قد أفلح من زكاها وقد ختب من دساها/ د. عبد الرحمن الرباني

أحد, 2025/05/25 - 22:47

 

لقد أعْمت بروق المادية الفجة الخُلّب أبصارنا، بعد أن أطاحت رياح الليبرالية الهوجاء وجرف طوفان العولمة العاتي كثيرا من القيم والمثل الفاضلة التي كانت تحول بين غالبية الناس فينا وما يُشينهم ويُزري بمروءاتهم ويعصمهم من السقوط في أوحال الرذيلة ويأخذ بحُجُزهم عن الوقوع في مهاوي الضلالة والانحراف... صحيح أن قاعدة المعرفة فينا قد اتسعت ونمت وامتدت أفقيا في العقود الأخيرة، لكنها مع ذلك غدت أقل عمقا وأكثر سطحية من ذي قبل، وبدا أنها مسلوبة الجوهر، فاقدة للروح ومنزوعة البركة... وهذا هو سر ما آل إليه حالنا من استشراء للفساد وجشع مسعور على تحصيل حطام الدنيا من حله ومن غير حله... فشاع في تجارنا بيع الأغذية المضروبة والفاسدة وذاع في صيادلتنا تسويق الأدوية المزورة والمغشوشة، وانتشر في شبابنا ترويج حبوب الهلوسة والمخدرات، وتبدّل وجه طلب العلم -بما فيه العلم الشرعي- فانطفأ فيه نور الإخلاص وصدق النية، وسادت فيه نزعة الطمع، حتى غدا -في أعين بعضهم- تجارةً رابحة لا رسالةً راقية، وموردَ ربحٍ لا منبع رشد، ونزوة غرائزية لا فريضة عينية أوكفائية... وما ذلك إلا أننا شُغلنا بالقشور عن اللُّباب، وبالمُغشّى والمُموّه من المظاهر الزائفة عن المُذهّب والمُجوْْْْْهرِمن كل نفيس، وفرقنا بين تحصيل العلم والعمل به وتمَثّله منهجا وسلوكا... درّست محاظرنا القرآن فحفظ روادُها حروفه وضيعوا حدوده، كثُر القراء، وقلّ الفقهاء، والتُمست الدنيا بعمل الآخرة... نعم لقد أسمينا التعليم تربية وتهذيبا فدرّسنا في مدارسنا كل شيء إلا التربية وسلكنا في ذلك كل مسلك إلا مسالك التهذيب وبناء الأخلاق، فلم نقل لطالب الطب إن الطب رحمة قبل أن يكون حقنة ومِشرطا، وما غرسنا في وجدان المهندس أن إتقان العمل عبادة والتقصير فيه خيانة، ولم نهمس في أذن الإداري ساعة تكليفه أنه خادم للشعب لا مَخدومٌ له... وغفلنا أن نقول لشيوخنا ودعاتنا إنهم هداة لا جباة، ولرجال حفظ الأمن والنظام أنهم وحدات تأمين وفداء، لا عصابات ترويع وابتزاز... وعجزنا أن نذكِّر كل هؤلاء وأولئك بــ"طلعة" العالم الجليل محمد عبد الله ولد محمد آسكر رحمه الله:

 يلِّ ميت بيك التدبير ** من رخست عقلك كاع الخير

ما تختير اتموت وتختير ** رزقك يتلاحك لك من كطْ

أعرف عنك يعطيك الخير ** لاه تخلط ش ما يخلط

 

هو لعمر والرزق أكداد ** هاذ فاللوح اكبيل انخط  

أكد امنين اعل واحد زاد ** ينخط اعل لوخر ينخط...

 

أما ما نحتاجه الآن فهو أن يُفرض فينا برنامج تَزْكَويّ شامل، لا يتجاوز أحدًا ولا يستثني مجالا، ينطلق من البيت والمحظرة ليؤسس الوجدان ويرسِّخ الفطرة، ويمر بالمدرسة ليغرس حب الوطن والاعتزاز بالانتماء، ويرابط في المسجد ليغذي الروح ويزكي النفس، ويضرب بجرانه في كل إدارة ليصلح الأداء، ويُلقي بعصاه في كل مصلحة ووزارة ليُقيم الموازين بالقسط، ويزرع قيم الأمانة والنزاهة والعدل.

نحن فعلا في حاجة ماسّة لإعادة ضبط بوصلتنا وسط هذا التيه المُريع، بعدما جمحت بنا السفينة وانفلت منا زمامها، فاندفعت بنا في عُباب الضياع حتى قاربت أن تُلقي بنا على شاطئ مجهول، لا نرتضيه مستقرا لأبنائنا، ولا يُناسب بحال من الأحوال ما وجدنا عليه آباءنا من قيم الهُدى والنبل والصلاح. 

" اللَّهُمَّ آتِ نَفْوسِنا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلَاهَا. اللَّهُمَّ إِنِّا أَنعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا ".