الإحساس الحاد بالحياة/ أحمد فال الدين

خميس, 2024/12/26 - 11:59

في بواكير عام 2003، جاءني رجلٌ ليبيّ أسمرُ قصيرٌ مهموماً. وبعد تلكؤٍ فاتحني في أمر يود رأيي فيه. قال إنه لاجئ في الولايات المتحدة منذ عشر سنوات هرباً من جحيم القذافي، وقد اتصلتْ به الهجرة وطلبوه ليأتيَ لأخذ جنسيته الأميركية. ولما سألتُه عن الإشكال قال إنهم سيطلبون منه القَسَمَ على الوفاء للولايات المتحدة، وهو قَسمٌ لا يستطيع الوفاء به لأنّها تَدق طبول الحرب لغزو العراق. فلا هو يستطيع الحلفَ كذباً، ولا الوفاءَ لأمةٍ تقتل وتغزو ظلماً.

 

انحفر ذلك الموقفُ عميقاً في وجداني مثالاً لقوة الفطرة الإنسانية، وصلابة الشخصية الإسلامية، وحاستها الأخلاقية. فهذا فقير، طريد، نصفُ أميٍّ، لكنه يقف جبلاً –بكبرياء- في وجه الإمبراطوريات، ويتحرّك ضميره فيما يصل إليه من شؤونها دون تستر بأقوال، أو تعذرٍ بحاجات. 

 

ولعل من المنازع الفكرية المقلقة التي يحاول المستبدّون نشرها في الوطن العربي محاولة قتل هذه الحاسة الأخلاقية، وإطفاء ذلك الجمر المقدس المتقدِ –فطرةً- بين جوانح المسلم. فأصبح من الدارج الترويجُ لانطواء الشاب على ذاته، وعدم تبنيه لأي موقف من أي شيء باعتبار ذلك طريق النجاح الأسلم. ويروّج أصحاب هذه الفكرة لما يسمونه بـ"الحياد" في الأفكار والنزاعات، والبعد عن العاطفية والمواقف الحادّة عموماً، وهم تحت عنوان "الحياد" يروجون للبلادة الأخلاقية ويحذّرون من الوقوع في "التعميمات" الضارة. 

 

ونحن نعلم أن المواقف الحادة دليلٌ على سلامة مِجسّات الضمير، ومتانة الحاسة الدينية. فالمواقف الحادة تجاه الظلم هي مواقف الأنبياء. حتى إن الله تعالى كان يطالب نبيَّه بكفكفة مشاعره لشدة حدتها حتى لا تتجاوز حدود الطاقة البشرية: "فلا تذهبْ نفسُك عليهم حسراتٍ"، "فلعلكَ باخعٌ نفسَك (أي: قاتلٌ نفسَك) على آثارهم إنْ لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا".

 

فالإنسان السويّ ذو مواقف حادة من شؤون الحياة وشجونها، ومهتم –فطرةً- بملحمة الإنسان على هذه الأرض بكل تفاصيلها. ويتأكد هذا الأمر في حق المسلم للحاسة الأخلاقية التي زوّده بها القرآن.

 

لقد كان المستشرق مايكل كوك، موفقاً –على غير عادته- حينما صدّر كتابَه عن فلسفة "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" (2009) بحادثة اغتصاب فتاة في محطة المترو بشيكاغو عام 1988، دون أن يقف أحد من عشرات العابرين لمساعدتها وهي تستغيث، وكان أكثرهم نجدةً من اتصل بالشرطة وأعطاها رقم سيارة الجاني بعد تركه للمكان. وكأن كوك يقول –ضمناً- بأن هذه الحاثة يستحيل أن تقع أمام أعين مجتمع صهرتْه العقيدةُ الإسلامية الحيّة المبنيّة على فلسفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والانخراط في المجال العام.

 

إنّ فكرة كون الإنسان حيادياً لا يتدخل إلا في ما يمسّه فكرةٌ غريبة على المسلمين. فالقرآن حكى لنا قصة موسى وهو في لحظات ضعفه، طريداً لا نصير له، لكنّه ما إنْ رأى فتاتين منعزلتين، والرجالُ يزدحمون على الماء حتى نسي مأزقه، وتحركتْ مروءته واقترب منهما مبادراً: "ما خَطْبُكُما؟ قالَتا: لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ". فبينتا له أسباب انزوائهما وتأخرهما عن الورود، فهما امرأتان والرعاةُ المزدحمون على الماء رجال أشداء، وأبوهما شيخ كبير لا قدرة له على مزاحمة الرجال. وهنا يتقدّم موسى فيعين المرأتين ويسخّر قوته الجسدية لهما لتبدأ قصة بشرية أخرى. والفكرة أنه لم ينزو، بل بادر كما يبادر المؤمن، وحشر نفسه في الحالة بقوله: "ما خطبكما؟".

 

وإن تعجبْ فعجبٌ أن المواطنة المعاصرة تعطي الفردَ حقّ المشاركة والنقد والتوجيه والانخراط في كل شيء، وهي بهذا تجسيد للمبدأ الإسلامي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ففلسة الأمر بالمعروف تعني الانخراط في الحياة، والوقوفَ مع كل حق، وضدَّ كلِّ ظلم. والمواطنةُ المعاصرة تمنح الفرد حق التدخل في الشأن العام وقولَ كلمته في كل أمر ذي صلة بالمصلحة العامة. ومع هذا الالتحام بين فلسفة الأمر بالمعروف وحق المواطنة، يسعى الكثيرون اليوم إلى إقناع شبابنا بالسلبية والمَوات الأخلاقي حتى يخرجوهم من قمرة التاريخ، ويُحيّدوا القوة الحيوية في المجتمع.

 

دائماً ما يخطر ببالي أن من أسباب ظهور الرسالة الخاتمة في جزيرة العرب، هي تلك الروح المبادرة المنفعلة بقصة الإنسان، من مروءة وشجاعة وكرم وبذل وتضحية. فالفتى الجاهلي -قُبيل الإسلام- كان يفخر دوماً بحاسته الحادة، وانشغاله بالهم العام، حتى إن المجتمع إذا احتاج لأي نجدة يرى نفسه معنيّاً بها شخصياً: 

 

إذا القوم قالوا: مَن فتىً؟ خِلتُ أنني * دُعيتُ! فلم أكسلْ ولمْ أتبلَّدِ!

 

فهذه البيئة ذات الحاسة الأخلاقية العالية، التي لا يرى صاحبها لنفسه وجوداً إلا بعد ذوبانه في الهمّ العام، هي التي نزل فيها القرآن. وهي بيئة تُنبئ عن مجتمع حيّ يتأهب لاستلام قيادة التاريخ.

 

لقد لاحظ كثيرٌ من فلاسفة السياسة المعاصرين الأخطار التي تهدّد المجتمعات بسبب غياب هذه الروحة الشجاعة المنفعلة بالخير والعدل. ومن الأمثلة التي ناقشت ذلك كتاب "نهاية الشجاعة" (2017) لسينتيا فلوري، وهو صرخة مهمة في هذا الاتجاه. فظهور كائنات جبانة محايدة أخلاقياً، أنانية لا تتحرك إلا إذا هُدّدت مصالحها منذرٌ ببوار المجتمع وانجراره إلى التحلّل والتفكّك.

 

تنظر الشخصيّة المؤمنة إلى نفسها باعتبارها مسؤولة عن سلامة هذا الكون، ومراقبة لسيره في الاتجاه الصحيح. ولذلك عندما أدبر ذلك الرجل الليبي أتبعتُه بصري وأنا أردد مقولة ابن خلدون عن أنّ "الإنسان رئيسٌ بطبعه لطابع الاستخلاف الذي خُلق له". فالإنسان السوي "رئيسٌ بطبعه"، ذو شخصية أخلاقية حادّة المشاعر، لها رأيٌ في كل حركة أو سكون في هذا العالم، فكيف إذا كان ذلك الرأي وتلك الحادثة تحت أنفه وفي أرضه، أو مما سينعكس على حياته وحياة ذويه؟

هو كذلك -أي المؤمن- حسّاس تجاه الأفكار والمواقف والمشاعر والمناظر، بل إن حاسته تتجاوز القضايا الأخلاقية إلى المناظر الكونية. فكل زهرة تُشجيه، وكل جبلٍ يشوّقه، وكلُّ نأْمةِ طائرٍ تمزّق وجدانه وتلعب بخياله. فهو كائنٌ حادّ الإحساس، ذواق للجمال، ذو رأي في كل ورقة تسقط، ورياح تهب، أو غيمة تُمطر في هذا الكون. فهو شاعر هذا العالم، ذو العينين المفتوحتين، والقلب الخفّاق. بل إن حاله مع آهات المظلومين كحال المتنبي مع الجمال:

 

فلا أمرُّ برَبْعٍ لا أسائلُه ** ولا بذاتِ خِمارٍ لا تُريقُ دمي!

 

هذه الدعوات التي تدعو الشباب اليوم إلى السلبية دعواتٌ حيوانية أنانية. فمِن آلاء الله على الإنسان أن يكون حادّ الإحساس؛ لأن التبلدَ ذو نسبٍ في الحيوانية عريق. فكنْ صاحب موقف من شؤون الكون وشجونه، معنياً بكل دمعة، ذواقةً لكل جمال، ذا صلةٍ دائمة بالملحمة البشرية على هذه الأرض!