
يعـود الاستخدام الأول لمصطلح الحكم الرشيد إلى القرن الخامس عشر حيث كان يستخدم في اللغة الفرنسية للاستدلال على فعل الإدارة أو الحكم، وبدأ شيئا فشيا يدخل المنظومة العالمية، إلى أن استخدم المصطلح 1992م وبصورة رسمية وواضحة، في تقرير البنك العالمي السنوي تحت عنـوان “
”Development and
Good Governance
وذالك لتوظيف إدارات المجتمع المختلفة نحو التقدم والتنمية والتطوير.
أما في اللغة العربية فقد تم الاستدلال على معنى الحكم الرشيد على مجموعة الأفعال التي تنطوي على نفس معنى الحكم الرشيد ومنها الحكم الصالح، والحكم الراشد، والحكم الرشيد،.....إلخ أما معنى الحكم الرشيد في الإصطلاح فلا يوجد تعريف موحد له، فالحوكمة هي نظام يتم بموجبه إخضاع نشاط المؤسسات إلى مجموعة من القوانين والنظم والقرارات التي تهدف إلى تحقيق الجودة والتميز في الأداء عن طريق اختيار الأساليب المناسبة والفعالة لتحقيق خطط وأهداف المؤسسة وضبط العلاقات بين الأطراف الأساسية التي تؤثر في الأداء، عرفته الأوساط العلمية على أنه الحكم الرشيد الذي يتم تطبيقه عبر حزمة من القوانين والقواعد التي تؤدي إلى الشفافية، وهناك عدة تعريفات للحكم الرشيد في القطاع العام صاغتها مؤسسات دولية مختصة منها:
1.برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: الذي عرف الحكم الرشيد بأنه ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية والإدارية لإدارة شؤون الدولة على جميع المستويات، ويشمل الآليات والعمليات والمؤسسات والتي من خلالها يعبر المواطنون والمجموعات عن مصالحهم ويمارسون حقوقهم القانونية ويوفون بالتزاماتهم ويقبلون الوساطة لحل خلافاتهم.
2.البنـك الدولي: فقد عرف الحكم الرشيد بأنه الحكم المعتمد على تقاليد ومؤسسات يتم من خلالها ممارسة السلطة في الدولة بهدف خدمة الصالح العام، ويشمل هذا التعريف: عملية اختيار القائمين على السلطة ورصدهم واستبدالهم، قدرة الحكومة على إدارة الموارد وتنفيذ السياسات السليمة بفاعلية، واحترام كل من المواطنين والدولة للمؤسسات التي تحكم التفاعلات الاقتصادية والاجتماعية وفي عام 2002 تناولت لجنة التنمية الإنسانية العربية في تقريرها السنوي تعريف الحكم الرشيد على أنه “الحكم الذي يعزز ويدعم ويصون رفاهية الإنسان ويقوم على توسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ويسعى إلى تمثيل كلّ فئات الشعب تمثيلا كاملا ويكون مسؤولاً أمامه لضمان مصالح الجميع في القضاء على الفقر وتعزيز التنمية”، ومما تقدم يمكن التيقن من عدم الوصول إلى تعريف شامل وموحد لمصطلح الحكم الرشيد، وقد تكون هذه الخاصية “ميزة” أكثر من كونها نقطة ضعف؛ حيث يمكن التنبؤ بمرونة هذا المصطلح وبحبوحته في استيعاب ما يحدث من تغيرات وتطورات في العصر الحديث. وعليه فإنه من الممكن وضع تعريف عام للحكم الرشيد اعتماداً على المعطيات والاجتهادات السابقة فهو “أسلوب لممارسة السلطة، مبني على العدالة والأمانة والشفافية، يهدف إلى تسيير موارد الدولة المختلفة لتحقيق التنمية على كافة الأصعدة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والإدارية”. من هنا يكتسي الحكم الرشيد أهمية بالغة فهو يسعى من خلال تطبيق مبادئه إلى خلق دولة إدارية تكون سياساتها مبنية على الشفافية، والمحاسبة، والمشاركة ، ونتيجة لهذه الأهمية فقد أعطى رئيس الجمهوية محمد ولد الشيخ الغزواني تعليماته لتحسين الإدارة وتفعيل الحكم الرشيد في الدولة، وهو ما تضمنته برنامج السياسة العامة للحكومة الذي ألقاه السيد المختار ولد اجاي أمام البرلمان الموريتاني، والمتمثل في بند بناء دولة القانون والمؤسسات ذات حكامة عصرية رشيدة، فالحكم الرشيد يحقق من خلال الشفافية وسلاسة الرقابة، وترسيخ الثقة بين أفراد المؤسسة؛ حيث إن بيئة العمل الواضحة تستدعي الشعور بالطمأنينة والراحة، ومن خلال تطبيق مبدأ المحاسبة أو المساءلة يقوم الحكم الرشيد بتقليص الأفعال الخاطئة والسياسات المنحرفة، حيث إن ما ستقوم به اليوم ستحاسب عليه غداً، وبالتالي يعمق مفهوم المسؤولية، لدى الأفراد، التي تعني التزامهم بإنجاز واجباتهم بـكل صدق وأمانة وإخلاص، وبذلك تعود هذه النتيجة المتوقعة من استخدام هذا الأسلوب على الدولة أو المؤسسة بالمنفعة الإيجابية.
. أما مفهوم المشاركة فيسعى إلى إشـــراك مختلف الأفراد في عمليات وضع الخطط، واتخاذ القرارات، وحل المشكلات، فينتج عن هذا الفعل التزام أكبر من قِبل الأفراد لتنفيذ ما اتّفِق عليه من قرارات؛ حيث إنهم شاركوا في اتخاذها إضافة إلى تحقيق الرضا الوظيفي، وتقليص مستويات الغياب، وترك العمل، كما أن إشراك العاملين سيوفر مجموعة أكبر من الخيارات المتاحة الناتجة عن تعدد وجهات النظر، وبالتالي يؤمن شمولية البحث وبناء خطط بديلة. أما مبدأ العدالة والمساواة فهو مرتبط كل الارتباط بتحقيق الصلاح في المجتمع، حيث إنه يضمن شعور الأفراد جميعهم بالعدل، وأنهم جزء لا يتجزأ مـــن باقي الأفراد، وأن لهم كل الحق بالحصول على الفرص الكاملة كما الآخرين، كما أن تحقيق المساواة بين أفراد المجتمع الواحد يضمن سيادة القانون حيث إن المرجعية دائما للقانون، ولا مكان للقوانين الفردية، ولهذا الأمر أثر كبير في تقليص مستويات العنف وضمان التوافق والتواؤم بين الأفراد جميعا. وعند فرض نظام قانوني يتميز بالنزاهة والعدالة والحيادية، يمكن تنظيم العلاقة بين الجهات المختلفة والمشتركة في عملية الإدارة ، وتحقيق الاستقرار السياسي، وبالتالي الالتفات لتنمية وتطوير اقتصاد الدولة و المؤسسات.
وفي تحقيق مبدأ الكفاءة والفعالية تتحصل المنفعة من خلال تحقيق الأهداف المرسومة أو المخرجات المرجوة للمؤسسة باستخدام أقل الموارد أو التكاليف، وبالتالي يمكن ضمان ترشيد الاستهلاك، وتقليل الهدر والتوظيف الأمثل للموارد، أما الرؤية الاستراتيجية في الحكم الرشيد فتكمن أهميتها في كونها أداة لتنظيم الوقت، وترتيب الخطط الحالية في ظل التوقعات المستقبلية. كما أنها تقوم بتوحيد جهود القادة نحو هدف محدد، وتمنحهم خطة طريـق ثابتة للمسير. كما أنه ومن خلال وضع الخطط الاستراتيجية، يمكن للمؤسسة التفكير- وبشكل أوضح - في المستقبل، ويمكنها من اكتشاف واختيار الأفضل، و ترقية الأفكار إلى درجة الأفعال والخطط التنفيذية. إن للحكم الرشيد ارتباطا خاصا بالعملية التنموية، وقد ارتبط مفهـــوم الحكم الرشيد بمصطلح التنمية المستدامة لأهمية الدور الذي يلعبه في تحقيقها. والمتفق عليه حتى الآن، ومع أن الالتزام بتطبيق معايير الحكم الرشيد لن يضمن تحقيق التنمية بشكل مطلق، إلا أن عدم تطبيق هذه المبادئ سيعيق عملية التنمية بلا شك؛ فالتنمية المستدامة بحاجة إلى مؤسسات، تعتمد سيادة القانـــون والاستخدام الأمثل للموارد البشرية والاقتصادية والبيئية، ولتحقيق تعليمات صاحب الفخامة لتحسين الإدارة وتفعيل الحكم الرشيد في الدولة، وهو ما تضمنته برنامج السياسة العامة للحكومة فينبغي تطبيق مبدأ شفافية أكثر تجاه المستفيدين من السياسات الاجتماعية، وأن تساهم في تعزيز رفاه الإنسان وتوسيع قدرات البشر وخياراتهم وفرصهم وحرياتهم الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتضمن تمييع المسافات وتقصيرها في ميادين العمل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وهـــو شرط لعملية النمو المستدام ومحاربة الفقر، لأن الحوكمة غير السليمة تمثل عاملا أساسياً في إعاقة الجهود الرامية إلى تحقيق أهداف التنمية الوطنية وتعمـق الحرمان والتمايـز بين فئات المجتمع ومن ثم تولد عدم الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، وتؤمـــن النقاش العام حول أثر السياسات الحكومية مما يساعد على التقليل من آثار السياسات المنحرفة والخاطئة، عبر مساءلة العامة للسياسيين والموظفين.
ومن هنا لتفعيل الحكم الرشيد في الدولة فيجب اتباع بعض معايير الحكم الرشيد ومن ضمنها تطوير الحكم الإداري، ورفع مستوى التنميـة، ويهدف ذلك بالدرجة الأولى إلى استبدال الحكم السيئ أو الإدارة السيئة: المتمثلة بتطبيق القانون الشخصي وغياب العدالة القانونية، وعدم الشفافية، وتردي النزاهة واستغلال المال العام للمصلحة الشخصية، وتقديم الفوائد الخاصة على الفائدة العامة، ويلاحظ أن الدولة تقوم بإعطاء أهمية شاملة لبعض المعايير، في حين تولي البعض الآخر أهمية جزئية بحسب أهدافها التنموية وغاياتها من تطبيق الحكم الرشيد ولنحقق الحكم الرشيد يجب أن نستأنس بتقرير الأمم المتحدة لعام 1997 الذي يحمل عنوان” الفساد والحكم الصالح والذي تضمن معايير هامة ونذكر منها :
1.حكم القانون: ويقصد به سيادة القانون، واعتباره المرجع الأول والوحيد، وتطبيقه على الجميع دون استثناء، وإلغاء مراكز القوى والقوانين الشخصية، واستبدالها بنظم عادلة حامية لجميع الأفراد بصورة تتماشى مع حقوق الإنسان الدولية.
2.المساواة : وتعني تكافـــؤ الفرص، والابتعاد عن أوجه التمييز كافة، كما تعني إعطاء الأفراد فرص متساوية وتحقيق العدل الاجتماعي لهم.
3.الشفافية : وذلك بتدفق المعلومات بصورة حرة، وتسهيل الاطلاع عليها من قبل الجهات المعنية، ووجوب توفيرها بصورة كافية وشاملة للمهتمين بها، وأن لا يتم حبس أي معلومـــة متعلقة بالمؤسسة أو معاملاتها أو حساباتها عن المسـتفيدين والجهات ذات العلاقة.
4.الفعالية والكفاءة : فالفعالية تعني الوصول للأهداف المرجوة، وتعني “فعل الشيء الصحيح،” أما الكفاءة فتعني الاستخدام الرشيد للموارد المتاحة، ومحاولة تقليل هدرها، وتقوم على “فعـل الشيء بطريقة صحيحة”؛ بهدف تقليل تكلفة الإنتـــاج. وفي تطبيق الحكم الرشيد يكون هدف المؤسسات الخروج بنتائج مشبعة لحاجات الأفراد مع الالتزام بأفضل استخدام للموارد البشـرية والمالية.
5.المساءلة: وتعني أن يخضع متخذوا القرار، وذوو السلطة للمحاسبة والمساءلة حالهم حال الموظفين؛ فهم مسؤولون أمام المواطنين عن تحقيق
المهام الموكلة إليهم، وعن نتائج قراراتهم. وفي الحكم الرشيد تكون المساءلة محددة المعاير؛ بأن يكلّف المسؤول بمهام واضحة، تتم مراجعته فيها بشكل دوري، ويحاسب عليها في حال التقصير.
6.المسؤولية: وتعني استشعار المسؤولية والالتزام للقيام بمهام العمل والتعهد بإنجازها على أكمل وجه.
7.المشاركة: ويقصد بها تعزيز المشاركة الفعالة للمواطنين في اتخاذ القرارات، والتعبير عن الرأي، وذلك من خلال ضمان حق التعبير، وحرية الـــرأي، والحق بالتصويـت، وغيرها مــن الحريات العامة المدرجة في حقوق الإنسان.
8.الرؤية الاستراتيجية: وتعني تحديد الرؤيـة التنموية بعيدة المدى للدولة وللمجتمع وللمؤسسات المختلفة، مـــع تحديد البدائل المختلفـــة واختيار الأفضل بناء على البيئـــة الداخلية والخارجية المحيطة.
ويبقى السؤال مطروحا عن مدى نسبة تقدم الحكم الرشيد على حساب الفساد الإداري والمالي فكلما ارتفعت نسبة أحدهما قلت نسبة الأخر.
وعموما يمكن القول أن الدولة قطعت أشواط مهمة في تقنين تجريم الفساد ووضعت
مجموعة من الأليات الهامة للتصدي لهذه الظاهرة على الرغم من نقص فاعليتة هذه الإجراءات، والتي نرجو أن تحقق أهدافها من أجل خلق تنمية متسارعة ومستديمة لوطننا الغالي.
مفتش الشغل : د۔محمد محمد المهدي عبد الجبار