موريتانيا تعزيز الشراكة الاقتصادية والتكامل الإقليمي..

أربعاء, 2024/02/14 - 13:20

تشهد منطقتنا منذ أشهر تغيرات هامة؛ ستنجم عنها حتما تحولات اقتصادية جذرية في بلدان الجوار، التي انسحبت منذ أيام من منظمة سيدآو، التي تتميز بعدم الولوج إلى مواني وطنية.

 

إن انسحاب هذه الدول الثلاثة (النيجر ومالي و بوركينافاسو) يفتح لبلادنا فرصة تعزيز التعاون الاقتصادي مع هذه الدول، عبر شراكات تكاملية حقيقية؛ تعزز دورنا الإقليمي، خاصة في ظل الظروف الدولية الراهنة، التي تؤهل لنا عوامل استقطاب استثمارات روسية وتقوية الشراكة بيننا.

 

فعلى سبيل المثال، يمكن لشراكتنا مع أصدقائنا الروس أن تسهم في تطوير وعصرنة الموانئ، ولا سيما على مستوى العاصمة نواكشوط وفك العزلة عن هذه الدول بربطها ببلادنا، عبر سكة حديدية لنقل البضائع توريدا وتصديرا بالقطار؛ مما يقلص تكلفة النقل. 

 

فبناء سكة حديد من نواكشوط حتى باماكو أو مدينة ديما الواقعة بعد اليورو على طريق العيون باماكو، قد لا يكلف أكثر من ملياري دولار أمريكي، وهو ما يشكل استثمارا في متناول شراكة على هذا المستوى. 

 

إن مشروعا كهذا يدعم تكاملنا الاقتصادي مع دول الجوار، ويعزز علاقاتنا حتى نتميز بدور رائد في المنطقة يوطد لمنظومة وتحالف إقليمي جديد، خاصة أن لهذه الدول جاليات مهمة من أصول موريتانية. فلننتهز كل الفرص، ولنفعل كل العوامل كما تفعل بعض دول الجوار للجاليات في أوروبا ذات أصول من هذه الدول.

 

 إن استثمارا من هذا النوع زهيد مقارنة مع استثمارات شركاء تحالف الساحل الاي تجاوزت 20 مليار دولار، خاصة عندما ننظر إلى عشرات مليارات الدولارات التي تتدفق من الدول الغربية كمساعدات لأوكرانيا و إسرائيل، بينما تلقي إلينا هذه الدول بفتات مشكورة عليه من أعلى السلطات، رغم أنه لا يرقى إلى مستوى ميزانية أصغر البلديات القروية في الدول الأوروبية. 

 

وما الزيارة الأخيرة للوفد الأوروبي برئاسة رئيس حكومة إحدى الدول الأوروبية، إلا تجسيدا لقذف ذلك الفتات إلينا كمنحة سخية في منظور البعض من مسؤولينا مع الأسف، الذين يتوهمون السخاء من بعض الدول، بينما ينعدم السخاء في قاموس العلاقات الدولية التي تحكمها المصالح، وتغيب عنها الاعتبارات الأخرى.

 

لقد حان الوقت لكي نتخلص من الاعتبارات اللاموضوعية في علاقاتنا الدولية، وندفع بمصالحنا الوطنية كي تكون في أولوية العوامل التي توجه شراكتنا مع الدول. 

 

وفي هذا الإطار، ننتهز الظرفية الحالية التي تفتح لنا فرصا ذهبية لتعزيز التعاون الموريتاني الروسي وجلب استثمارات روسية على ضوء ما ذكرناه بداية، وفي مجالات أخرى عديدة، نذكر من ضمنها زراعة الحبوب على بحيرة تاودني في الجزء المشترك مع دولة مالي الشقيقة، والشراكة الاستراتيجية في مجال تطوير صناعات الحديد الخام مثل رفع نسبة الحديد من الخامات الفقيرة وبناء أفران صهر الحديد وتكويره، ومجال الطاقة النظيفة بكل أنواعها مما سيقلص تكاليف إنتاجها، ويغطي حاجات بلادنا بل يمكن تصدير مازدا على اكتفائنا الذاتي إلى دول الجوار. 

 

أما قيام شراكة لقطاع التنمية الحيوانية فسيشكل نقلة نوعية لهذه الثروة الكبيرة التي تشكل أول مصدر للعيش في بلادنا، حيث سيمكن تطويرها من إضافة قيمة معتبرة، ويعزز مكانتنا في أسواق الماشية لدول الجوار، بل سيمكن من تصدير اللحوم إلى أوروبا، على غرار منتجات الصيد.

 

فمجالات الشراكة كثيرة لآن في بلادنا، ولا تزال ناشئة، لذلك تشهد كل القطاعات ورشات البناء. حتى مياه الشرب والري تشكل مجال تعاون واستثمار مشترك؛ لأن الكثير من قرانا تنقصها مياه الشرب، حيث تعجز ميزانية استثماراتنا عن توفيرها في فترة وجيزة مرضية -انظر خطاب الرئيس في النعمة السنة الماضية- رغم وفرة المياه الجوفية المتوزعة على كل أطراف بلادنا.

 

فإلى متى سيظل غياب شراكة حقيقية (موريتانية - روسية) غائب رغم الظرفية المواتية والعوامل المحفزة الكثيرة؟ إن ذلك لن يكون ممكنا دون إرادة سياسية قوية وتوجه لجميع الفاعلين، الشيء الذي لن يكون مبتغى عند بعض شركائنا الغربيين إن لم يغضبهم، حيث يعدون روسيا عدوا ومنافسا قويا لهم، وقد ظهر ذلك بجلاء في حرب أوكرانيا. بل إن الدول الغربية زرعت في مجتمعنا مفاهيم مناوئة لروسيا حتى صار بعضنا ينظر بعين ازدراء إلى كل ما هو روسي، وحتى أنه لا يعير نفس الاعتبار للمهندسين الذين تكونوا في روسيا، مقارنة بمهندسين تكونوا في فرنسا مثلا.

 

 لقد كثرت تلك المفاهيم الخاطئة التي زرعت في مجتمعنا من طرف المستعمر وحلفاءه كي نقتنع بتفوقهم في كل شيء وجودتهم المطلقة رغم زيفها. 

 

وهنا أستطرد بقصة ذكرها لي أحد رجال أعمالنا رحمه الله، جرت له حين أقام مصنعا لإنتاج مادة غذائية بشراكة مع مصنع فرنسي. كان الفرنسيون يقومون بتحاليل دورية للإنتاج ومقارنة المنتج المصنوع في موريتانيا بنظيره المصنوع في فرنسا، حيث يبعثون في كل مرة خلاصة التحاليل التي تتضمن بياناتها تفوق جودة المنتج الفرنسي. 

 

وذات مرة قام رجل الأعمال بتبديل التعليب، حيث وضع المنتج الفرنسي في أكياس المنتج الموريتاني، فجاءت بيانات التحاليل المخبرية المبعوثة من الفرنسيين كالعادة بنفس النتيجة التي تزعم تفوق المنتج الفرنسي؛ لأن هذه مجرد أغنية يرددونها بأنهم متفوقون في كل شيء!

 

لقد برهنت تلك التحاليل، على أن المنتج الموريتاني هو الأجود، كما برهنت على ذلك تحاليل مخبرية أخرى، أجريت في دول مغايرة.

 

قليل من مواطنينا من يدرك حجم تلك المغالطات والمسوغات الغربية التضليلية كي يتحول كل منا إلى معاق أعمى عن الحقيقة يعيش في الظلام طيلة حياته. فهل سنمتلك من الشجاعة والسيادة ما نفتح به أعيننا على الواقع الحقيقي؟!، وندرك المفاهيم الصحيحة حتى نتبنى سياسة تخدم مصالحنا، وتخولنا استقلالية ولو جزئية. 

 

إن من ينظر بعين السخاء إلى المجتمع الدولي فهو واهم، ومن ينتظر من الغربيين أن يدعمونا في نمو اقتصادنا وعصرنته فهو كالأعمى الذي يحلم برجوع بصره. فإذا كنت مثلا تزود سوق مدينة ببضاعة تجلب لك ربحا كثيرا، فهل ستعين أبناء هذه المدينة على تصنيع نفس البضاعة كي ينافسوك ويقصونك من سوقها حتى تفلس؟ الجواب لا يحتاج أي تفكير. ونحن نشكل سوقا استهلاكية ومجتمعا متخلفا يأمنون من عدم قدرتنا على منافستهم.

 

فإلى متى نظل مكتوفي الأيدي، ننتظر من الآخرين سخاء وهميا لدعم اقتصادنا وعصرنته وتنمية الصناعات و المشاريع الحيوية في بلادنا!. رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من كل الثمرات، على أيديهم وبوسائلهم وتطورهم.

 

بقلم المهندس: محمد عبد الله اللهاه