
لم يعد ثمة شك في أن "السلم العنيف" الذي يدعو له مفتي دولة الإمارات العربية المتحدة مولانا العلامة المجدَّد الشيخ عبدالله ابن بيه -حفظه الله- وينظر لفلسفته تطبيقا لأمر جازم وتمويل سخي من إمارة أبي ظبي لا يعدو كونه تنفيذا لأجندة صhيونية يمينية متطرفة هدفها القضاء على الإسلام واستنزاف مصادر العزة فيه وتمييع مظاهر الاعتزاز به، وكان المآل المحزن لأنشطة مولانا الشيخ ابن بيه ورحلاته المكوكية بين أبي ظبي وواشنطن وعواصم أخرى هي تشريع التطبيع الإماراتي والخليجي مع الكيان المحتل الذي دافع عنه منتدى تعزيز السلم بقوة وأثار ضجة حينها.
علما أن منتدى تعزيز السلم الذي صعد نجل الشيخ بقوة وسرعة إلى أمانته العامة يخرس عن كل القضايا الإسلامية في فلسطين والشام والصين والهند والغرب بل يخيل للمرء أن المنتدى وشيخه الوقور وأعضاءه يرون أن مناصرة المستضعفين معرة، وتقديرا لجهود سماحة المفتي ومنتداه في التهيئة للتطبيع سميت طلائع صفقة القرن الموقعة برعاية ترامب بـ"اتفاق أبرهام" انطلاقا من مبادئ العائلة الإبراهيمية التي ما زال الشيخ متمسكا بها رغم ما يتلوه فضيلته في سورة آل عمران من براءة سيدنا إبراهيم عليه السلام من غير الإسلام.
لا تحتاج دعوة السلم الظالم إلى تفنيد وبيان عوار لأن الآمر بها والممول لها "وَغِرُ الصدر لا يهم بشيء غير سفك الدما وسبي النساء"، ومن جرائمه الحربية ومكائده الخبيثة يئن أهل ليبيا والشام وغزة والقدس واليمن بل إن الأقليات المسلمة التي تصدر مولانا الشيخ المجالس طويلا تنظيرا لفقهها لم تسلم من كيد ممول الحروب على الإسلام، وليست محاولة مولانا الشيخ الإطفائية للحروب التي يشنها "ولي أمره" إلا صبا لزيت المكر على نار الضغائن.
وبغض النظر عما سبق فإن كل ذي فطرة سليمة يدرك أن دعوة السلم على الهيئة التي يدعو لها مولانا الشيخ مصادمة لحقائق التنزيل وبدهيات الإسلام وسنن التدافع، ومناقضة لطبائع الأشياء ومبادئ نشوء الحضارات وسقوطها وحتمية تبدل الدول وتدول الأيام. فهذه الدعوة للأسف وما يحيط بها لا تعدو كونها دعوة للمستضعفين بالاستسلام الذليل حتى لا يعكروا صفو الطغاة والغزاة والجلادين ولو بالآهات والأنات.
وهنا ينبغي أن نتساءل عن المصادر التي يمتح منها مولانا الشيخ في تنظيره الاستسلامي وهو العلامة المبرز والمفتي الأكبر والمجدد الجهبذ؛ هل هي مصادر إسلامية أعمل فيها الشيخ عدته الأصولية فنسخت كل دعوة لتغيير المنكر وإقامة الجهاد ومنابذة الظالمين وتركت ما سوى ذلك محكما؟ أو أن "أمالي الدلالات ومجالي الاختلافات" تتيح لصاحبها من عمق التأويلات ما يجعل الحرب سلاما والظلم عدلا والخنوع استسلاما؟ أم أن البيئة الشنقيطية العلمية التي نشأ فيها مولانا الشيخ زرعت فيه حب السلم والغرام بالعافية ولما وجد سقيا لذلك الزرع في أبي ظبي أينع وطالت شجرته حتى ظللت إفريقيا انطلاقا من نواكشوط؟.
وللأمانة والإنصاف نلاحظ أن مولانا الشيخ ابن بيه حين يخوض في مهامه السلام ومفازات العائلة الإبراهيمية يخفف من عدته الأصولية والتأويلية ويتجه نحو اقتباسات مختصرة من خلاصات الفلاسفة الغربيين حول جدليات العدل والسلام والأمن والحرية، والذي يهمنا هنا أكثر هو علاقة البيئة الشنقيطية التقليدية بجدلية العنف والسلام نظرا لأن مولانا الشيخ مفتي الإمارات ووجهها الديني الأبرز صار يتخذ من عاصمة بلادي مقرا سنويا لتنفيذ برنامجه "التجديدي" برعاية من الرئاسة ومواكبة إعلامية رسمية عنيفة في تمجيد الشيخ وإعادة اكتشاف أبكار أفكاره في التجديد والتنظير.
في علاقة البيئة العلمية الشنقيطية بجدلية العنف والسلام تفيدنا المصادر التاريخية أنه قبل مولد مولانا العلامة الشيخ بنحو ثمانين حولا أي في عام 1856م نظم كمال الدين الشيخ سيدي الكبير (ت 1284هـ) "مؤتمر تندوجه" وهو مؤتمر علميٌّ لاستنهاض الهمم وجمع كلمة أمراء اترارزه ولبراكنه وآدرار لمواجهة الخطر الداهم للاستعمار، وكان من بين أولئك المؤتمرين الكرام بهجة المجالس وزينة الآداب العلامة والشاعر الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيدي الذي أنشد المؤتمرين رائيته الخالدة المشهورة.
في هذه الرائعة التي سارت بها الركبان لا بد أن يتوقف القارئ فيها مع قيمة الحرية ومحوريتها عند سيدن "فأحرار النفوس" يذوبون شوقا، كما حكم بأنه لو:
ولو في المسلمين اليوم حر... يفك الأسر أو يحمي الذمارا
لفكوا دينهم وحموه لما ...أراد الكافرون به الصغارا
وساموا أهله خطات خسف... يشيب وقوع أصغرها الصغارا...
وبعد تعداد ما يعانيه المسلمون من الضعف والهوان والظلم استفهم:
أجدَّكمُ يرضى بذا كريم... وهل حر يطيق له اصطبارا؟
لا يابن الكرام لا يطيق له اصطبارا إلا دعاة السلم.
في هذه القصيدة دعا سيدن العلماء المجتمعين وشباب الإسلام إلى الابتدار لمواجهة "روم عاينوا في الدين ضعفا"، مذكرا بأن إحدى الحسنين تنتظرهم، وكان مولانا الشيخ عبد الله ابن بيه حفظه الله مقدرا لهذه القصيدة والقيم التي دعت لها وذلك حين كان نظام المرحوم المختار ولد داداه متناغما مع أهازيج الثورة الجزائرية ففي ذي الحجة 1392ه- فبراير 1973م. حيا العلامة عبدالله بن بيه شعب الجزائر "الثائر" وقال في كلمة عظيمة عن تضخياته:
"...إن أصداء الدعوة إلى الجهاد أو الإصلاح إذا رددها جمال الدين الأفغاني والدكتور إقبال والشيخ محمد عبده وابن باديس يتجاوب معها العالم الإسلامي في كل مكان، وتنطلق التحذيرات على كل لسان فيقول الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديا منذ 80 سنة من موريتانيا في قصيدة له يحذر فيها من الاستعمار والويلات التي تنجر عنه:
حماة الدين إن الدين صارا.. أسيرا للصوص وللنصارى..
ثم قال:
إن عهدا جديدا قد بدأ لا محالة وإن ريحا جديدة قد هبت.."ـ ولمولانا الشيخ في مجلة الأصالة الجزائرية إرشيف ثوري وتجديدي جميل.
ولم تكن دعوة ابن الشيخ سيديا الإحيائية لقيم الجهاد ومواجهة الأعداء مقتصرة على هذه القصيدة فثمة قصيدة أخرى يرى المرحوم جمال ولد الحسن في محاضرته عن "شعر الجهاد في موريتانيا" أن قضيتها المركزية "هي إعادة العنف إلى الساحة الدينية"، وأشار جمال إلى أن تلك القصيدة تنتمي لنصوص "كان لأصحابها مستوى أرقى من استشفاف المستقبل والتنبه إلى المخاطر والوعي بالعلاقة المتينة بين الأوضاع الداخلية لمجتمع من المجتمعات ومحيطه الحضاري الذي يحيط به".
تلك القصيدة هي همزيته التي مطلعها:
مَزَجَ الدُّموعَ بمُسْبَلَاتِ دِمَاءِ ,,,, مُتَلَهِّفًا مُتَنَفِّسَ الصُّعَدَاءِ.
ويقول المرحوم جمال عنها: "هذه القصيدة تتعرض لجملة من القضايا الهامة في سياق المجتمع إذ ذاك؛ أولى هذه القضايا هي قضية العنف وحمل السلاح، إذ كان الناس يظنون أنه منذ رفع الشعار "من حمل السلاح فقد ترك الصلاح"، كان الناس يظنون أن المتدين لا يمكن أن يحمل سلاحا، أن الدين ينافي العنف والحرب ولهذا ركز الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديا في هذه القصيدة على رد هذه الأطروحة ونقضها".
والقارئ للقصيدة يخيل إليه أن سيدن يرد بشكل لا مواربة فيه على أصحاب السلم المزعوم أبناء العائلة الإبراهيمية:
بَلِّغْ لِمَن لاقَيْتَ مِمّن يَدَّعِى ,,,, ــ إن لم يَضِنَّ عليكَ بالإصْغَاءِ ــ
أنَّ اتِّبَاعَ المُصطفَى وَصِحَابِهِ ,,,, ومَنِ اقْتَدَى بِهِمُ مِنَ القُدَمَاءِ
فى وَضْعِ أسْلِحَةٍ بها عَزُّوا على ,,,, مَن سَامَهُمْ خَسْفًا مِنَ الجُهَلَاءِ
مِنِّى التَّحِيَّةَ وَالسَّلامَ وأنَّهُ ,,,, تَاللهِ أكْذَبُ مَنْ على الغَبْرَاءِ
مَا صَانَ أحمدُ والصَّحَابَةُ دِينَهُمْ ,,,, إلا بعِزِّ اللهِ ذِى الْآلاءِ
وبَوَاتِرٍ وَمَوَارِنٍ مَسْنُونَةٍ ,,,, وسَوَابِغٍ وسَوَابِقٍ وإبَاءِ
ومُدَجَّجِينَ كريمَةٍ أحسَابُهُمْ ,,,, شُّمِّ الأنُوفِ أعِزَّةٍ شُجَعَاءِ
مِن كُلِّ أبْلَجَ خَائِضٍ غَمْرَ الوَغَى ,,,, مُتَأنِّيًا بسَكِينَةٍ وَحَيَاءِ
يَلْقَى العِدَا فى كَثْرَةٍ مُتَبَسِّمًا ,,,, صَوْبَ الصُّفُوفِ تَبَسُّمَ اسْتِهْزَاءِ
ويستعيد سيدن هنا قيمة الحرية فيقول:
لا حُرَّ يَرْضَى مَا رَضِيتُمْ أنتمُ ,,,, مِن نَهْبِ أمْوَالٍ وَسَفْكِ دِمَاءِ
ثم يلقي سيدن نظرة نحو البيت الإبراهيمي وأهله وينشد:
فلدَى القَوِيِّ هُمُ ذِئَابُ مَفَازَةٍ ,,,, ولَدَى الضَّعيفِ همُ أُسودُ كَرَاءِ
هَيْهاتَ هذا مِن طَريقِ محمدٍ ,,,, وصِحابِهِ وقُفَاتِهِ الكُرَمَاءِ
ويختم الشاعر الثائر بأنه:
لا يَرْدَعُ الجُهَّالَ عنْكَ كضَرْبَةٍ ,,,, بِمُهَنَّدٍ أوْ طَعْنَةٍ نَجْلاءِ.
هذا الفرق بين المؤتمرين مؤتمر تندوجه، ومؤتمر السلم، وهو الفرق بين الإمارتين الإمارات التي حاول الشيخ سيديا توحيدها لمواجهة التحديات، وتلك التي أشاد مفيتها -حفظه الله- بالتطبيع وقال "إنه من الصلاحيات الحصرية و السيادية لولي الأمر شرعا ونظاما". والله ولي التوفيق.
إبراهيم الدويري