مسلسل الحفرة وحس المسؤولية الاجتماعية/ هشام الشلوي

جمعة, 2024/06/14 - 08:39

مشاهدة مسلسل من أربعمئة وسبع وعشرين حلقة، متوسط زمن الحلقة يترواح بين أربعين وخمس وأربعين دقيقة، ليست سهلة ومتيسرة لمن هم في شغل دائم. 

لكن المسلسل يستحق عناء اختلاس الأوقات، لأسباب مختلفة سأذكرها في هذه التدوينة، وهي أسبابي الشخصية، فقد لا يجدها البعض مجدية أو ذات قيمة.

تقنية المشاهدة

عدد الحلقات كبير وفيه شيء من المبالغة، لذا اخترعت لنفسي تقنية مشاهدة خالصة لي من دون المشاهدين، إذ إني شاهدت الجزء الأول كاملا غير منقوص، أي مئة وسبعة حلقة، حيث فهمت من هي الشخصيات المحورية والهامشية والحشو واللغو والغث من السمين والجيد. وفي باقي الأجزاء قدمت كل المشاهد غير المفيدةحسب فهمي، وأغلب تلك المشاهد هي حوارات بين ممثلات المسلسل، فأغلب حوارتهن شجن وحزن مبالغ فيه وتأوه بسبب من الحب والشوق والخيانة والغدر وغيرها من الحالات الإنسانية.

ثم إني قدمت كثيرا من مشاهد وحوارات المسلسل التي أطرافها ممثلين وممثلات، أي تلك المشاهد المتعلقة بمشاعر الحب واللوم والضعف الإنساني والألم.

فخلصت مدة حلقات الأجزاء من الثاني وإلى الرابع ما بين عشرين وخمس وعشرين دقيقة، وبذلك اختصرت كثيرا من زمن المسلسل بما لا يخل بالبناء الدرامي والصراع.

حس المسؤولية الاجتماعية

رغم تتبعي لعالم المسلسلات الأجنبية، إلا إني لا أجزم إن كانت تقنية استخدام الكتابة على الجدران مستخدمة من قبل أم لا، فأنا لم أشاهد فيما شاهدت من مسلسلات أمريكية وأوروبية هذه التقنية التي تفاجأت بها في مسلسل الحفرة.

وتنقسم جداريات الحفرة إلى نوعين؛ الأول: للتنبيه على أحداث قادمة في المسلسل، وذلك بكتابة عبارات باليد على جدار حقيقي، مثل: وشاية سعد الدين أوغلو قادم. لتنبيه المشاهد على قرب عوةدة سعد الدين أوغلو من أفغانستان إلى تركيا ودخوله إلى حلبة الصراع مجددا.

والثاني: جداريات تلفت الانتباه إلى قضايا اجتماعية متعلقة بحماية حقوق المرأة والطفل والبيئة والحيوان وخطر الزلازل وفيروس كورونا ومساعدة فرق الهلال الأحمر التركية في عملها والتبرع لجمعيات خيرية ومؤسسات مجتمع مدني مختلفة.

والاضطلاع بالحس الاجتماعي والمسؤولية الأخلاقية تجاه مختلف القضايا الإنسانية تدل على أن صناع المسلسل من أصحاب الثقافة العالية، وليسوا من أولئكم الفارغين التافهين القائمين على صناعة الفن في بلداننا.

مرجعيات المسلسل

ينطلق البناء الدرامي للمسلسل من مرجعيات كلاسيكية غربية كلها، فالشكل التراجيدي المأساوي التقليدي اليوناني مسيطر على مزاج المسلسل، فالسقوط في حضيض وهاوية الخيانة والعار والذل والرخص الأخلاقي، ثم النهوض والمرور بمرحلة التطهر وتأنيب الضمير والعذابات التي تسحق الشخصية سحقا أليما حتى يتطهر تماما من أدران وأقذار النفس، ثم النهوض والعودة من جديد إلى ضوء الشمس وأخلاق الفرسان والتضحية بالنفس من أجل إنقاذ الآخرين، كل تلك المعاني من السمات المسيطرة على المسلسل بأجزائه الأربعة. كما أن أخر حلقة من المسلسل توحي باستفادة صناع المسلسل من الكوميديا الإلهية لدانتي أليغييري، إذ يلتقي إدريس كوجوفالي وأبنائه؛ كوجوفالي وسليم وعمران وصالح وياماش فيما يشبه الجنة، مع أصدقائهم وزوجات ياماش الثلاث، وهي كلها شخصيات أخطأت أخطاء جسيمة ثم تطهرت منها في مسلخ ومطهر الحياة ثم عادت نقية إنسانية من جديد.

انهيار البناء الدرامي فجأة فوق رأس الشخصية، وانفجار معاني الأخوة الصداقة وسقوطها في درك الحضيض، ودفع أثمان روحية ونفسية وذهنية باهظة، ثم إعادة ترميم النفس الإنسانية وصياغتها وتحميلها بمعان جديدة أخلاقية سامية، وإعادة تجميع أجزاء النفس والعقل والقلب من جديد، والتركيز على قيم العائلة في بُعدها النووي الطبيعي وبُعدها المجتمعي الأوسع والأكثر رحابة، في عالم التهم الفرد والعائلة وسحقهما بقيم حداثية مزيفة وشاذة، كل ذلك هو محور رسالة مسلسل الحفرة.

مسلسل الحفرة هو عالم من الصراع بين قيم قديمة متوراثة أصلها الدين والعادة والعرف، وقيم مزيفة جاءت على ظهر الآلة الحديثة، صحيح أن تلك الآلة أدخلت الرفاهية والبهجة ووفرت الكثير من الوقت، لكنها سممت الأخلاق وشطرت المجتمع والفرد على حد سواء، وجعلت الجميع يعيش في جزر متباعدة رغم قرب السكن وسهولة الوصول، في النهاية ينتصر الإنسان على قيم الزيف والشر والحضيض والإسراف، ليعود إنسانا، ورحلة العودة ليست سهلة وليست سريعة وليست رخيصة، لكنها ضرورية.

بقي أن المسلسل فيه إشارات عدة إلى الإسلام وبعض شعائره، وهذه الإشارات ليست زائدة أو متكلفة، بل هي في عمق البناء الدرامي للمسلسل، فالإسلام وثقافته وتراثه جزء من الوعي التركي، صحيح أنها إشارات ضعيفة، لكنها تدل على أن رحلة محو الثقافة الإسلامية من الذهنية التركية باءت بالفشل حتى داخل مجتمع صناع الدراما المخملي والمعروف للجميع.

بقي أن أشيد بدبلجة المسلسل، إذ إنك تساهد مسلسلين في مسلسل؛ أحدهما تركي في حركاته وسكناته، والثاني مدبلج بلسان ولهجة عربية نقلت لنا كل مشاعر وأحاسيس الممثلين بدقة عالية، حتى أنك قد تدمع عينك عند رؤية بعض المشاهد.

هشام الشلوي

كاتب صحفي من ليبيا