.. مِن أولى معارك ردّها اقتبست فصائل المقاومة الفلسطينية أسماء جولاتها الدفاعية من القرآن الكريم: "الفرقان"، "حجارة السجيل"، "العصف المأكول"، قبل ينتقل الاقتباس إلى خلفية الكلمة الخطابية للناطق العسكري باسم هذا الجناح العسكري أو ذاك، حتى إذا تحوّل اتجاه رياح المعركة من الدفاع إلى الهجوم، ومن جهد الدَّفع إلى جهاد الطّلَب سرَت معاني القرآن في تضاعيف معركة "طوفان الأقصى"، منذ طليعتها: اقتحامِ السابع من أكتوبر، لتدبّ في مَشاهد ميدانها ويوميات ابتلائها، بما تحتها من حلو الإثخان ومُرّ القَرْح، مرورا بغمْرة الفرح بالنّصر، التي تفرّقت مشهديّتُها بين لحظتين: الإعلانِ رسميا عن التوصّل لوقف إطلاق النار، ودخولِ الاتفاق إطلاق حيّز التنفيذ.. لتُضبط ساعة ساحات المناصَرة والإسناد على توقيت غزّة، فيخرُج أنصار القضية في مواكب ابتهاج ومسيرات احتفاء، وحُقّ لهم {فبذلك فلْيفرَحوا}، {ويومئذ يفرحُ المؤمنون بنصر الله}!
.. وقبل أن يتمثّل القرآن الكريم في قطاع غزّة وتتبدّى أظهَرُ تجلّياته مع ملحمة الطوفان الغزي المبارك، عاش القطاع القرآنَ -وتنفّسَه- واجتمع عليه: تلاوة، وسردا، وتخلُّقا، في المخيمات التربوية، وحِلق المساجد؛ فبالتوازي -والتزامن- مع إقبال المواطنين الغزيين على مائدة "دار القرآن الكريم والسنة " في جنوب غزة، من خلال مشروع "صفوة الحُفّاظ"، كان أفراد "كتيبة الحفّاظ" من قوات النخبة، التابعة لكتائب القسّام يتغنّون بالقرآن، ليتردّد صدى التلاوة ودندنة الحفظ ملء الأساطين، ومَدّ الميادين، دون أن ينسى قادة المكتب السياسي لحركة حماس حظّهم من الذّكر والوِرد؛ فكان رئيسُ الحركة -الحافظُ- إمامَ التراويح!
وعلى ذكره -رفع الله ذكره- مرّ بمسمعي -في أوائل الطوفان الغزي المبارك- حوار الذين نافقوا مع إخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب، متلوّا بصوت الشهيد إسماعيل هنية، في أداء ندي خاشع، فأحسست كأنّني أسمع الآيات أوّل مرة، وكأنما تجدّد سبب نزولها وحضر شاهِد مِصداقها. وما أكثر تجليات موقف المنافقين، الذي أعادَه "التاريخ السياسي"، وفضحته غزة وكشفَه طوفانها فكان من مظاهر ذلك الانكشاف السافر والافتضاح المدوّي، إرجافُ بعض أبواق النفاق المعاصر، وشماتتهم بالمقاومين والحاضنة الشعبية من حولهم، وترديدهم -في جفاء وتشفّ- مقالة الذين كفروا من قبل: {لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قُتِلوا}، وقد التقط هذا الانطباعَ بعضُ ذوي الفهم السطحي، والتصوّر المثقوب -عن سذاجة- فقال قائلهم: قد كان القوم في غنى عن التعرّض لهذه المأساة، فـ"حياتهم" قبله أحسن، و"وفَياتهم" أقلّ!.. وربما استخفّ هؤلاء "المشفقين" الاندفاع الفارغ، فاقترحوا على صناع اللحظة ومهندسي الاقتحام التريّث حتى تحين فرصة محسوبة التّبعة، مضمونة النتيجة، تتيح فكّ أسر المسجد الأقصى وتحريرَ القدس وفلسطين، خلال أربع وعشرين ساعة، بالتي هي أكثر غنيمة وأقلُّ خسارة!!
ومِن "تشابه القلوب" بين مُرجِفي الزمن الأول و"مرجِفي آخر زمن" تعليقُ المسارعة في موادّة القوى العالمية الغالِبة، على مِشجب "خشية الدائرة" ودفْع الضائقة، والتربّصُ بالفئة المؤمنة الخائضة غمرات الوغى؛ فإن كانت لها الدائرة {قالوا ألم نكن معكم}، وإلّا نشروا بساط تقرّبهم للعدوّ وبذلوا له فوريّ تزلّفهم، قائلين: {ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين}، تباهيا بنشر التخذيل، وبثّ التثبيط في نفوس المواطنين المنكسرين وأوساط "الشعوب المساندة"، وليس هذا إسقاطا اعتباطيا؛ بل هو استحضار سياقي، تسنده قاعدة: "العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب"، وعندي أنّ هذه القاعدة تتجسّد -بجلاء- في حال المنافقين والمخذّلين وزارعي التثبيط وقُوى الاستكبار العالمي العظمى، الذين بدا من أحداث ملحمة الطوفان أنهم ما زالوا كما كانوا: {بعضُهم أولياءُ بعض}، كما ظهر من حال رموز المشهد السياسي العبري، من مناوئي رئيس حكومة الحرب بنيامين نتنياهو، ومغاضِبيه أنهم وإياه ليسوا على قلب رجل واحد، مصداقا للآية: {تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى}، وقد رأينا كيف سلّ حليفُ الأمس ليبرمان ثيابَه مِن ثياب نتنياهو وسلقَه بلسان حادّ؛ كأن لم يكن بينه وبينه مودّة ولا "شراكة حكومية" تحت مظلّة اليمين المتطرّف!.. وقد عُلِم من مضاعفة تحصين مدرّعات ودبابات الاحتلال -في هذه الحرب، وإنشابِه "الجدارَ العازل" -مِن قَبل- أنّ يهودَ ما زالوا -ولن يزالوا- كما وُصِفوا في الآية: {لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصّنة أو من وراء جُدُر}.. ولو ذهبتُ في إيراد الآيات القرآنية المتجلية في معركة طوفان الأقصى، لكان استيفاؤها يقتضي تتبع التسلسل الزمني للأحداث، والسيرَ مع "كرونولوجيا" المَشاهد، ومن ثمَّ ربطَها بالخلفيات السياقية: سياسية، واجتماعية، ونفسية، وإعلامية، واقتصادية.. بدءا من مشهد اقتحام السياج الحدودي، الذي صعق العدو {فساء صباح المنذَرين}، ولقد أقام مشهد الهجوم البري والجوي والبحري في الذهن تصوّرا يتجاوَز خصوص اللفظ في مطلع سورة "العاديات"، ويقف عند دلالة "التصبيح"، في لغة العرب، و"قاموسها الحربي"، وهو الوقت الذي ضبطت عليه المقاومة "ساعة الصفر" في معركتها السابعة، في السابع من أكتوبر!
ولو قال قائل إن القرآن نزل في مكة، وقُرئ في المدينة وتمثّل في غزة، لكان لقوله نصيب من الورود، وحظّ من الرّجحان، باعتبار ابتداء نزول الوحي في مكة، وريادة قرّاء المدينة، وتجليات آيات الوحي في ملحمة غزة الإيمانية ومحنتها الإنسانية، دون تخصيص غزة وقطاعها الصامد بتمثُّل القرآن فيها، خالصا لها من دون بلاد المسلمين، وأرجاء المعمورة، لشمول رسالة الإسلام وإحاطة معجزته الخالدة!
نعم؛ لقد نقل القرآن -في أدق تصوير وأوفي عَرض- تلك التجليات، ليس في المستوى "الحدَثي" فحسب، بل في المستوى "النفسيّ" أيضا، واقرأوا -إن شئتم: {إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا}، واقرأوا معها -في المقابل: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَٰذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ۚ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}.. ثمّ راقِبوا مقاتِلَهم وهو يُلقِم المدفعَ القذيفة، أو يهوي بـ"الياسين105" على "الميركافا"، وهو يردّد: {وما رميتَ إذْ رَمَيتَ ولكنّ الله رمى}، ولا تلوموهُ -بل اعذُروه- إذا عصب رأسَه وتبختر -على طريقة أبي دجانة- ثمّ قال:
"ولَّـعَت".. وليس على ذي الشيبة الوَقور -اليومَ- من حرَج إذا ما قلّد مِشية أبي دجانة -المحمودةَ في سياقها- فكما تحلو "الكزدرة" في الأنفاق ساعةَ المواجهة، تتّسع مندوحة إظهار السرور، ابتهاجا بالنصر الغزيّ، ويُجزئ من ذلك حلوى توزّع، ودبكة تؤدّى، ومهرجان احتفال ينظّم.. {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا}.