثقافي (كتارا)، أو مكتبة قطر الوطنية، وكلها مؤسسات رائدة في المجال الثقافي، ورعاية التراث والمهتمين به.
• محاولة الاستفادة من برامج "صلتك"، وهي مؤسسة اجتماعية غير ربحية دولية تابعة لمؤسسة قطر للتعليم، ومهتمة بتشغيل الشباب، والتعاون معها يعطي فرصة لتمويل مشاريع لتوظيف الشباب الموريتاني.
أما بالنسبة لقطر، فيمكنها أن تستفيد من تطوير العلاقات مع موريتانيا من خلال:
• استيراد الألبان واللحوم والأسماك من موريتانيا، حيث تتوفر هذه المواد بكثرة وجودة عالية، وأسعار منافسة، وتحتاجها السوق القطرية المستهلكة.
• استيراد مواد الحديد الخام، وتصفيتها وتكريرها، حيث تعتبر قطر مستهلكة لمادة الحديد بشكل كبير، نظرًا للإنشاءات والمشاريع التي تعمل عليها في أفق رؤية قطر الوطنية 2030م، وسبق أن لاحظنا اهتمام قطر باستخراج وتركيز الحديد الخام في موريتانيا، وسعيها لتمويل مشروع بهذا الخصوص.
• الاستفادة من الريادة الموريتانية في مجال العلوم الشرعية واللغوية، عبر استقدام أئمة وخبراء شرعيين ولغويين، بمستوى عالٍ، يسندون المؤسسات التعليمية والإرشادية في قطر.
• اختيار قضاة شرعيين وقانونيين، للعمل في مجال القضاء، الذي تحتاج قطر فيه إلى كادر قضائي يتمتع بخبرة ومعرفة عالية، ولدى موريتانيا قضاة شباب تتوفر فيهم هذه المعايير، ويمتلكون تأهيلًا جيدًا.
• توجه مكاتب المحاماة القطرية نحو المحامين الموريتانيين واستقدامهم للعمل عبر عروض وعقود عمل مناسبة، وستستفيد هذه المكاتب من الخبرة القانونية للمحامين المهنيين، الذين درسوا لسنوات في مركز الدراسات القانونية المهنية، ومارسوا في مكاتب المحاماة المنتشرة في مختلف الولايات الموريتانية.
• تفعيل اتفاقية استخدام العمال الموريتانيين في دولة قطر، عبر استقدام موظفين في مجالات مختلفة، من أهمها دفعات للعمل في الشرطة والجيش وقوة الأمن الداخلي (لخويا)، إذ لدى موريتانيا نسبة معتبرة من الشباب العاطل عن العمل، ويبحث عن الهجرة نحو أميركا، ومختلف بلدان الغرب، وقطر تحتاج هؤلاء الشباب، نظرًا لسمعة الموريتانيين الطيبة في هذه الأسلاك من خلال الدفعات السابقة، وأيضًا للتغلب على النقص الحاصل فيها نتيجة تأثرها بالاستقالات بعد نقص الرواتب والعلاوات بفعل تداعيات جائحة كورونا.
لايخفى على القارئ الكريم رسوخ هذه العلاقات التي تحدثنا عنها، وتعدد مجالات التعاون التي يمكن للبلدين الشقيقين العمل فيها، والآفاق التي من الممكن أن يصلها تطوير هذه العلاقات، وهو ما يلقي مسؤولية جسيمة على قادة البلدين، والمدبرين للشؤون الخارجية والدبلوماسية فيهما.
ولا يمكن اعتبار هذه الورقة وافية بمختلف جوانب الموضوع ومحطاته الهامة، إلا أنها إسهام في تدوين وتوثيق بعض محطات تلك العلاقات، واستشراف آفاقها، على أمل العودة له بشكل أعمق ومن زوايا مختلفة.