على ما عرف عن هذه البلاد من تفوق وإتقان للداراسات الإسلامية، ذاعت به شهرتها، وترقت عليه مكانتها، فقد كان ذلك التفوق أظهر في مجالات من تلك العلوم منه في أخرى، فليس للقوم ندٌّ في عموم اللغة ولا مجارٍ في حفظها، كما أن لهم اليد الطولى في فقه إمام دار الهجرة، والاعتناء البالغ بالمعقول من منطق و كلام، لكننا غير واجدين نظير حضور هذه العلوم لعلوم أخرى كعلوم القرآن بفروعها المتعددة، والتي نقصد في هذه السطور استبيانَ وقياس مظاهر حضورها سابقا، ورصدَ واستجلاء ذلك الحضور اليوم كل ذلك في عجالة لا توفي الموضوع حقه، وإنما هي إثارة وخواطر.
إن أداة قياس اعتناء الشناقطة بعلوم القرآن ليس إلا النظر في مقررات المحظرة وحظ هذه العلوم منها، ونتاج التأليف ونصيبها منه، فإذا ما اعتمدنا ذلك واستحضرنا المعنى الواسع لعلوم القرآن فبإمكاننا تقسيم هذه العلوم إلى قسمين، لنعرف مدى حضورها في الدرس المحظري وفق ذلك:
أولا: فروع تتقاطع مع علوم أخرى من مباحث اللغة وأصول الفقه، وعناية القوم من جهة تلك العلوم أكثر منه من ربطهم له با بالقرآنفأما القراآتُ فالمحظرة مكتفية منها بقراءة واحدة، ومن خلال بعض رواياتها دون الأخرى، وما كان للتجويد في هذه البلاد وجود، كما تشهد لذلك جدة مقرراته على المحظرة، وما تزال في تلاوات الناس شواهد لذلك وأدلة، ومثل ذلك في علمي الوقف ولابتداء وعلم عد الآي، لكن علما من هذه العلوم كان الاستثناء، فقد كان للشناقطة فيه علو كعب، فلئن كان ابن خلدون في زمنه رأى وأشاد بانحساره إلى المغاربة، فإنه من المغاربة انحسر إلى أهل شنقيط كما يقول الدكتور أحمد شرشال، ولقد عرف عن الناس تحرجهم من التفسير وإقلالهم من التأليف فيه واعتمادهم -إن هم ألفوا فيه- على النقل أساسا، ولعل من مظاهر درجة حضور هذه العلوم في السابق أنها ما كانت مجال تخصص عالٍ لدى علماء هذه البلاد، فالاعتناء بها إما مرحلة ابتدائية من لوازم طالب العلم يكتفي فيها بتحصيل تلك المقررات الأولية، وإما على وجه أنها خطة كالقضاء والإمامة، ومبنى الا ختصاص فيها ليس التعمق وإنما التفرغ والاحتراف، غير أن تغير ظروف المجتمع وطُروّ عوامل جديدة غيّر من الوضعية أو مهد للتغيير، ويرجع ذلك في الأساس إلى الاحتكاك بالبلاد الإسلامية والتي لديها اعتناء وحضور لهذه العلوم أكثف وأنشط، فاكتشف الناس قراء متقنين، ودخلت متون التجويد إلى المقررات، والتحق الطلاب والباحثون الموريتانيون بكليات الشريعة والقرآن الكريم، فظهرت كتابات عن التفسير والمفسرين في بلاد شنقيط والسند القرآني الشنقيطي وقبلُ كُتب عن تاريخ القراآت، وحُقّقت مؤلفات في المجال؛ سواء في التفسير أوغيره، كما شكّل تنظيم المسابقات القرآنية حافزا للحفاظ على الرفع من مستواهم والاهتمام بمتابعة القراء الكبار، مما أنتج تمثيلا مشرفا للبلاد في المسابقات الدلية، يصاحبه حضور لتوسعة دائرة المعتمد من القراآت بزيادة رواية حفص عن عاصم، وتوجه لباقي الروايات بالإجازة والاهتمام.
كماشهدت السنوات الأخيرة حضورا لتخصصات الدراسات القرآنية في مؤسسات التعليم العالي كقسم القرآن الكريم وعلومه في جامعة العلوم الإسلامية، والذي تخرجت أولى دفعاته 2019، كما افتتح قسم للدراسات العليا في المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية والذي تتخرج أولى دفعاته هذه السنة ، ولئن كانت هذه مظاهر حضور مؤذنة بتطور ومبشرة بمستقبل أحسن ، فإن تحديات وعقبات تنطوي عليها هذه المظاهر ، جديرة إن لم تراعَ ويتغلب عليها أن تهيض الأمل وتقعد بنا دون المرجو، فلقد كان عند السابقين من الإجادة والتحري في إعطاء السند مالم يعد موجودا على أحسن توصيف، كما أن ضعف التكوين في مؤسسات تعليمنا العالي وسيولة المعايير التي تعتمد للقبول في هذه التخصصات من حيث الكم والكيف يجعل من نجاحها في الرفع من مستوى إحياء ونشر هذه العلوم تحديا غير يسير، إضافة إلى النقص الذي تعاني منه في تغطية حاجتها من الأستاذة المتخصصين، وليس دون كل هذا تحديا ما ترسخ في ذهنية أغلبنا من انحصار مفهوم القارئ في المستوى الأداء الصوتي؛ فلقرائنا الكرام رابطة ينحصر عطاؤها -فيما نعلم- في تنظيم الليالي القرآنية، وتنحصر تلك اليالي على التلاوات، وتُقصر التلاوات على بعض الروايات!
هذه عقبات نهضة قرآنية نشدوها وتلك آفاقها ملوحة بالإمكان ، فهل تنظم جهود وترشد فرص تحفظ الموجود وتُكسب المفقود؟ أم سيظل الأمر رهين الصدف والحظ؟