
كشفت نازلة "احسي ول اعلي بابي" الواقعة مؤخرا عن الحاجة لتنظيم العلاقة في بلادنا بين الحاكم والمحكوم، وكشفت كذلك عن الحاجة لترشيد العواطف الدينية وتوجيهها لما يرضي الله تعلى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويحفظ صورة الإسلام المشرقة الناصعة.
إن الإنسان من حيث هو إنسان محترم مكرم شرعا، كما قال تعلى: (ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) وقد نهى الشارع عن التمثيل بالإنسان، ونص الفقهاء على وجوب دفن الكافر الحربي الذي يقتله المسلمون ان لم يجد من يدفنه من أهل ملته؛ لأن ترك الدفن من قبيل المثلة، والإخلال بكرامة الإنسان واقتداء بهدي نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم؛ حيث أمر - بأبي وأمي هو صلى الله عليه وسلم- بدفن أربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش يوم بدر فقذفوا في طِوى (بير مطوي بالحجارة) من أطواء بدر" والحديث في صحيح البخاري.
وعملا بقوله تعلى: (فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه) الآية. وروى ابن أبي شيبة في مصنفه عن الشعبي أن أم الحارث بن أبي ربيعة ماتت وهي نصرانية فشيعها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. إلى غير ذلك من الأدلة الواضحة الدالة على أن الإسلام د دين رحمة ولطف وعدل.
ولا خلاف بين الفقهاء في أنه لا يجوز دفن الكافر في مقابر المسلمين، وقد جرى العمل بذلك منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم في مختلف بلاد الإسلام كما قال الحافظ ابن حزم وغيره فكان ذلك إجماعا عمليا وقوليا من أقوى الإجماعات. وقد استدلّ ابن حزم في المحلى لذلك بما رواه أبو داود وابن ماجه والنسائي عن بشير بن الخصاصية رضي الله عنه، قال: كنتُ أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فمرَّ على قبور المشركين، فقال: «لقد سبق هؤلاء خيرًا كثيرًا»، ثم مرَّ على قبور المسلمين، فقال: «لقد أدرك هؤلاء خيرًا كثيرًا». ويستدل له بصنيع النبي صلى الله عليه وسلم في قتلى بدر، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث الزيارة: "السلام عليكم ديار قوم مؤمنين وإنا ان شاء الله بكم لاحقون" ففيه التصريح باختصاص تلك المقابر بالمؤمنين.
وصرح المالكية وغيرهم بوجوب إخراج المسلم من قبره إذا دفن مع الكفار، وتحويله إلى مقابر المسلمين، ما لم يخش تغيره كما قال خليل في مختصره: (وتدورك إن خولف بالحضرة كتنكيس رجليه وكترك الغسل ودفن من أسلم بمقبرة الكفار إن لم يخف التغير). وكذا يقال في دفن الكافر في مقابر المسلمين.
مما سبق يتضح أن دفن المرتد في مقبرة المسلمين خطأ شنيع، ومنكر عظيم، كان على السلطات أن تقوم بمنعه أولا، حتى لا تكون فتنة في الأرض وفساد كبير.
وكان على السكان أن يرفعوا الأمر بعد وقوعه إلى الإدارة للنظر فيه والتأكد من توفر شروط النقل. ونحن نحيي تلك العواطف الإسلامية الجياشة، وما تنم عنه من إخلاص وحب للخير، وبراءة من أهل الكفر والارتداد والزندقة. ولكن لا يمنعنا ذلك من انتقاد تلك التصرفات التي لم تراع الشروط، وشكلت افتياتا على الدولة في أمر من الأمور العامة أًو الجمهورية حسب اصطلاح الفقهاء، التي ينبغي أن يتولاها الحاكم ويقدر ظروفها خاصة في عصر القرية الكونية ووسائل التواصل؛ حيث أصبح مثل هذه الأمور من قبيل أمور الأمن والخوف التي يختص الحاكم المسلم بالنظر فيها، ويجب ردها إليه.
وإن كان تفشي الفساد الإداري وتخلي المسؤولين عن مهامهم قد سبب لكثيرين إحباطا ويأسا يجعل إقدامهم على مثل هذه الأمور مفهوما . وهذه مناسبة للتذكير بضرورة تنظيم أمور الدفن، وسن قوانين صارمة تنظم هذا المجال طبقا للشريعة الإسلامية، وما توجبه من حفظ حقوق الإنسان، وتكريمه. ونحن نعلم أنه في أيام المستعمر كانت هناك مقابر خاصة بالكفار من فرنسيين وغيرهم في كيريات المدن. وفق الله الجميع لما فيه خير الدنيا والآخرة وفرج كروب أهل غزة، وجنب بلادنا جميع الفتن ما ظهر منها وما بطن.