
في زمنٍ تتسارع فيه الحياة وتتباعد الأرواح، تبقى بعض الأسر المباركة قبسًا من نور لا يخبو، تحفظ الوصل، وتبث السكينة، وتسعى لما فيه خير الأرض والعباد. ومن هذه الأسر العريقة، تبرز أسرة أهل الشيخ القاضي، بتاريخها العلمي والروحي الضارب في أعماق الزمن، الممتد عبر القرون، وبما تقوم به سنويًا من رحلة مباركة، أصبحت تقليدًا روحيًا وتربويًا واجتماعيًا يُضرب به المثل.
أمنية تحققت، وذِكرٌ لا يموت
لم تكن أسرة أهل الشيخ القاضي مجرد حاملة لرسالة روحية، بل هي سلسلة علمية راسخة في الفقه المالكي والسلوك الرباني. ينتمي مؤسسها، الشيخ القاضي – رحمه الله – إلى سلسلة علمية متصلة تبدأ اشفغ أحمد بابو وتنتهي بخليل ابن إسحاق المالكي مرورًا بكبار علماء المالكية، كـالفاضلل بن الفالل شيخ الشيوخ الحسني وكذا علي الأجهوري.
وُلد الشيخ القاضي في القرن الثامن عشر، وتوفي سنة 1242هـ / 1826م، بعد أن تتلمذ على يد الشيخ سيدي المختار الكنتي، الذي كانت بينه وبين الشيخ القاضي علاقة يجلها التقدير منذ اللقاء الأول. قضى الشيخ ستة أشهر يخدم بحضرة شيخه ويزكي نفسه، وكان عند حسن ظنه، فلما أراد العودة إلى بلاده، سأله أن يدعو له ألا يكون كـ"الأتان التي تحمل و يحمل أولادها"، فدعاه شيخه للبقاء ستة أشهر أخرى. وكان للشيخ القاضي ما أراد، إذ أصبح أبنائه وأحفاده من أعلام التربية والسلوك
لقد كانت أمنية الشيخ القاضي – رحمه الله – أن يرى أبناءه وأحفاده أهل علم وسلوك، يجمعون بين الفقه والتقوى، وبين التربية والدعوة، وألا يكونوا ممن يحملون العلم ولا يعملون به. فدعا الله بصدق وإخلاص، فرُفع الدعاء وقُبل الرجاء، فحقق الله له أمنيته، وأكرمه بنسل مبارك، سار على نهجه، وجمع بين كريم الخصال، من علم غزير، وتربية نافعة، وسلوك مهذب، حتى غدوا مشاعل هدى في الناس، يسيرون بثبات في دروب الإصلاح، ويقيمون منارات الخير في كل موضع حلّوا به.
رحلة تمتد في الجغرافيا وتتجذر في النفوس
بدأت هذه الرحلة المباركة منذ عقود، حين دأب شيوخ أهل الشيخ القاضي على السير بين القرى والبوادي، حاملين الكلمة الطيبة، ناشرين السلام، مصلحين بين الناس. لم تكن هذه الرحلة مناسبة عابرة، بل مشروعًا سنويًا تُعمر فيه المجالس بالذكر وتلاوة القرآن، ويقام فيه التهجد والقيام، وتبذل فيه الوساطات وتُصلح ذات البين.
وخلال السنوات الماضية سار على نفس النهج الشيخ محمد محفوظ الذي اختتم هذا الايام رحلة انطلقت من قرية "البلد الطيب" في 18 أبريل، وجابت القرى والبلدات، من ضفة النهر إلى عمق الأرياف. فاستُقبل في "العزلات" وغيرها استقبال الفاتحين، حيث أقام الذكر والصلوات، وشارك الناس أفراحهم وأتراحهم، وألّف بينهم بكلمة التوحيد، داعيًا لتوحيد الكلمة.
لا مجال للفضول ولا للجدال
اتسمت هذه الرحلات بروحانية عالية وأخلاق سامية؛ فلا مجال فيها للفضول، ولا مكان للجدال، بل تسودها الطمأنينة، ويعلوها الذكر، ويضيء أفقها قيام الليل وسجود المتعبدين، من شباب وشيب. إنها أيام مباركة، تُنتظر كما يُنتظر العيد، ويُتناقل الحديث عنها كما تُروى الكرامات.
أعلام أسرة أهل الشيخ القاضي: الرسوخ في العلم والسمو في الخُلق
ليست أسرة أهل الشيخ القاضي مجرد حاملة لرسالة روحية، بل هي سلسلة علمية راسخة في الفقه المالكي والتصوف السني. ينتمي مؤسسها، الشيخ القاضي – المتوفى سنة 1242هـ / 1826م – إلى سلسلة علمية تبدأ بالشيخ اشفغ أحمد بابو وتنتهي بخليل بن إسحاق المالكي، مرورًا بكبار علماء البلاد، كالفاللي بن الفاللي وعلي الأجهوري.
وُلد الشيخ القاضي في القرن الثامن عشر، وتوفي سنة 1242هـ / 1826م، بعد أن تتلمذ على يد الشيخ سيدي المختار الكنتي، الذي كانت بينه وبين الشيخ القاضي علاقة يجلها التقدير منذ اللقاء الأول. قضى الشيخ ستة أشهر يخدم بحضرة شيخه ويزكي نفسه، وكان عند حسن ظنه، فلما أراد العودة إلى بلاده، سأله أن يدعو له ألا يكون كـ"الأتان التي تحمل و يحمل أولادها"، فدعاه شيخه للبقاء ستة أشهر أخرى. وكان للشيخ القاضي ما أراد، إذ أصبح أبنائه وأحفاده من أعلام التربية والسلوك
نذكر من بينهم:
• الشيخ المصطفى الكبير (توفي 1269هـ / 1853م)
• الشيخ محمد محفوظ بورسغ
• الشيخ المصطفى العاقل (النهاه) (توفي 1323هـ / 1905م)
• الشيخ محمد محفوظ الأطرش (1884 – 1952م)
• اما الشيخ المصطفىالثالث (1920 – 2011): فهو واسطة العقد فريد زمانه
فهو بحق رجل المكارم والأخلاق، صاحب الشيم الرفيعة والمروءة النادرة. منحه الله سعة صدر، وعمق عقل، ومحبة للناس، حتى صار موئلًا لكل أفراد المجتمع، ومرجعًا في الخصومات، ومُلهمًا في المجالس، وسراجًا في دروب التائهين.
مارس التربية في أصفى صورها، فكان مدرسة في السلوك، ومحرابًا في الأخلاق، وبوابة خير يدخل منها الناس ويخرجون وقد امتلأت قلوبهم سكينة ونفوسهم طمأنينة. لم يكن خطيب منابر، لكن أثره الصامت كان أبلغ من أي بيان. راسخٌ في علمه، نقيٌ في سلوكه، حكيمٌ في مشورته، لا يرد سائلاً، ولا يعنف مخطئًا، بل يفتح قلبه قبل بابه، ويعامل الناس بلين ورفق.
مواقف خالدة
أولاً: أزمة "العيط" 1963 – حين أطفأ نار الفتنة بحكمة واقتدار
في أكتوبر 1963، تفجّرت أزمة خطيرة بين جماعتين حول بئر ماء. ومع تصاعد التوتر وتهديد السلم الاجتماعي، تدخل الشيخ المصطفى بحكمة، وأرسل ابن عمه باب ولد الدف مع إحدي الجماعات إلى موقع البئر ليأخذوا منها الماء
ثم سأل عن مكان الإقامة والضيافة، وما إذاكانت هناك أسرة من اسر اهل اداع فدلوه على أسرة "اسلم ول اداع"، التي فتحت أبوابها، ونصبت أمامها خيام الضيافة فجاء حاكم دايرة ألاك سيدي المختار ول الفيس
وحاكم دائرة ابي تلميت الدي ول ابراهيم ول اسويد أحمداللذين حضرا لدعم الجهود المحلية وحفظ السلم والأمان
أدرك الحاكمان أن الأمر أعمق من نزاع مائي، بل يمتد إلى جذور اجتماعية وقبلية. فاقترح حاكم دائرة أبي تلميت أن تختار كل جماعة ضامنًا عنها من الشخصيات الموثوقة.
فقال الشيخ المصطفى: "أنا ضامن أولاد دأمان"، فرد شيخهم محمد بون قائلا:"أصل ادكد تضمن انت اولاد دمان
. وحين سُئل لماذا لم يضمن جماعة "إجيبجب"، أجاب بثقة: "زعماؤهم سيضمنون".
فبفضل حكمته وعمق ثقته بالله، أُخمدت الفتنة، وعاد السلم، وهدأت النفوس.
ثانيًا: الشجاعة ونصرة الإخوان – موقفه عام 1982
في سنة 1982خلال زيارة الرئيس محمد خون هيدالة لمدينة أغشوركيت، شعر أهل المدينة بالعتب على بعض قراراته، فأحسنوا ضيافته وعبروا صراحةعن امتعاضهم من تلك القرارات التعسفيةوهو مالم يعجب الرئيس .فبات وخرج مع الصباح مغاضبًا، ونزل ضيفًا عند أهل الشيخ،القاضي الذين أكرموا وفادته.
ولما سألهم إن كانت لديهم كلمة، أجابه الشيخ شجاعة: "هون اللا الراحة اكلامنا ذك ال سمعت فى أغشوركيت " فكان في موقفه هذا وفيا لأهله صادقا في مواقفه بعيدا عن المواربة والمحاباة .
سيرة لا تُمحى، ومسيرة لا تنتهي
لم يكن أولئك الرجال طلاب دنيا، بل كانوا دعاة حق، يمشون حفاة في دروب الخير، يقيمون الذكر في المساجد، ويصلحون بين الناس في مجالس الصفاء والمودة.
إن ما تقوم به أسرة أهل الشيخ القاضي ليس مجرد تقليد اجتماعي، بل هو مسيرة مباركة، تعيد التوازن إلى عالم فقد كثيرًا من معاني الصفاء. إنها دعوة لإحياء الكلمة الطيبة، وبناء الجسور بين القلوب، والتأكيد على أن في هذا الوطن من لا يزال يحمل مشعل الخير، ويرحل في سبيله.
رحم الله الشيخ القاضي، وجزاه عن الأمة خير الجزاء، فقد ترك أثرًا لا يُنسى، وسيرة لا تُمحى، ومدرسةً ما زالت تُخرّج الرجال.
محمد محمود احمد بابو
باحث فى علم الاجتماع