الحوار الوطني.. طقوس بلا إيمان ومشهد بلا جدوى / محمد المختار الهيبه

سبت, 2025/07/19 - 17:53
محمد المختار الهيبه- كاتب وباحث موريتاني

تحدث في حياة الأمم محطات تُقدَّم على أنها لحظات تأسيسية، بينما لا تكون في حقيقتها سوى فترات توقف مؤقت. والحوار الوطني في موريتانيا ينتمي إلى هذا النوع من المبادرات. فهو، خلف لغة التوافق، يخفي حقيقة أكثر بساطة: رفض التغيير.

 

منذ عام 1978، ظلّ الحكم الفعلي بيد المؤسسة العسكرية. تغيّرت الأشكال وتعدّدت الواجهات، بين مدنية مزعومة وتعددية خاضعة وتناوب شكلي، لكن جوهر السلطة لم يُمسّ. فهذه السلطة تُقرِّر وتُوزِّع وتتحكّم دون أن تتقاسم، وأيّ إصلاح جذري لا يمكن أن يصدر عنها، لأن أيّ تنازل حقيقي يعني بالضرورة تقويض شرعيتها.

 

أما “الانتقال السياسي” الذي حصل سنة 2019، فرغم سلميته، لم يؤسّس لمرحلة جديدة. لم يكن سوى تعديل سطحي بلا توجّه، بلا إعادة تأسيس، وبلا مشروع وطني. وبعد أكثر من خمس سنوات، لا تزال الدولة تدار بالانتظار، بلا بوصلة ولا رؤية. وفي هذا الفراغ، لا يمكن أن يكون الحوار سوى أداة لتنظيم الجمود، لا رافعة للتغيير.

 

هيكل النظام يرتكز على ثلاثية مغلقة: ضباط الجيش، زعامات الولاء التقليدي، وبيروقراطية تبريرية. بنيةٌ مصمّمة لمقاومة أي اختراق. تسمح بنقاشات جانبية — في التعليم، والثقافة، والتنوع — لكنها تتجنب بدقة مراكز القوة الحقيقية: اقتصاد الريع، سيادة الموارد، استقلال القضاء، إصلاح المؤسسة العسكرية، والفساد المؤسسي.

 

هذا النموذج من “الحوار” ليس جديداً. بل سبق أن جُرِّب في دول أخرى، بدرجات متفاوتة من الجدية. ففي جنوب إفريقيا في تسعينيات القرن الماضي، فرض ميزان القوى حوارًا حقيقياً أنتج إعادة تأسيس فعلية. وفي تونس عام 2013، أنقذ الحوار الوطني الانتقال من الانهيار، لكنه افتقد في النهاية إلى العمق المؤسسي، فعادت الدولة العميقة إلى التحكم، وانتهى الأمر إلى مأزق سياسي متجدد.

 

أما في دول مثل توغو والكونغو وتشاد، فقد كانت الحوارات الوطنية أداة لإعادة إنتاج النظام تحت غطاء “الانفتاح”. استُخدمت المشاورات كبديل عن الإصلاحات، والاستماع كوسيلة لتفادي القرارات، وتم تأجيل الضرورات تحت مسمى التوافق.

 

وفي موريتانيا، يبدو السياق أكثر انغلاقاً. الشارع صامت، والمعارضة مفككة، ومراكز الضغط غائبة. ضمن هذا الفراغ السياسي، أصبح الحوار أداة لامتصاص الغضب لا لحله، ومساحة لتفادي التصعيد، لا لإعادة تعريف الأولويات.

 

المواضيع محددة مسبقاً، والأوراق منظمة، والجلسات معدّة. لكن الأسئلة الجوهرية — إدارة الموارد، بنية الريع، السيادة الاقتصادية، إصلاح المؤسسة العسكرية — مغيّبة عمداً. هذا الغياب ليس إغفالاً، بل خيار واعٍ.

 

فالنظام لا يُقدم على أي تغيير إلا إذا أُجبر على ذلك. ولا يُقدّم التنازلات إلا بما لا يهدد مركز سلطته. ما لم توجد ضغوط شعبية، أو تهديد خارجي، أو اهتزاز داخلي، فلن يحدث شيء. لذلك، فالحوار ليس بداية جديدة، بل طقسٌ للمحافظة، ووسيلة لتخدير الواقع تحت غلافٍ إجرائي.

 

الدولة تتفكك بهدوء. البنية التحتية تتدهور، والمدرسة العمومية تفقد معناها، والموارد الطبيعية تُنهب. يُستخرج الذهب في ظروف من التعتيم، وتُمنح رخص الصيد بلا شفافية، وتُهدر المداخيل السيادية بلا استراتيجية. والإدارة تعيش بلا أفق. والخدمات العامة تتآكل، والتنمية تنحسر في التصريحات.

 

في هذا السياق، يصبح الحديث عن الحوار الوطني شكلاً من أشكال التمثيل الجمهوري بلا مضمون. مشهدٌ لتغذية وهم الدولة الفاعلة، بينما الواقع يقول إن الدولة لم تعد تقرر، ولا تتوقّع، ولا تحمي. أصبحت قشرة بلا نواة.

 

ومع ذلك، فالأمثلة على التحول موجودة. في السنغال، انتزع الشارع التغيير عبر التعبئة المستمرة والشجاعة السلمية. استطاعت الحركة الجماهيرية، بدعم من النقابات، والطلاب، والمجتمع المدني، أن تفرض التحول وتعيد صياغة التوازنات. لم تكن ثورة عنيفة، بل صحوة مدنية. درْسٌ في كيف تُبنى اللحظات التاريخية.

 

ولا يعني هذا دعوة للعنف، بل تأكيد لحقيقة بديهية: لا تغيير من دون تضحية. ولا بناء من دون فعل. والتغيير يتطلب ثمناً. والثمن هو الجهد، والمثابرة، والقدرة على الاحتمال.

 

وعلى المعارضة أن تتحمّل مسؤوليتها. فالمصداقية السياسية تُقاس بالاستعداد للمخاطرة، حتى خلف القضبان. وعلى النقابات أن تستعيد وظيفتها الأصلية: الدفاع عن المصلحة العامة، ولو بالإضراب. وعلى الطلاب أن ينهضوا مجدداً حاملين قضايا العدالة والمعرفة والكرامة. وعلى المجتمع المدني أن يتجاوز دور “الشريك الفني” إلى موقع النقد الجذري والاقتراح الوطني.

 

لا يمكن لأي أمة أن تعيش طويلاً في ظل إنكار الواقع. الشرعية لا تُمنح، بل تُستعاد. والتغيير لا يُكتب في المنشورات الإدارية، بل يُنتزع بالشجاعة، وبالوضوح، وبالقدرة على تجاوز المألوف. ما لم ترتبط الكلمة السياسية بإرادة للحقيقة، فإن الحوار سيبقى مجرد مونولوج فارغ. وما دامت الدولة تكتفي بالبقاء، فإنها تدريجياً تفقد معناها.