لم يكن يوسف ندا رجلا عاديا منذ شبابه إلى أن وافته
المنية وعمره 93 سنة، التحق بجماعة الاخوان المسلمون وعمره 17 سنة عام 1947 وارتبط اسمه بشبكات الجهاد ضد الاحتلال البريطاني في مصر عام 1951، كانت حياته الطلابية في كلية الزراعة عامرة بالعمل الدعوي والكفاح ضد الاستبداد في إطار اتحاد طلبة الكلية ففصل من الجامعة وشطب اسمه من سجلات الطلاب، وتم سجنه لمدة عامين بين 1954-1956 في عهد جمال عبد الناصر، ثم عاد للجامعة ليكمل دراسته عام 1959، وبسبب شدة التضييق قرر الهجرة خارج مصر فاتجهت حياته إلى مجالين عظيمين نجح فيهما نجاحا باهرا، أولهما مجال المال والأعمال الذي تعلم أصوله في بيئته العائلية حيث كان والده من التجار والصناعيين المصريين ، برع الاستاذ يوسف ندا في هذا المجال حتى صار علما فيه، حقق في مسيرته نجاحات مبهرة من خلال العديد من المؤسسات العالمية التي أسسها وأدارها، كما ساهم مساهمة كبيرة في تطوير النظرية الاقتصادية الإسلامية في الفضاء العملي، من خلال إشرافه الفني ومساهمته المالية في تأسيس " بنك فيصل الإسلامي المصري" بطلب من الأمير محمد بن فيصل، ومن خلال تأسيسه لبنك التقوى المشهور الذي ارتبط اسمه به، والذي كان نموذجا ناجحا للصيرفة الإسلامية والتمويل الشرعي حيث عرف البنك ازدهارا كبيرا لسنوات بعد بدايته عام 1988 قبل أن يوجّه له الاستكبار العالمي الغربي سهامه، فاتهم بتمويل الإرهاب من قبل الرئيس جورج بوش نفسه، وأغلق البنك بعد أحداث 11 سبتمبر وجمدت أموال مجموعة التقوى ومجموعة ندا، ووضع تحت الإقامة الجبرية في سويسرا، وبالرغم من عدم إثبات أي تهمة من التهم التي وجهّت إليه وتمت تبرئته قضائيا في بلدي إقامته سويسرا وإيطاليا وأعلنت الخارجية السويسرية عام 2009 شطب اسمه على مستوى مجلس الأمن الدولي من قائمة داعمي الارهاب لم تسقط الولايات الأمريكية المتحدة اسمه من "القائمة السوداء "، الى غاية 2015 حين رفع التجميد عن شركاته وأمواله، بعد ان اصابها ضرر كبير رفض طلبه للتعويض عليه، وقد تسبب هذا الظلم في ضياع أموال المودعين الأبرياء. وبسبب انتمائه للحركة الإسلامية اتهمته العديد من الدول، دون أي دليل، بتمويل الجماعات والأحزاب الإسلامية المعارضة، ومن ذلك اتهامه بتمويل الجبهة السلامية للإنقاذ الجزائرية.
والمجال الثاني الذي برع فيه الاستاذ يوسف ندا مجال العلاقات الدولية حيث كان مفتاحا اساسياً في العلاقات الدولية لجماعة الاخوان المسلمين، وساهم في حل العديد من الأزمات بين الدول، ومن ذلك أزمة الرهائن الأمريكان في ايران أثناء الثورة الإيرانية، التي كان للجزائر الدور الحاسم فيها، وتوسط بين السعودية وايران والسعودية واليمن، وحاول رحمه الله التوسط بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ والسلطة الجزائرية حيث زار قادة جبهة الإنقاذ في السجن والتقى مع المسؤولين الجزائريين، وقد كانت تلك المبادرة بطلب من الشيخ محفوظ نحناح رحمه، علما بأنه كانت بين هاذين القائدين المتميزين علاقة وطيدة ومحبة خاصة، وكان الأستاذ يوسف ندا من مراجعنا في العلاقات الدولية.
وبدل أن تستثمر السلطات المصرية في قدرات هذا القائد الفذ، في المجال الاقتصادي والعلاقات الدولية، وفي خبرته وحكمته وتجربته، اعتبرته - كما هو شأن الأنظمة الاستبدادية مع الشخصيات القوية والمتميزة - أحاله حسني مبارك إلى المحكمة العسكرية الاستثنائية وحكم عليه غيابيا عام 2008 بعشر سنوات سجنا، وألغي الحكم بعد قيام ثورة يناير 2011 .
لقد تشرفت بالتعرف على هذا الرجل الفذ واستفدت منه، وكان يستبشر خيرا بي بحمد الله، وعلمت منه عن علاقاته المتميزة بالجزائر على المستوى الرسمي وبعض الفاعلين في المجتمع وعن مشاريعه التجارية، وكانت له رؤية حصيفة في كيفية النهوض بالاقتصاد الجزائري، وطلب مني أن أتوسط له في بعض المشاريع المفيدة للبلاد، ولكن للأسف الشديد لم نتمكن من ذلك، كما هو الحال مع أغلب الوساطات التي قمنا بها منذ عهد الشيخ محفوظ رحمه الله الذي تعلمنا منه أهمية جلب الاستثمار للجزائر، ولو أكتب ما قمت به من محاولات في هذا الشأن لألفت مدونة، يفهم من خلالها القارئ صعوبة الاستثمار في الجزائر، والحساسية المفرطة تجاه المستثمر العربي، خصوصا إذا كان معروفا بالتزامه أو بعلاقته بالحركة الاسلامية.
لقد كان آخر لقاء لي بالأستاذ يوسف ندا في بيته قبل بضعة سنين بدعوة منه في بيته الجميل في كمبونيا الإيطالية وهي بلدة بديعة ذات عراقة تاريخيّة بمقاطعة كومو في منطقة لومبارديا، تقع على شاطئ الجنوب الشرقي لبحيرة لوغانو على شريط ضيق من الأراضي الإيطالية محاطة من كل جانب بسويسرا . وقد مررت على الاستاذ ابوبكر قدودة ليرافقني اليه لمعرفته بالمكان وعلاقته بالرجل، ورافقنا في الرحلة الاستاذ إبراهيم شعباني وكانت الرحلة مؤنسة عظيمة الفائدة مع ذلك الرجل الاستثنائي رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وعوضنا الله فيه بجيل من امثاله في الظروف الاستثنائية التي نمر بها.
وأوجه بالمناسبة تعازينا لأهله وأولاده وكل محبيه.
إنا لله وأنا اليه راجعون.
د . عبد الرزاق مقري