يتجاوز أحمد الأموي في همومه اللغوية المزمنة قضية علاقة اللغة العربية بالحفاظ على هوية الأمة، إلى مظاهر علاقتها بالصناعة والاقتصاد، ويرى أن استهانة العرب بلغتهم تؤثر على الناتج القومي المحلي لكل بلد عربي على حدة، كما تؤثر على تفاصيل الخسائر الاقتصادية للأفراد والشركات الناشئة.
فهو يرى أن ضعف الصناعة اللغوية في العالم العربي للناطقين بالعربية وغيرها يضيع مليارات الدراهم على العرب، فكل بلداننا تضيع فرصا اقتصادية هائلة في تعليم العربية، لا سيما في ظل الإقبال العالمي الكبير عليها بصفتها لغة عالمية ذات آداب خالدة، وجاءت بها آخر الرسالات السماوية، وبسبب انتشارها في منطقة مزدهرة اقتصاديا، والمؤسف حقا أن بلداننا تصرف ميزانيات كبيرة جدا لتعليم اللغات الأخرى، بينما هي ذاهلة عن الكنز اللغوي الذي بين أيدينا.
ففي المغرب مثلا يُلزم الطلاب العرب وبعض الأفارقة بقضاء سنة في تعلم اللغة الفرنسية إذا ما أرادوا التسجيل في كلية الطب والكليات المشابهة، وهذه السنة اللغوية تحتاج ميزانيات ضخمة بعدد الطلاب وحجم الإقبال على الدراسة في المغرب، ومثل المغرب عدة دول خليجية تنفق ميزانيات ضخمة لتعليم اللغة الإنجليزية، بينما العربية تشكو من الإهمال المتعمد والمضر بالهوية والاقتصاد.
عَملُ الأجانب ودراستهم في أمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا يحتاج إلى إتقان لغات هذه البلدان، وذلك الإتقان يمر بالتسجيل في معهد تعليم للغة لقاء ما متوسطه 1500 دولار للفصل الدراسي، علاوة على أثمان الكتب والإقامة، ولك أن تجمع وتقيس مجموع الحاصل من ذلك حسب الإقبال والمواسم، ثم إن تعلم اللغة للعامل في الطب والتدريس في البلدان المذكورة يوفر على هذه البلدان رواتب المترجمين، ويسهل على المرضى التواصل بأريحية مع أطبائهم، وييسر على الطلاب فهم مقرراتهم الدراسية من غير معاناة.
هذه الفرص الاقتصادية كلها ضائعة في العالم العربي بسبب التيه اللغوي، فتصورْ أن الوافدين على العالم العربي للعمل والدراسة من الصين وآسيا والغرب وأفريقيا ملزمون بتعلم اللغة العربية للفوائد الاقتصادية أعلاه، وللاعتزاز بهذه اللغة المكرمة، وتخيلْ كم ستوفر هذه الصناعة من فرص عمل للشباب العربي الذي يركب الأهوال شرقا وغربا بحثا عن عيش كريم، وتصورْ كم توفر من أوقات المرضى الذين يريدون أن يشرحوا عللهم للأطباء بلغتهم الأم، ومن غير واسطة مترجم ربما لا يكون أمينا ولا كفُؤا.
أما الشعوب الحية والبلدان الواعية، فقد أدركت خطر اللغات في العلاقات والاقتصاد، فاعتزت بها وجيشت لها جيوشا من المعاهد والبرامج والكتب، وسهلت وسائل تعلمها وتعليمها، فوفرت بذلك موارد اقتصادية هائلة، وضمنت لنفسها مكانة محترمة بين الأمم، وأضاع العرب الفرص المتعلقة بصناعة تعليم اللغة العربية، فصارت بلادهم نهبا لكل غريب يتطاول على طلابهم، ويرهق عجائزهم في المستشفيات.
ومن طرائف ما في تراثنا أن السلف أدركوا خطر اللغة وعلاقتها بالمال والاقتصاد، فكان بعض اللغويين لا يعلّم اللغة والنحو إلا بمقابل، وجاء في كتب الأدب والتراجم من ذلك طرائف جديرة بالذكر في هذا الباب، منها ما رواه أبو محمد بن درستويه النحويّ؛ قال: “حدّثني الزجّاج قال: كنت أخرط الزجاج، فاشتهيت النحو، فلزمت المبرّد لتعلّمه، وكان لا يعلّم مجانا، ولا يعلّم بأجرة إلّا على قدرها، قال لي: أيّ شيء صناعتك؟ قلت: أخرط الزجاج، وكسبي في كل يوم درهم ودانقان، أو درهم ونصف، وأريد أن تبالغ في تعليمي، وأنا أعطيك في كلّ يوم درهما، وأشرط لك أنّي أعطيك إيّاه أبدا، إلى أن يفرّق الموت بيننا، استغنيت عن التعليم أو احتجت إليه. قال: فلزمته، وكنت أخدمه في أموره، ومع ذاك أعطيه الدرهم فنصحني في التعليم، حتى استقللت”.
وربما يتساءل القارئ عن مكتسبات الزجاج من تعلمه النحو واللغة بمقابل، وعن سبب إصرار المبرد على عدم التعليم مجانا، فيجبينا الزجاج في بقية القصة، فيقول إنه بعد تخرجه واستقلاله جاء إلى شيخه أبي العباس المبرِّد :”كتاب من بني مارية من الصراة، يلتمسون معلّما نحويّا لأولادهم، فقلت له: أسمني لهم، فأسماني، فخرجت إليهم، فكنت أعلّمهم، وأنفذ إليه في كل شهر ثلاثين درهما، وأتفقّده بعد ذلك بما أقدر عليه، ومضت على ذلك مدّة، فطلب منه عبيد الله بن سليمان، مؤدّبا لابنه القاسم، فقال له: لا أعرف لك إلّا رجلا زجّاجا بالصراة مع بني مارية. قال: فكتب إليهم عبيد الله فاستنزلهم عنّي، فنزلوا له، فأحضرني وأسلم القاسم إليّ، فكان ذلك، سبب غناي، وكنت أعطي المبرّد ذلك الدرهم في كلّ يوم، إلى أن مات، ولا أخليه من التفقّد معه بحسب طاقتي”. كما في نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة للتنوخي ج1، ص 275.
وكان أمر تعليم النحو واللغة بالمال شائعا لدى الأولين؛ فتجد في ترجمة النحوي علي بن سعيد السنجاري أنه كان “يفيد النّحو بغير أجر”، بل ونصوا على التفرقة بين تعليم اللغة وغيرها من العلوم، كما روى الذهبي في تاريخ الإسلام (ج4، ص 65) أن أبا سكينة قال لابنِ ناصر اللغوي تلميذ التبريزي: “أريد أن أقرأ عليك ديوان المُتنَبِّي وشَرْحَه لأبي زكريا، فقال: إنك دائمًا تقرأُ عليَّ الحديث مجَّانًا، وهذا شِعْر، ونحن نحتاج إلى نَفَقة. فأعطاني أبي خمسة دنانير، فدفعْتُها إليه، وقرأتُ عليه الكِتاب”.
واستهانة العرب بلغتهم لا يعني أن جميع العرب رفعوا الراية البيضاء، ففي شمال أفريقيا نضال لغوي مستمر منذ عقود، سنتوقف مع معالمه في الجزء الثالث من معالجة مخاطر الأمن اللغوي في البلدان العربية.