الحكامة الدينية والثقافية في منطقة الساحل.. أسس الرسوخ وفرص السلام

ثلاثاء, 2025/03/11 - 14:33
الدكتور إزيد بيه الإمام - أكاديمي وباحث

الحكامة الدينية والثقافية في منطقة الساحل... أسس الرسوخ وفرص السلام

د. إزيدبيه الامام – أكاديمي وباحث

تعتبر منطقة الساحل واحدة من أكثر المناطق تعقيدًا من حيث تعمير الأزمات السياسية والمجتمعية، وضعف القدرات الاقتصادية، وإخفاق الدول الوطنية، وتناقض رهانات دول هذا الإقليم إضافة إلى الانهيار المتواصل للمنظومات الإقليمية، وتصاعد التنافس الدولي على الساحل، أرضا وأمنا وخيرات.

وقد طبعت كل هذه الإخفاقات حياة المجتمعات بكثير من الاختلال سواء من حيث القيم والنظم التقليدية لتدبير المشترك العام، ومن أبرزها الدين والثقافة، أو من حيث التنمية والسير نحو الحد الأدنى من المقبولية الاقتصادية والاستقرار التنموي.

وفي مختلف هذه الإشكالات يظل سؤال الدين والثقافة سؤالين محوريين، باعتبار موقعهما المتقدم في تفكير الأفراد والشعوب، وما يُنسب إليهما غالبا من حافزية أو عراقيل، ونحن إذ نتناول مبحث الحكامة الدينية والثقافية، نظل حريصين دائما على التمييز بين الدين والتدين، وبين النصوص وممارسات المؤمنين بها، وبين أصول الثقافة وتطبيقات الناس لها.

وجدير بالذكر أن الحكامة الدينية والثقافية في هذه المنطقة تواجه عدة تحديات في إدارة الشؤون الدينية والثقافية، وتتطلب جهودًا متكاملة من الحكومات والمجتمع المدني لتعزيز الاستقرار والسلام في المنطقة. 

ومنطقة الساحل هي منطقة جغرافية تقع بين الصحراء الكبرى في الشمال والمناطق الأكثر خضرة في الجنوب. وتشمل هذه المنطقة عدة دول، وتتميز بعدة خصائص مثل التنوع الديني والثقافي، وانتشار التطرف والجماعات المتطرفة، والصراعات العرقية والدينية، وضعف المؤسسات الدينية الثقافية، وانتشار الفقر والبطالة، إضافة إلى التدخلات الخارجية التي تؤثر على التوازنات الدينية والثقافية بها، كما تُعاني منطقة الساحل من الهجرة ونقص الموارد الناجم عن التغيرات المناخية والصراع على الموارد.

فما هي إذاً الحكامة الدينية والثقافية في الساحل؟ وما هي أبزر التحديات التي تواجهها؟

وكيف يمكن تعريز الحكامة الدينية والثقافية في هذه المنطقة؟ للإجابة على هذه الأسئلة وغيرها نقدم مقاربتنا لهذا الموضوع الهام. 

وكما هو معلوم فإن منطقة الساحل تمثل الخاصرة الرخوة للعالم بسبب تضافر عدة عوامل منها التصحر والتناقضات العرقية والاجتماعية ومخلفات الاستعمار وضعف أنماط الحكامة السياسية التي كانت سائدة، إضافة لرسوخ نماذج من الحكامة التي لا تتأسس على البُعد الديني والثقافي لشعوب المنطقة.

وقبل الدخول في التفاصيل حري بنا أن نقف مع تعريف مصطلح الحكامة الدينية، فما هي الحكامة الدينية إذاً؟

يشير مصطلح الحكامة الدينية إلى الإدارة الرشيدة والمنظمة للشؤون الدينية في مجتمع ما، بما يضمن تحقيق العدل والشفافية والمساءلة في إدارة المؤسسات الدينية والأنشطة المرتبطة بها. وتشمل الحكامة الدينية عدة جوانب مثل العدل والشفافية والمساءلة والمشاركة والكفاءة.

وتهدف الحكامة الدينية إلى تعزيز الاستقرار الاجتماعي والوئام الديني، وتجنب الصراعات الدينية، وضمان أن تكون المؤسسات الدينية قادرة على تلبية احتياجات المجتمع بشكل فعال.

وبإسقاط هذا التعريف على منطقة الساحل نجد أن شعوب الساحل حاضنة للإسلام لأنه يشكل العنصر الأساسي لتكوين شخصيتها الدينية والثقافية.

فالحكامة الدينية لم تكن حاضرة في أنظمة الحكم في الساحل، لأنها ببساطة عبارة عن مشاريع مستوردة وهو ما جعل كل شعوب الساحل تسعى لإثبات خصوصياتها الدينية وهو ما نشأ عنه نماذج من الحكامة من خلال الجماعات المتشددة التي لا تمثل الإسلام الصحيح بفهمه الوسطي المعتدل. 

كما أن هناك تناقض كبير في مظاهر الحكامة الدينية في المنطقة من خلال الأنظمة السياسية من جهة والجماعات المسلحة من جهة أخرى. 

 

 

وقد سعت الأنظمة في الساحل في بدايتها لمحاربة الطرق الصوفية وهو ما جعلها تصطدم بالشعوب؛ وذلك لأن الطرق الصوفية ضمنت لشعوب الساحل المحافظة على مستوى من الحكامة الدينية، مثل الطريقة القادرية عبر مشربيها البكائي والفاضلي، والطريقة التجانية عبر مشربيها التجانية العمرية والتجانية الإبراهيمية وكذلك الطريقة الشاذلية بفرعها الطريقة القظفية.

ومما هو معلوم أن الإسلام في الساحل يتميز بتأثير الطرق الصوفية، التي تلعب دورًا كبيرًا في تنظيم المجتمع وتقديم الخدمات الاجتماعية والتعليمية. فهذه الطرق غالبًا ما تكون وسيطًا بين الدولة والمجتمع، وتساهم في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي. 

فالدين في حياة شعوب الساحل ليس مجرد جانب روحي، بل هو جزء أصيل لا يتجزأ من الهوية الثقافية والاجتماعية والسياسية، ويشكل أساسًا للتعايش والتضامن المجتمعي، رغم التحديات التي تواجهها المنطقة. 

ومن المعلوم أن هناك ترابط وثيق بين الحكامة الدينية والثقافية، وقد شكلت الحواضر العلمية الكبيرة في الساحل حكامة ثقافية مثل "أروان" و"تمبتكو" و"ولاته" و"كومبي صالح" و"وكَاوة" و"أكاديز" و"أكندر".

ويمكن تعريف الحكامة الثقافية بأنها الإدارة الرشيدة والمنظمة للشؤون الثقافية في مجتمع ما، بما يضمن تعزيز الهوية الثقافية، وحماية التراث، ودعم الإبداع الفني والأدبي، مع مراعاة مبادئ العدل والشفافية والمشاركة المجتمعية. 

وتشمل الحكامة الثقافية عدة جوانب كحماية التراث الثقافي وتعزيز الإبداع والعدل والإنصاف والشفافية والمشاركة المجتمعية والتنوع الثقافي.

وتهدف الحكامة الثقافية إلى بناء مجتمع متناغم ومتسامح، حيث يتمتع الجميع بحقوق متساوية في المشاركة الثقافية والاستفادة من الموارد الثقافية، مع الحفاظ على الهوية الثقافية للشعوب وتعزيزها.

فشعوب منطقة الساحل تمتاز بأنها مشتركة في الدين والثقافة والفولكلور ومن أدوار الحكامة أنها تعزز المشترك وتحتفظ بالخصوصية رغم أن شعوب المنطقة تستعصي على الاختراق الثقافي خاصة مجتمعي البيظان والفولان. وهذه الخصوصية تظهر في التسامح والفن والإبداع الثقافي.

فمنطقة الساحل تتمتع بتراث ثقافي غني ومتنوع يشمل اللغات والتقاليد والفنون والموسيقى والطقوس الدينية.

ولهذه الحكامة الثقافية عدة تحديات أبرزها عدم الاستقرار السياسي والأمني إضافة إلى الفقر وندرة الموارد والاستغلال غير المستدام للتراث.

وهنا نقترح مجموعة من الآليات لتعزيز الحكامة الثقافية في منطقة الساحل:

1. تعزيز التعاون الإقليمي: بإنشاء إطار تعاوني بين دول الساحل لحماية التراث الثقافي المشترك وتبادل الخبرات.

2. تمكين المجتمعات المحلية: من خلال إشراك السكان المحليين في إدارة التراث الثقافي واتخاذ القرارات المتعلقة به.

3. التشريعات والسياسات: وذلك بوضع قوانين وسياسات وطنية وإقليمية تحمي التراث الثقافي وتدعم استدامته.

4. التوعية والتعليم: من خلال تعزيز الوعي بأهمية التراث الثقافي من خلال البرامج التعليمية والإعلامية.

5. الدعم الدولي: من خلال التعاون مع المنظمات الدولية مثل اليونسكو وغيرها للحصول على الدعم الفني والمالي لحماية التراث الثقافي.

فالحكامة الثقافية في الساحل تعتبر عنصرًا أساسيًا لتحقيق التنمية المستدامة والحفاظ على الهوية الثقافية في ظل التحديات المتعددة التي تواجهها هذه المنطقة. فما الذي ينبغي لتعزيز الحكامة الدينية والثقافية في الساحل؟

إن تعزيز الحكامة الدينية والثقافية في منطقة الساحل يتطلب جهودًا متعددة الأبعاد تشمل الجوانب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية.

فتعزيز الحكامة الدينية والثقافية يجب أن يكون جزءًا من استراتيجية شاملة لتحقيق الاستقرار والتنمية. فما هي الجهود المطلوبة لتعزيز الحكامة الدينية والثقافية؟

فيما يلي بعض الجهود المطلوبة:

1. تعزيز الحوار الديني: بتشجيع الحوار بين الأديان والمذاهب المختلفة لتعزيز التسامح والتفاهم.

2. دعم وتطوير التعليم الديني الوسطي، وهنا أدعو إلى أن تحتضن موريتانيا جامعة الساحل لتكون محضنا علميا وفكريا وثقافيا للمنطقة كلها، ليس فقط في التعليم الديني، وإنما في مختلف المعارف القادرة على صناعة النخبة المستنيرة، وأعتقد أن مدينة النعمة عاصمة الحوض الشرقي جديرة بأن تحتضن مثل هذا المشروع المهم والمؤثر. 

2. تمكين المؤسسات: من خلال دعم المؤسسات الدينية والثقافية لتعزيز قدرتها على إدارة التنوع.

3. مكافحة التطرف: من خلال تنفيذ برامج لمكافحة التطرف والوقوف أمام تجنيد الشباب.

4. تحسين الأوضاع الاقتصادية: إن العمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يقلل من عوامل الجذب نحو التطرف.

5. حماية التراث الثقافي: من خلال تكامل الجهود لحماية التراث وتعزيز التنوع الثقافي.

6. تشجيع البحوث حول الدين والثقافة: وذلك بدعم البحوث الأكاديمية التي تدرس دور الدين والثقافة في تعزيز الاستقرار الاجتماعي والسياسي في المنطقة.

ومن هنا أدعو إلى مبادرة إسلامية يقودها علماء المنطقة تعتمد على الأبعاد التالية:

أولا: قيادة وساطة وحوار لإيقاف نزيف الدم والحرب المدمرة في الساحل، ويمكن الاستفادة من التجربة والمقاربة الموريتانية الرائدة في هذا المجال.

ثانيا: حماية الهوية الإسلامية في الساحل: ينبغي تعزيز التعليم الإسلامي العربي، وللعلم فإن أعدادا كبيرة من اللاجئين القادمين على موريتانيا لم يتلقوا أي تعليم.

ثالثا: إحياء الأنماط المشتركة في المنطقة مثل اللغات العابرة للدول مثل الحسانية والبمبارية.. والموسيقى.

رابعا: حماية المصادر المادية للثقافة والقيم في منطقة الساحل: مثل المكتبات والمخطوطات.

خامسا: حماية المصادر البشرية للثقافة: فحماية علماء ومشايخ الساحل أصبح أمرا ملحا بسبب الاستهداف الذي يتعرضون له، فهذا المفكر السنغالي "أحمدو مختار امبو" يقول: "عندما يموت شيخ في الساحل تحترق مكتبة".

سادسا: خلق حركية ثقافية في المنطقة من خلال نشر ثقافي وتحقيق الكتب والمخطوطات.

وكخلاصة فإن الحكامة الدينية والثقافية في الساحل هي ركن في أي حل استراتيجي لمشاكل المنطقة. 

فالحكامة الدينية والثقافية في الساحل تتطلب جهودًا متكاملة تشمل جميع جوانب المجتمع. وأن تكون هذه الجهود جزءًا من استراتيجية شاملة لتحقيق الاستقرار والتنمية في المنطقة يتم التعاون فيها بين الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات الدينية والثقافية والمجتمع الدولي؛ فذلك هو مفتاح النجاح في هذا المسعى. فالتعايش بين الأديان والثقافات على الرغم من التحديات يظل عنصرًا أساسيًا في بناء مجتمعات مستقرة ومزدهرة في هذه المنطقة الهامة.