
..خطر ببالي عنوان فتح لي باب حديث ذي شجون عن الأُضحية من جوانب لا تتعلق بنقطة المغالاة في السعر، فهذه الملاحظة مما عُلم من المعطَيات بالضرورة.. من أجل ذلك؛ سأجعل عنوان حديثي "الخواطري":
"الصّحّة النفسية والتوازن السّلوكيّ.. وتأثيرُهما على السلامة الجسمية للأضحية"!
ولعل هذا العنوان يصلح مشروع ورشة تثقيفية بين يدي عيد الأضحى المبارك يتنازعها التأصيل الشرعي والتبويب البيطري!
وبين سطور الموضوع يبرز الفرق بين العناية الموضوعية بالذِّبْح (من تعليف وتسمين) وبين الاستعراضية المَظهرية (من تزيينٍ فلكلوري وتَباهٍ تصويري)، مما يتجاوز منصوص المعايير الشرعية من اشتراط استواء خِلقة الأضحية، واستحباب كونها كبشا أَمْلحَ أقرَن، وتجنّب العيوب المبوّب عليها في مراجع الفقه!
**استعراضية مظهرية**
ولعمري لو عادت عقارب ساعة الزمن القهقرى قرونا، لربما عُدّ غَسل الأضحية -قبل الذبح- بالماء والصابون ضربا من التمظهر والتّرف، ولو بقيت مضبوطة على تاريخ اليوم، لعُدّ التفنّن في تزيين الأضحية والتقاط صور "السيلفي" معها متجاوَزا؛ إذ بلغ "التمظهر" درجة إقامة مسابقة لاختيار "ملك جمال الأضاحي" وَفْق مواصفات "بدنية" عنوان ترجيحها الوزن؛ ليفوز -من بين 20 حيوانا- عجل "جسيم" يقال إنّ وزنه بلغ طُنا و30 كيلوغراما!، في حدث استضافته ولاية إسطنبول التركية، وأحاطته مواقع التواصل الاجتماعي بالاهتمام والمواكبة في حينه!
على أن موضة التمظهر لم تقف عند نقطة السِّمن والوزن المرتبطتين بلحم الأضحية؛ بل بلغت حدّ الاهتمام بمنظرها الخارجي، في طقوس شعبية تربعت فيها دولة باكستان على عرش الغرائبية؛ من خلال التفنّن في حلاقة وبر الإبل وتطريز جلودها، حتى صارت أجسادها لوحات فنية تزيد من قيمتها الشرائية، بين يدي النداء عليها في سوق الأضاحي، بل إن النداء نفسَه خرج من ربقة النمط التقليدي وأخذ شكل الظاهرة الرقمية؛ من خلال التسويق -والتسوّق- عبر التطبيقات الإلكترونية.
ولعل أغرب الطقوس الاستعراضية عربيا، ما يُتداول عن الشعب الليبي، من أمر العناية بالأضحية في جانب الزينة، إذ نُقل عنهم تكحيل عيني الأضحية؛ حيث تعمد النساء إلى استخدام قلم الكحل العربي الأسود لتزيين عيني الأضحية كما تتزيّن بنات حواء!
ومن العجائب المتصلة بالطقوس والممارسات الشعبية -في شأن الأضحية- عادة تناطح كباش الأضاحى التي تنسب للشعب التونسي، ولعبة خطف خروف العيد، التي تُعزى لمسلمي الصين؛ إذ يُشاع أنهم ينظّمون منافسات يمتطي فيها الشبان الأحصنة، ثم ينطلقون لخطف الخراف في لمح البصر، ليفوز من كان الأسرع في خطف خروف العيد!
**نفسية الأضحية**
وبعد هذا الفاصل "الغرائبي" لا أرى مِن الخروج عن موضوع الصحة النفسية للأضحية عطفَ "الجانب النفسيّ" على الإجهاد البدني والمرَض الجسمي..
ذلك بأنّ "التوتّرات" و"الاضطرابات" من شأنها أن تؤثّرَ على القيمة الغذائيّة للحوم الحيواناتِ ذاتِ الدّم الحارّ -التي تدخل فيها الأضاحي الشّرعيّة.
وعندي أنّ حضور البعد "السيكولوجِيّ" -في حياةِ الشاة و"تكوينِ شخصيّتِها"- لا ينفكّ عن "حالتِها الشعوريّة" تُجاه "واقعها المعيشي" أو تبعا لـ"ظروفها الحظيرية"، التي هي انعكاس لتفاعلِها السلوكِي داخلَ "وسطِها المجتمعي"!
**تجربة تطبيقية**
..هل أبعدتُ النجعة؟!.. ربما!.. ولكن؛ لا بأس.. سأضرب مثلًا لتأثير التغيّرات الفسيولوجية على سلوك الفرد الحيواني -داخل قطيعه- من خلال تجرِبة بلغني أن أحد الفضوليّين المحليين أجراها على تيسٍ، بدافع الفضول أو على وجه التعزير (نسيتُ أنا).. المهمّ؛ أنّ صاحبنا حلق لحية التيس -التي يبدو أنّها كانت تاج هيبته وعنوان "كارزميّته"- ولعله أراه وجهه في المرآة، زيادة في النِّكاية -أو تعزيزا للتجرِبة!..
لكنّ العملية -في النهاية- أسفرت عن نتيجة علمية "إيثولوجية"؛ حيث أصبح التيس يتوارى من القطيع من سوء ما فُعِل به؛ فصار يجفل من شركاء حظيرته في النهار، وينعزل في ركن من الزريبة بالليل، وانقطع عن حيويته المعهودة وحضوره المألوف، وكاد يخوض إضرابا مفتوحا عن الطعام، لولا أن أنقذته أعلاف مسرّبة كان مالكه يهرّبها إليه -بعيدا عن أعيُن المَعْز! وما أرى "عقدة النقص" التي أصابت التيس من قصّ لحيته إلا ترجمة لحالة نفسية هي أشدّ حضورا -وأقربُ تبلوُرا- في عالم الإنسان حين تُهان كرامته.. ولعل لِقَرن الكبش "سلطة كارزميّة" تقابل هيبة لِحية التّيس!
**الشريعة.. ومراعاة نفسية الذبيحة**
..والآن؛ سأعود إلى موضوع الورشة (أقصد الصحة النفسية والتوازُن السلوكي للأضحية)، فأشير إلى أنّ الإسلام قد اعتنى باحترام "شعور الحيوان"، ومراعاة "حالته النفسيّة"، فلم يكتَفِ بأمر المسلم أنْ <يحِدّ شفرتَه، ويُريحَ ذبيحتَه> وأنْ 《يُحسنَ الذِّبحة》.. بل نهاه أنْ يُحِدّ السّكين على مسمع الشاة المرادِ ذبحُها، أو أن يَذبحها على مَرأى أختِها!