"دانشمند" عمل روائي يستعرض مختلف مراحل حياة حجة الإسلام أبي حامد الغزالي، ذلك العلامة المتفرد في تاريخ الثقافة الإسلامية خلال الألف عام الماضية، و"دانشمند" لقبه بالفارسية وتعني المعلم عموما. في هذه الراوية الصادرة حديثا (ديسمبر 2023 في 630 صفحة) يرى الروائي أحمد فال ولد الدين الإمام الغزالي فاعلا مؤثرا عابرا للأجيال، ويعالج نفس الإشكالات المعاصرة التي انبثقت في هذا العصر أكثر ويبقى الغزالي، أو "دانشمند" -كما كان يدعوه تلامذته- من أبرز الفقهاء والمتكلمين والعباد الذين لايزال تأثيرهم ساريا في مختلف جوانب الثقافة العربية الإسلامية الآن، وفي الزمن الآتي إلى ما شاء الله! لماذا دانشمند؟! اختار ابن الدين اسم العلم هذا: (دانشمند) بالفارسية ليبعث من خلاله سيرة إمام نظار، ظل مرجعا موجها في الفقه والكلام، والأصول والتصوف، والفلسفة الإسلامية، وهو -إلى اليوم- من الشخصيات الأعمق تأثيرا في الثقافة الإسلامية، بل إن هذا العمل الروائي أسس فعلا لوجهة جديدة في تناول مثل هذه الشخصيات المؤثرة، ليس في التاريخ وإنما -أيضا- في الحاضر كذلك، وتبرز الرواية -من خلال تناولها لمجتمع بطل الرواية- تحديات الصراع الفكري والمذهبي، فضلا عن أحوال تاريخية مغيبة، قد يكون من المفيد الإلمام بها، وهي تتقاطع مع تحديات الواقع المعاصر للأمة سلطة وسياسة واجتماعا وتدينا وحراكا ثقافيا. الميلاد الثاني تبدأ الرواية بفصل أول عن الميلاد الثاني للغزالي؟ (ص:07) ذلك الميلاد الذي يعتبر المحرك الأكبر في حياة الإمام، حينما انسلّ الرجل من دنياه المقبلة عليه عطاء وافرا وجاها عزيزا، متوجها للبحث في أغوار ذاته عن حقائق شرعية ودينية كثيرا ما أقرأها -وقرّرها- لطلابه في دروسه ومؤلفاته لعدة عقود، ولكنه يتجه -هذه المرة- لبحث جديد في أعماق القلب والنفس دون ارتهان لقوالب العقل والمنطق .. إنها تجربة جديدة وكشف ورحلة جديدة ستؤسس لطريق جديد للعرفان، دون اعتماد كلي على أدوات الدرس التقليدي.. "كان فرضك يومئذ أن تخرج من الدنيا لتجد قبلك وتجدد إيمانك. أما اليوم فواجب الوقت أن تفيد الأمة بما وجدت وتعلمها ما تعلمت! لا أن تدير لها ظهرك راهبا منشغلا بنفسك (..) أتظن الانشغال بالنفس ذروة الدين؟! لوكان الأمر كذلك لما عاد الرسول ﷺ من الإسراء، ولما خرج من غار حراء، ولما خرج من المدينة -بعد بنائه المسجد- لكنه لم يجلس فيها عاما كاملا منذ دخلها؛ بل كان في غزو دائم ودعوة لا تنقطع وكبَد متواصل" (ص: 620) وهكذا سلك ذات الدرب صحابته الكرام فكانت مدافنهم في شتى بقاع الأرض! يستعرض الكاتب فصول روايته عبر تشابك هندسي دائري مترابط، فالمعلومات الأولية عن بطل الرواية بدأت من المرحلة الأهم، وهي مرحلة سياحة الغزالي في الشام، وزيارته بيت المقدس، وتأليفه كتابه "المنقذ من الضلال" الذي سيودعه الغزالي خلاصات رؤيته الفلسفية للتصوف وتجربته مع العلوم المعيارية والعرفانية وواجب المؤمن الآخذ في مدارج السالكين والساعي لبلوغ غايات ﴿إياك نعبد وإياك نستعين﴾، ورغم أن هذا التشابك مربك للقارئ الجديد على "دانشمد" وسيرته إلا أن الحبكة السردية لهذا العمل ستشغله، خصوصا إذا كان من متذوقي الأدب ولغته العالية الرفيعة. صراعات الغزالي تناولت الرواية الكبَد والمشقة التي عانى منها بطل الرواية منذ طفولته، ودراسته الأولى، وسعيه الدائم للارتقاء بنفسه، وهو طموح ارتقى إليه بذكائه الحادّ، وقدراته الذهنية العالية، وقد حققت الرواية نجاحا كبيرا في نسج التفاصيل الجزئية لحياة الغزالي، في مختلف المراحل، بشكل لافت. فالسياق الثقافي لحياته، كان إطارا زمنيا مفعما بالصراع الثقافي والفكري، فضلا عن التحولات السياسية الطارئة على الأمة، فدرجة الانقسام كبيرة جدا وغير مسبوقة، في تاريخ المسلمين السياسي والديني، وكان الرجل في قلب هذه التحولات، مستشعرا ثقل المسئولية الواقعة على عاتقه، عن مصير الدين والتدين، وسط مجتمع متعدد اللغات، مقبلٍ على المحدَثاث والبدع، بتياراته الفكرية والدينية. وعكست الرواية، جوانب قوية، من تاريخ التنافس الشرس، حتى بين المذاهب السنية، ففي بغداد كان الصراع السني على مراكز النفوذ قويا، بين أتباع المذهب الحنفي، والمذهب الشافعي، خصوصا وأن الملك المهيمن من مذهب، ووزيره من مذهب آخر، كما هي حالة السلطان ملك شاه الحنفي، ووزيره نظام الملك الشافعي، فقد كانت الأحداث الجارية، والمواقف منها تعمل عملها للتأثير على صناعة القرار الديني، خصوصا وذلك الزمن كان يعرف السجال والمناظرات، كما لم يعرفها زمن في تاريخ الدنيا، والعوامل الفاعلة في المناظرة ليست تؤثر عليها المواقف الاجتماعية أكثر من الأداء الحجاجي بين المتناظرين. برز الغزالي في المدرسة النظامية ببغداد، وانتهت إليه صدارة العلوم الشرعية بعد وفاة شيخه أبي المعالي الجويني، غير أنه وهو الذي تعود أن يسبر أغوار العلوم، العقلية والنقلية، وينتهي إلى مقاصدها، وما انتهت إليه، تحيّر في شأن المعايير المعرفية ومباحثها إثر نجاحه في سبر أغوار التيارات الفكرية المعاصرة له، فقد بدأ متكلما أصوليا فقيها، تخرج وبُرّز على يد شيوخه في علوم الشريعة، ثم أكمل هو دراسة التيارات الفكرية، في زمنه؛ فاتجه للفلسفة ودرسها وشخّص أحوالها في كتابه "مقاصد الفلاسفة"، ثم حاكم هذا التيار للمعايير الشرعية الفقهية، في "تهافت الفلاسفة"، ثم غسل يده من هؤلاء، واتجه للتيارات الصوفية المسيطرة -في زمنه- ودرس التصوف ومقولاته وشخّص أحوالها وأبرز ملامحَ العمل التديّني وفْق المعايير الشرعية الفقهية في كتابه "ميزان العمل". غير أنه خرج من رحلته -هذه- مع التيارات الفكرية بقلق معرفي هزّ كيانه، وجعله في أزمة؛ إذ دخل مرحلة مراجعة الذات، وتصفية الضمير.. وتطلب منه ذلك الخروج الكلي من دنيا الناس، والبحث بأداة الذوق عن حقيقة المعرفة، والوصول لليقين، وهي الرحلة التي استمرت عشر سنوات، حيث خرج من بغداد (سنة 488 هـ)، وكان يتردد بين الجامع الأموي بدمشق، وبيت المقدس، وكان -غالبَ وقته- في عزلة وعبادة، والراجح أنه بدأ في منتصف هذه المرحلة، بكتابة مشروعه الأعمق تأثيرا خماسية "إحياء علوم الدين"، "القسطاس المستقيم"، "فيصل التفرقة، بين الإسلام والزندقة"، "المنقذ من الضلال"، وقد ضمّن الغزالي الكتابَ الأخير خلاصة تجاربه، وأودعه عميق نظرته في المعرفة والذوق والشك واليقين. مجتمع الرواية تقدّم الرواية استنطاقا تاريخيا -واستعراضا مستفيضا- للسياق الاجتماعي الذي عاش فيه "دانشمند"؛ فستتعرّف -من خلال هذه الرواية- على شخصيات عديدة من أبرزها: 1- نظام الملك: وهو وزير خطير له أدوار جليلة في مجابهة الحركات الباطنية، التي كانت تعتمل في أحشاء الدولة الإسلامية، وتنشر آراءها في المجتمعات الإسلامية في العراق وخراسان وبلاد الشام وشرق الجزيرة العربية، وقوّضت -أكثر من مرة- نظام الخلافة الإسلامية، وكادت تهدّ أركانه. 2- ترك خاتون: وهي زوجة الملك السلجوقي ملك شاه وكانت نافذة وذات بصر بالسياسة، وكانت تكره الوزير نظام الملك، وتعارض سياساته في المملكة، وتضمّنت الرواية فقرات من كتاب "سياست نامه" (سير الملوك) لنظام الملك يُعرِّض فيها بالدور السياسي للمرأة -ولا سيما في صناعة القرار السياسي- لما يتطلبه القرار الصائب من دقة نظر وبُعد عن العاطفة! 3- ملك شاه وهو وأبوه أقاموا إمارة تستظل بالخليفة العباسي في بغداد ودانت لهم بلاد كثيرة واستمرت سلطتهم في التاريخ أكثر من مئتي عام. 4- ترد أسماء وأحداث ثانوية في ثنايا التفاصيل يحضر فيها عبّاد وزهاد وقادة وعوامّ وأتباع وجواري.. تخييل وتفاصيل تخلّل هذا العمل الفني تخييل كثيف وتفاصيل شائقة متشعبة تُقلق القارئ الذي لم يتمرس بقراءة الرواية بوصفها فنّا يعتمد على اقتناص التفاصيل الدقيقة.. ففضلا عن أسماء الأشخاص والأمكنة والتواريخ، والإحالة إلى أحداث ووقائع، وأحيانا فقرات من كتب ودروس، على لسان بطل الرواية، أو أحد الشخصيات التاريخية المؤثّرة في مجتمع الرواية. ثراء الوصف تمكن الكاتب من إحكام صياغته اللغوية للرواية، بأسلوب جزل، ومفردات من المعجم القديم، لغة صقيلة تلتحف الإغراب، وتتيه بإضافتها إلى لغة الرواية اليوم، إنها تبرز معجما لغويا بيانيا غير مسبوق، في اللغة الروائية لكتاب اليوم، وتلك ميزة وميسم بارز في انتاج ابن الدين، لا يكاد يشاركه فيه إلا قليل من الكتاب العرب، ولعلها صلة رحم بينه وبين الإرث الشنقيطي في المشرق، تذكرنا بابن التلاميد ومعجمه الثاوي في الأسفار العتيقة للقاموس العربي القديم. ملاحظات ختامية: 1- تعمّد الكاتب أن يضن على الكسالى بالاستمتاع الكلي بهذه الرواية، فقد أطال الجولان في التواريخ، لا في الأحداث العامة، كما تعودنا في دراسات التاريخ، ولكنه تجول بنا في الحواري ووقف عند السلالم، وعتبات المنازل، وصف لنا الأزقة والشوارع حتى شرقنا من غبارها!.. ونقل حركة الناس في الجوامع، وفي حِلق العلم، ووصف السابلة في التنقلات بين القرى والمدن، وانتقل بنا لمشاهد من ابتزاز العيارين في مدن الطابران وأصبهان ونيسابور، وصف مداخل المعسكرات، وخيمها المضروبة، وأسمعنا صليل السيوف، وصهيل الخيول، وقرْعَ نعال الجند والخدم، وسرّب لنا جوانب من لغة المحادثة اليومية بين الكبار، غاص بنا في خلجات نفوس أشخاص روايته وتأمّلاتهم وهواجسهم، وأسرارهم، وعشنا معه مشاعرهم وذات صدورهم: حنقَهم، حبَّهم، سرورَهم، غضبَهم على من حولهم.. وفي تقديري أن الكاتب نجح -بنسبة فائقة- في استنطاق شخصيات الرواية بشكل ممتاز، وأبرز حواراتهم: حكمتهم، حنكتهم، فهمَ بعضهم بعضها وقراءة مكنونات صدورهم بشكل يصعب تخيله، ولكنك قارئه في هذه الرواية التي إن طالت -نِسبيا- فذلك لأنها ستعلمك وتذكرك بالكثير من الدر المنثور في صفحاتها، مما لا تحصى فوائده، وهي -بذلك- ستصطفّ في رفوف العذب النمير من مصنّفات الأدب العالي التي تربّعت على صدر مكتبة التراث العربي، على نحو ما سجّله "البيان والتبين" لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، و"الإمتاع والمؤانسة" لأبي حيان التوحيدي. 2- البناء الروائي: يبقى البناء الروائي بحاجة لهندسة ومهارة في الحبكة والتأليف؛ فالتصرف في الزمان والمكان والأشخاص والتفاصيل الدقيقة لحركتهم -قولا وفعلا- يبقى عملا يتطلب -من الكاتب- حسّا فنيا عاليا، وعندي أن كاتب "دانشمند" وُفّق -إلى حد كبير- في هندسة المعمار الفني للرواية، على أنّ القارئ المستوعب لحياة الغزالي ربما شوّش عليه البدء بالمرحلة الأخيرة من حياة بطل الرواية، بدل التمهيد لظهور الابن بإبراز شخصية والده وإيراد فصل عن هواجس الوالد، وتوقه لأن يرزق ولدا صالحا، يكون من المجدِّدين، فالجوهري في قصة الغزالي فعلا هو انسلاله من جاه بغداد ورغدها نحو وجهة استكشافية جديدة.. ولكن ليست هذه اللحظة تحديدا هي الأفضل للبداية لأنها مرتبطة -من جانب آخر- بالعقدة التي تنتظر الحلّ، ولعل البدء بالعقدة لم يكن أفضل الخيارات! 3- المشهد المصوّر: نجح الكاتب -إلى حدّ كبير- في كتابة روايته على شكل مشاهد مصوّرة؛ فكأنه كتبها بالصورة وبتقنية التصوير ثلاثي الأبعاد، وعلى كلّ؛ يبقى هذا العمل رائعا وقابلا لتحويله لمشروع مسلسل تراثي قيّم، إن أُنتج سيكون ذا قيمة عالية، خصوصا إذا صادف قدرات تنفيذية -وطاقات تمثيلية- على نحو ما عُرف في الإنتاج التركي خلال السنوات الأخيرة! 4- فرحت -كثيرا- وأنا أقرأ الفقرات التي صُدّرت بها الفصول؛ فهي منتقاة بعناية وذات فائدة كبيرة سواءٌ في عائدتها القارئُ العادي والمختصّ المكين، وبعضها عميق وكثيف الدلالات. 5- اختار الكاتب الفقرات التي وضعها على لسان الغزالي بعناية ورسالية تعكس الهمّ النهضوي الإصلاحي، وفيها مذاكرة وتبسيط لبعض المعضلات الكلامية، بصياغة جميلة تنتمي -حقّا- لدروس الغزالي الوجيزة المختصرة، وتخرج من مشكاة "الاقتصاد في الاعتقاد" و"إلجام العوام عن علم الكلام".. وهذه ميزة محفّزة لنا -معاشر المنتمين لمدرسة المحظرة- لقراءة تنطوي على فوائدَ متعددة في وقت واحد، وخلال قراءة موسوعية متنوعة. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
نقلا عن موقع الرواية