قصيدة المديح النبوي عند محمد المامي والطاهر الافراني

خميس, 2015/08/06 - 13:32
بقلم : د. بوزيد الغلى

استمطارا للرحمات و تنسما لنفحات الشهر الفضيل ، آثرت أن أسلك طريقا ماهدا لابراز ما تتفق وتجتمع عليه العرب والعجم في كل العصور ، وما لا يبُز فيه أحدهما الآخر إلا بما تجود به قريحته من أبكار الأفكار و أقحاح الصور التي لم يسبق اليه خيال شاعر موهوب . ذاك الطريق السالك  هو مدح الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام .

و المديح النبوي فن قديم [1] بلغ ذروته في العصر المملوكي بتأثير عوامل خارجية سياسية وعسكرية أحاطت بالعالم الاسلامي ، وعوامل داخلية اجتماعية واقتصادية ودينية متعددة أثرت في المجتمع الاسلامي[2] .

ومهما تعددت دواعي النظم في باب المديح النبوي ، فان البناء الداخلي للقصيدة ظل موحدا بحسب ما توصل اليه النقاد ، و بالنظر الى ما سنثبته من خلال المقارنة بين قصيدة المديح عند علمين من أعلام وأعيان علماء سوس و جارتها الصحراء ، هما : الشيخ محمد المامي[3] (1206ه/ 1282-/ 1791- 1865) والشيخ الطاهر الافراني (1284ه- 1374ه) .

لقد أوجز ابن قتيبة في مقدمة الشعر والشعراء أهم أركان و أجزاء قصيدة المديح التي تحفظ تماسكها قائلا : " وسمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيدة إنما ابتدأ بذكر الديار والدمن والآثار ، فبكى وشكا وخاطب الربع ، واستوقف الرفيق ، ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها ... ثم وصل ذلك بالنسيب ، فشكا شدة الوجد وألم الفراق وفرط الصبابة والتشوق ، ليميل نحوه ، و يصرف اليه الوجوه ، وليستدعى به إصغاء الأسماع اليه ، والاستماع له ، لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب ...فإذا عَلم انه قد استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له  ، عقب بإيجاب الحقوق ، فرحل في شعره ، وشكا النصَب والسهر ، وسُرى الليل وحرّ الهجير و انضاء الراحلة والبعير ، فإذا علم أنه قد اوجد على صاحبه حق الرجاء ... بدأ في المديح ... ولم يطل فيمل السامعين ، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد"[4]  .

و يتلخص من هذا النص ان سدى نسيج قصائد المدح عناصر أساسية تبدأ بالمقاطع الغزلية و الطللية الاستهلالية وتنتهي بحسن التخلص الى المديح النبوي ، فما مدى وفاء الشاعرين محمد المامي و الطاهر الافراني لمقومات هذه البنية ، وما مظاهر التجديد في تجربتهما الشعرية  المديحية ؟.

أ- المطالع الغزلية والطللية :

سار الشاعران في القصائد موضوع هذه الدراسة  المقارنة على خطى المتقدمين في التعفف في الغزل ، والنأي عن الفحش وطرح " ذكر التغزل في ثقل الردف ورقة الخصر وبياض الساق وحمرة الخد ...وما أشبه ذلك"[5]، فهذا الطاهر الافراني يقول :

" سرى طيف سلمى فسل ما أثارا /// أثار دموعا وأورى أوارا

سرى بخيط الليل حتى أغا/// ر على سرح نومي الأغرارا

وذاك الامام محمد المامي يقول :

جرى الحب في الأعضاء حيث جرى الدم /// فيا زحليّ اللون والدمع عندمُ

كلفتَ بما لا تستطيع دنوّهُ /// ولو كنت جالَيْنوسَ ما كدت تسلم ُ

تسلّ بقناط المحبين لم تكن /// بأول محروم سباه متيِّم

وأولِ من رام السلاطين ظلمَه /// أتحسب سلطان الهوى ليس يظلم

لقد اختار الافراني اسم سلمى "محبوبة رمزية يشير اليها ...ويصف وجده وغرامه بها[6] "، بينما آثر المامي التساؤل في بعض قصائده قائلا :

" أأسماء أم خرقاء أم هي عتمة /// أم ايلةُ أم عفراء أم هي تندَم

فبح بالذي تهوى عسى إن تبح به /// وتشك إليه البعدَ يدْنُ فيرحمُ

ب – ذكر الديار والبكاء على الأطلال:

اللافت في ذكر الديار في قصائد المدح عند الشاعرين اقتباسها منهجَ الأقدمين وبعضَ عباراتهم في البكاء على الأطلال ، فقد أنشد الطاهر :

عرج على الحي بين الضال والسمر /// في فسحة الليل بين الوهن والسحر

واخلس نظرة بين الخيام ولو /// كنغبة الطير بين الأمن والحذر

بينما شذا محمد المامي قائلا :

يا منزلا بين البضيع فحومل /// حيتك أرعد كل جون مسبل

لكن البكاء على الأطلال لا يأتي لذاته ، وإنما يؤتى به كي يستقيم ذكر البقاع والأماكن المقدسة في حسن تخلص لا تعسف فيه ولا تكلف من قبيل قول الافراني متوسلا بالرسول عليه السلام :

وحاشاك أن يشقى ضعيف مؤمل /// نَداك رفيع الصوت بالدعوات

و تنجدَه بالعون كي يمتطي الى ال /// حجاز مطي العزم قبل وفاة

ويقضي لبانات المنى من ( منى) وفي /// افاضته يفضي الى الرحمات

يشم ترابا يفضح المسك عرفه /// ويكرع من ماء هناك فرات

سلام على مثواك يا خير مرسل /// يدوم مدى الأيام والسنوات

ويمضي الشيخ محمد المامي مصرحا بالتخلص من التغزل وذكر الطلل الى التعلق بأكناف البيت العتيق والربوع المقدسة حيث يقول :

أيها الباكي رسوما بليت /// أ لجد ظلتَ تبكي أم هزَل

آن تخليصي اليها إنما /// يحسن التخليص من بعد الغزل

والى طيبة دار المصطفى /// فاسرد العزم بأرحال الأمل

إن في العزم اذا لم يكن /// من ركاب َلرسيما ورمل

خير من حاز المقامات العلى /// اكرمُ الخلق جميعا و أجلْ

 

ج- مدح الرسول عليه الصلاة والسلام :

ثمة صور عديدة لحسن التخلص من المطلع الغزلي الى المديح ، يقصر المقام عن تفصيل القول فيها معززة بالشواهد ، و ما يلزم ذكره أن مدح الرسول يأتي في صور ومعان متعددة ، بدءا من ذكر اسمه أو أسمائه الشريفة كقول الافراني :

واحطط رحال القصد منك ببابه /// فجناب خير الخلق احمدَ أرحبُ

مرورا بالتغني بصفاته الخلقية والخلقية كقول محمد المامي :

ليتني أبصرته كيما أرى /// قرة العين بخلق معتدل

أزهر اللون أزجٍّ أدعج /// أنجل أشكل أحلى من عسل

يخجل البدرَ سنا طلعته /// ومن البدر سواه قد خجِل

ويحف الصحبُ جنبيه كما ///  مال غصن ٌ بين غصنين خضِلْ

وكذا ذكر شمائل آل بيته على النحو الذي افاض فيه الافراني حيث قال :

واعطف عليه بجاه أهل طهروا /// بنصوص ما بين الدفاتر يكتب

بخديجة خير النساء ومن لها /// في الصدق والتصديق ما لا يحسب

وببضعة الصديق عائشة التي /// بالحب منك لها الطراز المذهب

وبوردتيك سليلي الزهراء اط/// يب من به روض الثناء يطيب

صلى الله عليك خير صلاته /// و عليهم مادام جودك يسكب

وانتهاء بالتوسل الى النبي عليه السلام و التعبير عن القصور في الالمام بشمائله في المديح ، والاعتذار اليه عن كلفة العجمة كما فعل الافراني حين قال :

واني يا خير الورى متوسل /// اليك بمدح طيب النفحات

تكلفته من عجمة أنتمي بها /// لخدمة ذات الفضل منك بذاتي

أو الإقرار بعدم الاقتدار على الغوص في بحر كمالاته عليه السلام كما فعل محمد المامي حيث قال :

ذرر قلده الله بها /// من ثناء وكمال وفَضِلْ

كيف للناظم أن يجمعها /// وقد أعيت كل باب وفصِلْ

 

مياسم التجديد في قصيدة المديح عند الامامين :

 

تصعب الإحاطة بمكامن التجديد في قصيدة المديح عند الامامين الجليلين ، إذ يحتاج ذلك الى دراسة معمقة تسبر غور كل مدحة أثرت أو نقلت عنهما ، لكن إجالة النظر في القصائد المبثوثة في المعسول و ديوان الشيخ محمد المامي الذي نشرته زاويته بموريتانيا ، تقدح في الذهن الملاحظات الآتية :

ان كان  الافراني يشكو  من تأثير العجمة الآتية من تربة نشأته الامازيغية على إنتاجه الغزير في المديح النبوي مثل قوله :

 ألا يا رسول الله مدحك أعجز الأ///عاجم بل والعرب واللسن واللكنا

فماذا عسى يأتي به متطفل /// بليد غليظ الطبع مثلي إن اثنى

فان هذا الاعتذار لا يستقيم إلا إذا فهم في معرض تواضع السنابل الملآى ، فالرجل رحمه الله من فحول شعراء العربية الذين عارضوا او وازنوا أشعار امير الشعراء امرئ القيس ، حيث قال :

قفا نجر سفح الدمع في سفح الجبل /// نأت عنه بيض خلّفته بمعزل

وإن طال ليل الهم عندي فقل له /// ألا "ايها الليل ألا انجلِ"

أما الشيخ محمد المامي فقد اجترح في قصيد المدح ما قصر عنه سابقوه الذين اقتصروا على النظم في البحور الطويلة ذات النفس الذي يليق بالإسهاب في ذكر الشمائل المحمدية كالطويل والبسيط والكامل ، إذ نظم في الخفيف   قصائد جميلة نقتطف منها قوله :

كَيْفَ يَسْطِيعُ مَدْحَكَ الْبُلَغَاءُ /// وَمِنَ اللهِ قَدْ أَتَاكَ ثَنَاءُ 

قَاصِرٌ عَنْهُ مَا يُدَبِّرُ سَحْبَا /// نُ وَقُسٌّ وَهَذَّبَ الشُّعَرَاءُ 

وَنِظَامُ الْمُعَلَّقَاتِ اللَّوَاتِي ///  قَسَّمَتْهَا الْأَسْتَارُ وَالْجَيْدَاءُ 
حَسَّنَتْهُ ضَوَاحِكٌ مِنْ بَدِيعٍ /// سُقِيَتْ مِنْ رُضَابِهَا الْجَوْزَاءُ 

 

كما نظم في الرمل قصائد عذبة نستل منها هذين البيتين الذين يحلو بهما الترنم   :

إن في العزم اذا لم يكن /// من ركاب َلرسيما ورمل

خير من حاز المقامات العلى /// اكرمِ الخلق جميعا و أجلْ

ولعل قدرته على نظم جمان المديح النبوي في الرمل  آت من كونه شاعرا خرّيتا خبيرا   بالشعر الحساني ذي الميسم الغنائي القريب من الموشحات ، فقد  عرفت عنه جودة ما بقي من ميراثه  الشعري الحساني  الجزْل الذي  سنختار منه هذا التوسل الذي أدرج فيه كلمة من العامية سيرا على نهج  رائد شعر " الزريكة" محمد ولد أحمد يورة رحمهما الله:

  يَُمولاَنَ كَانْ طْلَبْنَاكْ /// افْصْلنَ فْ كَثْرْتْ مَعْطَاكْ

 وَحْمَدْنَاكْ قَْبََلْ وْشْكَرْنَاكْ /// اعْلَ ذَا لْحَاصْلْ فْ "اللّْبْنَه"[7].

هوامش وإحالات :

 

[1] راجع : د, محمود سالم ، المدائح النبوية حتى نهاية العصر المملوكي ، دمشق ، دار الفكر ، ط 1996، ص 19.

[2] انظر :د, أسامة محمد البحيري ،  قصيدة المديح النبوي – دراسة تطبيقية في ديوان شمس الدين النواجي ، منشورات نادي تراث الامارات ، الطبعة الأولى 2013 ص 56

[3] أنظر ترجمته في معجم البابطين في القرنين التاسع عشر والعشرين ،  وفيها : " محمد المامي بن محمد البخاري بن حبيب الله بن المختار، الملقب (بارك الله فيه  .ولد في شمالي موريتانيا، وتوفي في جبل «أيك» - تيرس. له ديوان شعر، أشرف على جمعه وتصحيحه وضبطه ثلاثة من الباحثين: محمد بن أحمد مسكَ، ويابَ بن مَحْمَادِ، وأحمدَ بزيد بن عبدالله بن المامِ، (الديوان مصور عن نسخة خطية جميلة بخط بارِكَلَّ بن العتيق - وقد نشر مع شعره بعض قصائده العلمية، ومنظوماته، ومنها: «الميزابية» و«الدلفينية» وغيرها.. الناشر: زاوية علم الشيخ محمد المامي - تيارت - نواكشوط 1986.

[4]  ابن قتيبة الشعر والشعراء تحقيق احمد شاكر القاهرة دار الحديث 1999، 1/ 74-76.

[5] ابن حجة الحموي، خزانة الأدب ، تحقيق عصام شعيتو ، بيروت ، مكتبة الهلال ،ص 25,

[6] أسامة محمد البحيري ، قصيدة المديح النبوي ، ص 59.

[7] المقصود ب " اللبنَه" في الحسانية الجيْب ، ومنه المثل الحساني القائل : " أيدْ التّاجِر ما تْشْق لَبْنُتُ ( جيبه)