غزة...خلف الخطوط الملوَّنة

سبت, 2025/12/06 - 18:01
سيدي محمد يونس - كاتب صحفي موريتاني

خلال عامين كاملين، صمد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بمقاوميه ومدنييه صمودا أسطوريا لم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.

 

فلم تثنِ الإبادة الجماعية المنقولة على الهواء لكل العالم الذي تفرج وتجاهل وخذل، بل ودعم القتل والتشريد والتجويع وبرره واستمر في إسناده… لم تثنِ المواطن الغزاوي عن الدفاع عن قضيته، رغم الفاتورة المكلِفة، ولا عن التمسك بأرضه، رغم الإغراءات السخيّة.

 

وفي ظل هذا الوضع الكارثي الذي لا يطاق، تعالت صيحات المطالبة بوقف العدوان داخل غزة وعبر العالم، واستبشر الجميع بأي بصيص أمل بدا في الأفق من شأنه أن ينهي المأساة.

 

لكن وقف العدوان، وإن كان هدفا مرحليا ومطلبا مُلحا، لا ينبغي له إلا أن يبقى وسيلة لهدف أسمى، ألا وهو رحيل الاحتلال عن غزة والأقصى وعن كل شبر من أرض فلسطين المحتلة، وبدون استثناء.

 

فعلى هذه العقيدة تأسست حركة المقاومة الاسلامية (حماس)، وحركة الجهاد الإسلامي، والجبهة الشعبية، وباقي فصائل المقاومة، حتى حركة فتح قبل أن تحيد عن مسارها وتوظف نفسها لخدمة أجندة الاحتلال بعد اختطافها من قبل قيادة تجمع المال قبل السلاح، وتوجه رصاصها نحو صدور المقاومين بدل نحور المحتلين.

 

ولأن حركة حماس تعتبر رأس حربة المقاومة في غزة والمديرة الفعلية للقطاع، فهي المستهدفة بهذا المقال، تثمينا وملاحظة وانتقادا.

 

لقد بنت حركة حماس أمجادها من خلال فوهات البنادق التي حملها أبطال كتائب عز الدين القسام وما سطروه من بطولات ميدانية أذهلت المحللين العسكريين بالإثخان النوعي في العدو، وأثلجت صدور المؤمنين بعدالة قضيتها، مع حفظ الدور الكبير الذي يقوم به الجناح السياسي إسنادا للميدان الذي هو وسيلة التحرير الأولى والأخيرة.

 

ولقد شاهد العالم كله، بإعجاب وذهول، كيف توّجت المقاومة الباسلة مجهودها البطولي بالنصر المعجزة يوم السابع من أكتوبر 2023، وهو ما لم يكن ليحصل لولا قيادة الجهاز السياسي للحركة من قبل قادة القسام الميدانيين الذين يخاطبون العدو بلغة القوة التي يفهمها، لا بنقاط المكاسب وإكراهات التنازلات على طاولات الحوار، رغم أهميته لالتقاط الأنفاس بدل الرضوخ لمحاولات قطع النفَس.

 

لقد علمتنا حماس أن استمرار نضالها وعطائها مرتبط بالنهج الميداني المتصاعد، وأن قادتها يتصدرون المشهد في مقطع زمني محدد يسلمون بعده الراية لمن هو أشد إصرارا وأغزر عطاء.

 

ورغم أهمية الجناح السياسي، يبقى المفاوض شخصا تغلب عليه الدبلوماسية ولبراغماتية، وتفرض عليه أجواء النقاش تقديم تنازلات لن تُرضي من درجوا على الخيانة ونبذ العهود على مر التاريخ، بل إنها تدفعهم للمضي في غيّهم للتنازل أكثر وأكثر.

 

صحيح أن العالم لا يتذكر كثيرا مسار الأحداث المأساوية خلال العقود الأخيرة، جهلا أو تجاهلا، ولذلك صنف بعضه السابع من أكتوبر على أنه عدوان على إسرائيل، وكأنها الضحية التي لم تغتصب أرضا ولم تشرد شعبا ولم تنتهك قانونا، وأن لها كامل الحق في "الدفاع عن نفسها" بعد هجوم المقاومة البطولي.

 

نحن ندرك أنه كان من الأفضل أن يأتي عدوان الاحتلال بهذا الشكل الفظيع بدون السابع من أكتوبر، حتى لا تنطلي الدعاية الصهيونية على أحد. لكن الهجوم، الذي مرّغ أنف الاحتلال وكشف حقيقة ضعفه وزيف ادعائه الانتماء للعالم السويّ وامتلاك الأخلاق الفاضلة، حقق للقضية الفلسطينية من المكاسب ما لا حصر له، وكان يجب الحفاظ على زخمه وقوة تأثيره التي بلغت ذروتها بترسيخ العزلة الدبلوماسية للكيان المحتل عبر اتساع دائرة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حتى من قبل بريطانيا المسؤولة الأولى عن مأساة فلسطين، وعبر الانسحابات المذهلة للوفود المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عند اعتلاء رئيس الوزراء الاسرائيلي، بنيامين نتنياهو، منصتها.

 

في هذا الجو الضاغط على الاحتلال، وعلى الولايات المتحدة نفسها كداعم بات شبه وحيد للعدوان والانتهاكات، جاءت خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، لتذكّرنا بمؤتمر مدريد المشؤوم نهاية أكتوبر 1991 وما جلبه من ويلات بدأت بعد عامين باتفاق أوسلو وما زالت مستمرة إلى اليوم، وذلك بعد أن فرضت الانتفاضة الفلسطينية الأولى أجندتها على الكيان وعلى داعميه، فأخرج المؤتمر إسرائيل من عنق الزجاجة، لتعود لممارساتها السابقة من خلف ستار التفاوض، تماما كما تفعل الآن من خلف الخطوط المولوّنة في قطاع غزة.

 

لقد كانت مكاسب الطوفان أولى بالصيانة، رغم الجحيم المصاحب، فاليسر محاط بعُسرين والنصر صبر ساعة، حتى لا تتلاشى تلك المكاسب التي يتقدمها الغضب الشعبي العالمي، والعزلة الرسمية المتصاعدة للكيان المعتدي، والتآكل الاقتصادي والاجتماعي والأمني والعقائدي لسلطة الاحتلال ومجتمعها المتنافر وغير المتجانس، والذي بات على حافة الانفجار والاقتتال الداخلي.

 

إن المقاومة لن تعدم الأسباب التي تبرر الاستمرار في طريق ذات الشوكة، فمن مسؤولياتها الواجبة والأخلاقية والضرورية الوفاء لدماء الشهداء وتضحيات الأهالي، والحفاظ على رأسمال الفعل المقاوم، وهو التوكل على الله، والتشبث بشعارها المستوحى من نيل إحدى الحسنيين: "نصر أو استشهاد"، والذي عضّ عليه قادة المقاومة بالنواجذ، من شيخها المؤسس إلى قادة الطوفان، فقضوا نحبهم مقبلين غير مدبرين.

 

إن قيادة المرحلة كان يجب أن تظل ميدانية حتى تضع الحرب أوزارها، فلا يقود قاعد "ميدانيا"، مهما راكم من جهاد على ثغور السياسة والدبلوماسية، حامل سلاح في مواجهة العدو.

 

وأعتقد أنه ما كان لحماس أن يصل بها الأمر إلى أن تجد نفسها مرغمة على استجداء "الوسطاء وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة" للَجم العدو ومنع انتهاكاته المستمرة لاتفاق وقف إطلاق النار.

 

كان عليها أن تستمر في مخاطبة المحتل بلغة القوة، كما كانت تفعل دائما، فهي اللغة الوحيدة التي تصل أسماعه ويحسب لها ألف حساب، خاصة أن سلاح حماس اليوم أقوى من ذي قبل، وقضيتها أكثر عدالة في نظر الكثيرين عبر العالم، وعليها أن تتمسك بنظرتها للصراع على أنه ديني وجودي سلاحه إعداد المستطاع والتوكل على الله والثقة بنصره.