في وداع عزيز فريد / محمد غلام الحاج الشيخ

ثلاثاء, 2024/12/10 - 19:12
 محمد غلام الحاج الشيخ/ نائب رئيس البرلمان الموريتاني السابق

ماذا الوَداعُ وَداعُ الوامِقِ الكَمِدِ

هَذا الوَداعُ وَداعَ الروحِ لِلجَسَدِ

 

تلك زفرة أحمدية أجددها اليوم مع الرحيل المفاجئ لأخ وصديق جرت بيني وإياه نسائم الود والإخاء مجرى النسيم في الأرواح.

 

كان مساء من أماسي العاصمة نواكشوط قد انحدرت الشمس تسرع نحو الغروب وقد أرسلت أشعتها محدثة سيولا من نورها تغمر طرقات المدينة.

 

إذ توقف بالباب صاحب سيارة دفع رباعي مؤذنا برحلة إلى شرق البلاد كنت منهمكا في إعداد حقيبة السفر وبالي منشغل بالسائق الذي سوف يصاحبني مثل ظلي في أيام السفر القادمة وشريط الذكريات يطعنني بأمثلة من بعض السائقين ويلح؛ وبعضهم كنود أينما توجه لا يأتي بخير.

 

 وبعض منهم كانّه قطعة من دخان معتق والبعض منصت ثقيل لا ينفك عن الاستماع لمكالماتك والسؤال عن تفاصيل ما أشكل عليه في حديثك مع الآخر …

خرجت من البيت وإذ بي أمام شاب فارع القامة حسن الهندام يسلم مبتسما ساعدني في وضع الحقيبة مكانها في السيارة ثم جلست عن يمينه حيث انطلقنا وهو يتمتم بدعاء السفر.

 وبعد أن أنهينا المأثور من الدعاء خاطبني قائلا اسمي 

ألا ولد داداه من أسرة تدعى أهل أبابكْ 

ينعتها البعض بأنهم كرام كاتبون يضيف أنا تلميذ للحاج ولد المشري لكنني أيضا من أنصار الصحوة الإسلامية ومن الداعين إلى التقارب بين أهل الإسلام والعاملين له.

 

أعجبت بصراحة الأخ فهي تشي بالصدق وعدم الغموض.

 

 من ناحيتي بادلته التعريف بي ...ولكنه قاطعني قائلا إنه يعرفني...

 وقد استمع لبعض خطبي ومحاضراتي وشاهد بعض البرامج في الجزيرة 

ثم طفق يتحدث عن تفاصيل دقيقة لبعض الأفكار التي تحدثت بها في بعض البرامج ..

 

كان كلامه موجبا لنقاش عميق في مضامين الهم الإسلامي والإصلاحي في بلادنا والعالم الاسمي ولم ننتبه لطول الطريق ولا لمنغصات الحفر وكثرة من يسأل سؤال النكد (عرفونا عليكم ) إلى ان وصلنا إلى قرية صنكرافة نزل صاحبنا بسرعة وعرض علي بعد جمع العشائين أي خدمة لكنني أصررت على الذهاب إلى صاحب العريش حيث اشتريت ما تيسر من طعام ثم أخرج هو آلة الشاي وأصر على أن يصنعه بنفسه مستدلا بقول العرب: ما حك جلدك مثل ظفرك .

 

استأنفنا رحلتنا بعد العَشاء فحاولت تغيير التردد إلى الأدب شعرا فصيحا أو عاميا متوجسا خيفة من أن يكون صاحبي من أهل التدين اليابس حسب تعبير الدكتور محمد المختار الشنقيطي.

 

فإذا به من جهابذة الادب بشقيه يحفظ مطولات روائع منها رائية من ألف بيت فبتنا نتبادل التخير في النصوص وقد اتفقنا على أن لكل قصيدة لبابا، وأن عليها قشورا، وأن الشاعر يدثر أحيانا جوهرها بمطالع وخواتيم قبيحات كي يبرز الدر الذي يقصد من ثم فإننا لا ننشد من القصيدة إلا الماتع المؤنس المفيد ونرمي منها القشور الصوارف عن الإمتاع والمؤانسة.

 

ما حدثته في موضوع إلا وجدت لديه إلماما به قد يصل حد الإتقان كم تحدثنا في الرقائق فسالت منا الدموع وكم تكلمنا عن التصوف تاريخاً وقدوات وناقشنا مبررات قيام الحركة الإسلامية واتفقنا على أن أعظم تدوين وتفسير للنصوص الإسلامية بعد عهد النبوة قام به تلاميذ الإمام البنا رحمه الله من جماعة الاخوان المسلمين ومذاهب السلفية في القديم والحديث ظلت مجال حديثنا وتحرير اللبس بينها وبين أهل التشدد وعند أي موجب فقهي نناقش التبصر في الفقه... 

ونعترف لمالك بشدة الحرص على السنة وكونه أول مؤسس لفقه المجتمع المدني ولأبي حنيفة الرأي والشافعي ثاقب الفهم في الأصل ولأحمد فقه الحديث والقرب من النص.

وكانت نقاشاتنا في النهاية تتفق على اعتبار جميع علماء الإسلام المنضبطين بضوابط الفهم اللغوي والأصولي في الاستدلال والاستنباط كلهم إسلام وفقه يحق للجميع الإفادة من آرائهم وفتاويهم 

كنا نتفق في تحليل مجريات السياسة في البلاد وفي العالم ولنا شراكة في الاهتمام بمذكرات الساسة وتاريخ الحروب القديم منها والحديث

مع الوقت حللنا بدنا فقد أصبح واحداً من الوفد إذا زرنا عينا وإذا عقدنا مهرجانا أو توجهنا لمهمة فالا معني بالمهمة وأحد العناصر الفاعلة فيها.. 

كان أخي إلا أقرب إليّ من كل الناس مذ تعرفت عليه فقد أضحى جزءا مني خلاً مؤنسا ومعاونا صدوقا أكِل إليه في الملمات يخلفني بأمانة حيث ما يمم يأتي بخير 

كان ألا أمينا دقيقا صادقا شفافا كما كان لسان صدق وساعد بر ومجمع فوائد ومعارف لا حدود لها …

فيه ينطوي عالم من غرائب هذا البلد الذي يحمل فيه العلم الغزير والفهم النير من يشغلون المهن والأعمال البعيدة عن عالم الثقافة والفكر.

 

رحل ألا إلى ربه بعد سنوات من مكابدة المرض رحل راضيا مرضيا صابرا محتسبا شكورا لربه مخلصا لدينه مشفقا على الأهل والأقربين مواليا للمؤمنين 

أما أنا فالله لي بعد صديق صدوق وصاحب مخلص ومن كنت أفكر به في الملمات وعويص المهمات ..

لكن عزائي أنه ترك ذرية صالحة وأبناء خيرين متعلمين نهلوا من علمه ومن قيمه العلوية دروسا كما نالوا من اهتمامه وتربيته 

وقد عض عليهم بالنواجذ حتى جاوز بعضهم عقبات التعلم 

كما أن له زوجا صبرت وبرت وساعدت أيام مرضه وقبلها وهي من أهل العلم والعبادة 

وأمه الصالحة المنفقة المداوية نعزيها والله نسأل لها الصبر والمثوبة 

ينتقل الا إلى رب رحيم كريم يعلم بسرائر عبد كان يوحده ويحمده ويذكر آلاءه الظاهرة والباطنة اللهم تقبله بقبول حسن مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .

 

كَذَلِكَ ما نَنفَكُّ نَفقِدُ هالِكاً

يُشارِكُنا في فَقدِهِ البَدوُ وَالحَضرُ

 

ثَوى في الثَرى مَن كانَ يَحيا بِهِ الثَرى

وَيَغمُرُ صَرفَ الدَهرِ نائِلُهُ الغَمرُ

عَلَيكَ سَلامُ اللَهِ وَقفاً فَإِنَّني

رَأَيتُ الكَريمَ الحُرَّ لَيسَ لَهُ عُمرُ

 

محمد غلام الحاج الشيخ