من يتأمل ما جرى في سوريا يدرك أن الموقع الجيوسياسي للدول قد يكون نعمة إذا أُحسن استغلاله، أو لعنة إذا تجاهلت القيادات التحديات المحيطة.
سوريا، بموقعها الاستراتيجي، تحولت إلى ساحة صراع بين قوى دولية، دفع شعبها ثمنا باهظا من دمائه واقتصاده ووحدته الوطنية، وأصبح البلد في مستنقع من البؤس والمعاناة.
أما موريتانيا، فتقف على مفترق الطرق على فوهة بركان منطقة الساحل المشتعلة، حيث تمتد حدودها مع مالي على طول 2370 كلم، والتي كانت، وما زالت، خاصرتها الرخوة الأمنية ومنذ العقدين الماضيين.
هذا الموقع جعلها نقطة ضعف استراتيجية، لا سيما مع تسارع التحديات الأمنية والإنسانية، بما في ذلك الهجرة غير الشرعية التي قد تتجاوز عدد سكانها عدة مرات، مما يشكل تهديدا خطيرا للأمن الداخلي.
في هذا السياق، يشهد الشمال المالي صراعا مستمرا بين القوى الإقليمية والدولية، مما جعل البلاد نقطة محورية في التأثير على هذه الأحداث. ولكن، هل قمنا بما يلزم؟
هل تمكنا من استثمار نفوذنا على الجماعات الأزوادية ودعوة الجميع للمصالحة، مع تذكيرهم بأن الحرب لا منتصر فيها، بل الجميع خاسر؟
موريتانيا تمتلك أدوات القوة الناعمة التي يمكن أن تكون أساسية في هذا السياق، من خلال ضرورتها الاقتصادية وقوة نفوذها الاجتماعية والثقافية والدينية، ممثلة في مشايخ التصوف، أتباع أهل حماه الله، و الشيخ سيد المختار الكنتي.
• التحديات على مستوى الداخل: هل الموروث الاجتماعي والطبقي: حاجز أم مفتاح للسكينة والاستقرار؟
الصراحة تفرض نفسها في نقاش الموروث الاجتماعي والطبقي الذي لا يزال يشكل عبئا ثقيلا على الحاضر.
كيف يمكن بناء وطن قوي إذا ظلت العدالة الاجتماعية مجرد شعار؟
كيف يمكن تحقيق الانسجام الوطني إذا استمررنا في استغلال المظالم التاريخية لتبرير ممارسات جديدة لا تختلف عن ظلم الماضي؟
أليس من الظلم أن تستخدم معاناة أجيال سابقة كذريعة لتحقيق مكاسب ضيقة اليوم؟
أليس استغلال الحيف الذي عاشه البعض في الماضي لبناء نفوذ سياسي أو اجتماعي هو وجه آخر من وجوه الظلم؟
إن استمرار هذا النهج لا يؤدي إلا إلى مزيد من التصدع، وهو ما تستغله القوى الخارجية لصالحها من خلال حرب نفسية متقنة، تستهدف مجتمعاتنا عبر الإعلام والفضاءات الافتراضية المفتوحة.
• تسوية الإرث الإنساني الخاص: خطوة نحو استعادة التوازن
من الضروري تسوية الإرث الإنساني لمعالجة تلك المظالم بشكل مرض للضحيا، فاستغلالها في الساحة السياسية يعمق الانقسامات. والمظاهرات التي تندد بما وقع في "إنال" في كل مناسبة استقلال تظل ناقوس خطر على الانتماء الوطني، مما يهدد الوحدة والاستقرار الداخلي.
• التحديات الدولية: هل نستعد لما هو قادم؟
في الوقت الذي يتصارع فيه الشرق والغرب على النفوذ في منطقة الساحل، وتتحول مالي إلى ساحة حرب بالوكالة، تزداد الضغوط على موريتانيا من موجات الهجرة واللاجئين، والتدخلات “الإنسانية” التي تحمل في طياتها أطماعا سياسية، قد تدعم بالجيل الخامس للحروب الهجينة من أحد الأطاراف. مما يستوجب تخطيط استباقي قادر على مواجهة هذه التحديات .
إن غياب العدالة الاجتماعية، انتشار الفساد، واستغلال المؤسسات الوظيفية لتحقيق مكاسب فردية يُضعف البنية الوطنية ويجعل البلاد أكثر عرضة لتكرار سيناريوهات الفوضى في ظل التنافس الدولي واستخدام الوسائل غير التقليدية، يقف العدو بعيدا بينما يعمل الانقسام الداخلي على تسهيل تنفيذ مخططاته، حيث يتحول البعض إلى “عملاء أغبياء” ينفذون مخططاته من دون تلقي رواتب، متسببين في نزيف حقيقي للهوية الوطنية.
• الطريق إلى المستقبل: الإصلاح يبدأ من الداخل
- العدالة الاجتماعية يجب أن تكون ركيزة الإصلاح الوطني، وليس شعارا فارغا.
- نقاش صريح وجاد حول الموروث الاجتماعي والطبقي، يركز على المصارحة بدلا من تأجيج الانقسامات.
- تسوية الإرث الإنساني الخاص بطريقة عادلة تعيد الثقة بين جميع أطراف المجتمع.
- مكافحة الفساد بحزم، مع تعزيز الشفافية والمساءلة في كل القطاعات.
- التخلي عن استغلال المظالم التاريخية لتحقيق مكاسب سياسية، والعمل على بناء مستقبل مشترك للجميع.
- التخطيط الاستباقي وفق أسوأ السيناريوهات، باستخدام الاستخبارات الاستباقية لتأمين البلاد من التحديات الخارجية المتزايدة، واحتواء الهجوم الخارجي.
إن موريتانيا، بتنوعها وموقعها وثرواتها، تملك كل مقومات النهوض، لكن ذلك يتطلب إرادة صادقة واستعدادا لحماية المصالح الوطنية بحزم قبل أن تقع الكارثة. فالتاريخ لن يعفو عن من أهمل، والبديل عن الإصلاح الحقيقي هو مستقبل لا يختلف عن المآسي التي شهدتها دول أخرى.
هل نتخذ قرار الحزم اليوم لمنع تكرار سيناريو سوريا غدا؟