
تابعت خلال الأيام الماضية بودكاست على منصة أثير ( حكايا إفريقية) استضاف فيه الإعلامي والكاتب الدكتور احمد فال الدين الباحث الأرتيري الأستاذ عبد المحسن البليني لمناقشة موضوع العبودية والعنصرية في المجتمع العربي وفي الثقافة العربية الإسلامية عموما.
أثار الباحث عبد المحسن نقاطا مهمة حول الموضوع من أبرزها:
- ربط السواد في العالم العربي بالعبودية
- تعامل المجتمع العربي مع الأسود بصفته عبدا سابقا
- غياب النقاش المعرفي حول هذه المسألة في المجتمع العربي
- نقاش المسألة يدور أساسا من قبل الشتات الإفريقي في الغرب
- أشار الكاتب إلى أن بعض النصوص الشرعية وآراء بعض الفقهاء والمفكرين ترسخ بطريقة أو أخرى فكرة العنصرية ..
ومن الآيات التي اوردها:
((وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)).
والحديث الشريف :
((اسمعوا وأطيعوا، وإن استُعمل عليكم عبدٌ حبشي، كان رأسه زبيبة).
يلاحظ من سياق كلام الباحث عبد المحسن شعوره بالمرارة من ظاهرة العنصرية أو نظرة المجتمع العربي للأسود بصورة عامة.
واغتنم هذه الفرصة لمحاولة مناقشة جوانب من هذا الموضوع الشائك المعقد الذي تحتاج مناقشته إلى النظر إليه من عدة زوايا منها الدلالات اللغوية والمنطلقات الشرعية والأبعاد التاريخية وتباين العادات الاجتماعية وتنوع ثقافات الشعوب فضلا عن الأبعاد السياسية.
وهذه الأبعاد تحتاج إلى معارف متعددة وعميقة وذلك ما لا يدعيه كاتب هذه الفقرات.
إن مناقشة مسألة العنصرية في المجتمع العربي تتطلب التاكد من ثبوتها على نحو معين أولا ثم هل هي خاصة بالمجتمع العربي ام أنها ظاهرة منتشرة في جميع بني البشر.
وتمهيدا لهذه المناقشة نورد نماذج من الاقتباسات من التراث التي ربما تتضمن حمولة عنصرية خاصة الأمثلة التي وردت في المقابلة،وقبل ذلك نقدم أحد التعريفات المتداولة للعنصرية: ( تعصب المرء أو الجماعة لجنس معين، فهي قائمة على ادِّعاء أنَّ بعض الأجناس والأعراق والسلالات البشرية أفضل من غيرها وأعلى مرتبة في إنسانيتها من غيرها بادِّعاء صفات تسوغ لهم هذا الادِّعاء وما يترتب عليه من سلوكيات عدائية أو إقصائية أو ازدرائية بسبب فوارق غير متصلة بإنسانية البشر).
اوصاف السود في بعض الأدبيات العربية
اشار الباحث حفظه الله إلى ما تضمنه التراث العربي من توصيف سلبي خاصة عندما يصدر عن الأعلام مثل ابن خلدون الذي وصف السودان بالخفة والطيش وكثرة الطرب، مع ولهم بالرقص على كل توقيع في كل قطر. ويقول ايضا:
(ولما كان السودان ساكنين في الإقليم الحار؛ استولى الحر على أمزجتهم فصارت أرواحهم أشد حَرًّا من أرواح أهل الإقليم الرابع وأكثر تفشيًا، ومن ثَمَّ كان السودان أكثر فرحًا وسرورًا وأكثر انبساطًا، وأمَّا الطيش فقد جاءهم على أثر ذلك).
هذا الكلام السلبي ليس مقبولا لا من ابن خلدون ولا من غيره ولكن مع ما فيه من قدح فإن ابن خلدون وصفهم أيضا اوصافا إيجابية، فقد وصفهم بأنهم أكثر فرحا وسرورا وأكثر انبساطا.
ولكن ماذا قال ابن خلدون عن قومه العرب وعن شعوب اخرى؟:
(أكل العرب الإبل فأخذوا منها الغيرة والغلظة وأكل الأتراك الخيول فأخذوا منها الشراسة والقوة وأكل الإفرنج الخنزير فأخذوا منه الدياثة وأكل الزنوج القرود فأخذوا منها حب الطرب..)
وقال أيضا عن العرب:
( إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، فهم متنافسون في الرئاسة، وقلّ أن يسلِّم أحد منهم الأمر لغيره وإن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط).
هذه النصوص مجتمعة تبعد في ظاهرها حسب تصوري فرضية العنصرية عن ابن خلدون.
ومن المواقف الطريفة في هذا السياق أن الشيخ عادل الكلباني ذكر في مقابلة تلفزيونية قبل سنوات أن احدهم اتصل به وقال له هذا عامكم (السود) : انت أصبحت إماما للحرم واوباما انتخب رئيسا للولايات المتحدة.
أورد الباحث عبد المحسن الحديث الشريف :
(( اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كان رأسه زبيبة)).
هذا الحديث يؤكد مساواة الشريعة بين البشر وفيه رسالة واضحة للعرب باللغة التي يفهمونها فهم أهل فخر بالانساب وبالمكانة الاجتماعية وعاشوا في مجتمع طبقي تراتبي فجاء هذا الحديث ليبين للعرب أن المعايير تغيرت فمن كنتم تنظرون إليه في الماضي بدونية مؤهل لأن يكون اميرا عليكم فإذا تولى وجبت طاعته..
وكما يقول بعض أهل العلم فإن هذا الحديث يصور قمة المساواة في المواطنة الحقوقية والمدنية ويعتبر بحق قفزة قانونية إسلامية تتيح حرية الولاية وحقها بالمواطنة الإنسانية فقط لا بجنس أو لون أو عرق.
أما قوله تعالى ((يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ)): فقد بين المفسرون المراد منه:
قال الفخر الرازي ما ملخصه: وهذا مجاز مشهور قال تبارك وتعالى ((وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ)) يقال: لفلان عندي يد بيضاء وتقول العرب لمن نال بغيته وفاز بمطلوبه: ابيض وجهه ومعناه الاستبشار والتهلل ...
ويقال لمن وصل إليه مكروه: اربد وجهه واغبر لونه وتبدلت صورته.. وعلى هذا فمعنى الآية: أن المؤمن يرد يوم القيامة على ما قدمت يداه، فإن رأى ما يسره ابيض وجهه بمعنى أنه استبشر بنعم الله وفضله، وعلى ضد ذلك إذا رأى الكافر أعماله القبيحة محصاة عليه اسود وجهه بمعنى أنه يشتد حزنه وغمه» .
يقول الشيخ الشعراوي:
هنا يجب أن نعلم أن الاسوداد والابيضاض هما من آثار اختلاف البيئات في الدنيا، فالشخص الأسود يزيد الله في تكوينه عن الشخص الأبيض بما يناسب البيئة، لأن المادة الملونة للبشرة في جسده موجودة بقوة، لتعطيه اللون المناسب لمعايشة ظروف البيئة، أما أبيض البشرة فلا يملك جسده القدر الكافي من المادة الملونة، لأن بيئته لا تحتاج مثل هذه المادة الملونة.إذن فالسواد في الدنيا لصالح المسود، أما في هذه الآية، فهي تتحدث عما سوف نراه في الآخرة حيث يكون السواد والبياض مختلفين، تماما كما تتبدل الأرض غير الأرض والسموات، غير السموات وكذلك يتبدل أمر السواد والبياض، إنه لن يكون سواداً أو بياضا من أجل البيئات. ولذلك ستتعجب يوم القيامة؛ لأنك قد ترى إنسان كان أسود في الدنيا، وتجده أبيض في الآخرة، وتجد إنسانا آخر كان لونه أبيض في الدنيا ثم صار أسود في الآخرة.فلا يظن ظان أن الإنسان الأسود في الدنيا مكروه من الله، لا، إن الله يعطي كل واحد ما يناسبه، بدليل أن الله قد أمده باللون الذي يقويه على البيئة التي يحيا فيها.
فالله لا يكره السواد لأنه حماية للإنسان من البيئة. وهذه المسألة ستتبدل يوم القيامة كما تتبدل الأرض غير الأرض، وتبيض الوجوه المؤمنة، وتسود الوجوه الكافرة، أو أن البياض والسواد كليهما، أمر اعتباري، بدليل أنك ترى واحدا أبيض ولكن وجهه عليه غبرة ترهقه قترة، وترى واحداً آخر أسود اللون، ولكن نور اليقين يملأ وجهه، وبريق الصلاح يشع منه، وأنت لا تقدر أن تمنع عينيك من أن تديم النظر إليه، فالمؤمن حين يرى ما أعده الله له من النعيم المقيم يقابل عطاء الله باستشراف نفس وسرور وانبساط، أما الذي يرى مقعده من النار فلابد أن يكون مظلم الوجه).
مناقشة المعاصرين لمسالة العنصرية واللون في الثقافة العربية الإسلامية
ناقش نادر كاظم تمثلات الآخر في الثقافة العربية ضمن فعاليات معرض الكتاب بمركز البحرين الدولي للمعارض (2003) الذي تضمن ندوة بعنوان «لعنة السواد في الثقافة العربية» .
حيث شبه اهتمام الثقافة العربية بثقافات الآخرين من أجناس الشمال والجنوب والشرق والغرب، بالاهتمام الغربي بدراسة الشرق، ووضع المسألة في سياق الغلبة الحضارية: (في سياق هذا الاهتمام تشكل في الثقافة العربية الإسلامية تراث ضخم وأرشيف بالغ الثراء عن «الأسود» أو «الزنجي»، وثقافته، وعاداته، وتقاليده، وأديانه، ومنتوجاته، وملبوساته، ومأكولاته... وقد تحقق ذلك كله في سياق الغَلَبَة الحضارية والسياسية التي تمتّعت بها الحضارة العربية الإسلامية طوال القرون الهجرية الخمسة الأولى. وفي سياق هذه الغَلَبَة ترعرع ما يمكن أن نسميه بخطاب «الاستفراق»).
اما الكاتب محمد جميل فبين في مقال له بعنوان "سيميولوجيا السواد في خطاب الهوية السوداني" أن الموقف من السواد قد يشمل المهمشين من أصحاب الألوان الأخرى:
(..حتى أصبح اللون الأسود بفعل ذلك المعنى الآيدلوجي العنصري ، ينزاح على حقول تستوي مع تلك الدلالة في معناها الذي يفيد النبذ والتهميش أي أن السواد قد يأخذ معناه السياسي كعلامة على المهمشين سياسيا أو نوعيا ـ ولو كانوا بيضا أو ملونين ـ كالأقليات، والنساء اللواتي يقع عليهن الفصل العنصري النوعي مثلا).
ثم يجد الكاتب في الفن ما يوحد الهوية السودانية بجناحيها العربي والإفريقي فتتحد الغابة والصحراء:
(وإذا كانت الهوية السودانية تملك وضوحا صافيا في الفن والشعر والغناء ؛ فلأن الفنون هي أصفى تعبيرات الروح حين تتصالح مع ذاتها وتصغي إلى ما هو إنساني وجميل في أعماقها . كذلك جسدت مدرسة (الغابة والصحراء) في الشعر السوداني أقنوما جميلا لتك الهوية بين حدي الزنوجة (الغابة) والعروبة (الصحراء) لهذا هتف رائد هذه المدرسة الشاعر السوداني الراحل د. محمد عبد الحي بعد أن عاد من التيه المضني عن هويتة ؛ ليكتشف معناها في أقنوم الزنوجة والعروبة الذي يجري بدماء مختلطة في أهل مدينته / وطنه ، تماما كالصوفي المعذب أبي يزيد البسطامي الذي عاد إلى بلدته ليجد فيها ما خرج باحثا عنه … يقول عبد الحي :
(أفتحوا للعائد الليلة أبواب المدينة
ـ بدوي أنت ؟
ـ لا
ـ من بلاد الزنج ؟
ـ لا
ـ أنا منكم / تائه عاد يغني بلسان / ويصلي بلسان).
أما د. تغريد يحيى فقد عالجت الموضوع في مقالها "ثقافة اللون ومناهضتها" وذهبت إلى أن إدراكات الثقافة العربية الشعبيّة لألوان تمنح أفضليّة للأبيض، لكنّها تضيف: هذا الإدراك سرعان ما لا يصمد إذا ما استعرضنا الثقافة العربية على نحو كامل. فهي ترى ان الأغاني الشعبيّة النسائيّة الفلسطينيّة التي تفاضل بين السمراء والبيضاء بدعابة جميلة وتستخدم ذخرًا ثقافيًّا غنيًّا لكن دونما ترجيح لجهة واحدة منهن. لذلك فهي ترى أن الأمر يتصل بالربطُ بين اللّون والنّوع الاجتماعيّ وبالأدوار والتّصوّرات لكلّ من الرجل والرجولة والمراة والأنوثة، فبياض بشرة المرأة يعتبر دلالة على مكانها في الحيّز الخاصّ، في الداخل (بيتها، الحريم النسائيّ، وخدرها تاريخيًّا).
اما عن الرجل فتعتبر تغريد أن سمرته تؤشر إلى مكانه في الحيّز العام وعلى الأدوار المنوطة به في هذا الحيّز، وبالذات الأعمال والأشغال الجسمانية وتلك التي تتطلب انكشافا متواصلًا خلال ساعات النهار تحت حرارة الشمس القاسية في بلاد الشرق، الجنوب العالميّ.
تراوحت هذه الآراء حول قضية اللون في الثقافة العربية والعلاقة بالآخر بين تشبيه موقف العرب من الآخر بالاستشراق الغربي ثم توظيف الفن لتوحيد الهوية كما هو الحال في السودان وإلى مفهوم التهميش الذي قد يكون ضحيته اي لون أو الأغاني الفلسطينية التي تسوي بين اللونين الأبيض.
اما عبد العظيم شلي فينقل المسالة إلى جمال وتكامل اللونين وذلك من خلال ما كتبه
عن معرض "أسود وابيض الذي نظم في القطيف بالمملكة العربية السعودية سنة 2024 تحت عنوان "حين يتكلم السواد والبياض بلاغة وفنا":
(معرض أسود وأبيض الثالث - يتوهج البياض نصاعة بجوار نقيضه الأسود، ويتألق الأسود حلكة بتماسه مع الأبيض، لونان متباينان، تارة نرى الأبيض قليلًا والسواد هو السائد كما في الطبيعة، وخير مثال نجوم الليل المتناثرة المضيئة وسط ظلام السماء بفضائها الواسع، وتارة أخرى نشاهد السواد نقطة بين موج البياض المتحرك، كطواف الحجاج والمعتمرين بإحرامهم الأبيض حول الكعبة المشرفة بستائرها السوداء. وثمة تعادل بين توزيع اللونين، نراهما متساويين لا غلبة لواحد على الآخر، كما هو منقوش على جلد الحمار الوحشي. وهناك عملية تحول بينهما، ينعكس على نفسياتنا، وأقسى شيء ما نراه من تحول تدريجي بين جماليات الشعر الأسود وتحوله إلى بياض، وكأن البياض مذموم والأسود محبب، والعكس من ذلك حين نرى اتشاح النسوة ملابس سوداء تعبيرًا عن حالة حداد لديهن، وكأن السواد يبعث الحزن فينا . وأي بريق وجمالية خلقت تلك العيون السوداء وسط بياض لامع! لكم يأسرنا تجاور هذين اللونين في الحياة كل يكمل الآخر.. إنهما لونان متوهجان لهما فلسفة في الحياة والفن، والذائقة البصرية لا تشبع من توظيفهما بجوار بعض، لتسرد الواضح والغامض والمعلن والمستتر بينهما وكأن اللونين في حوار دائم لا ينتهي).
هذه المناقشة نحتاج لعرضها على تراث الثقافة العربية الإسلامية ببعديه النظري والممارس عمليا لعل ذلك يقربنا من تحديد موقف المجتمع العربي من اللونين الأسود والأبيض.
بين السواد والبياض في الثقافة العربية قديما
شاع في الثقافة الإسلامية المفاضلة بين الألوان مع تفضيل اللون الأبيض في بعض الاحوال لكن للون الأسود أيضا ما يتميز به.
سأل الرشيد الأوزاعي عن لبس السواد، فقال: لا أحرمه، ولكني أكرهه. قال: ولم؟ قال:
لأنه لا تجلى فيه عروس، ولا يلبي فيه محرم، ولا يكفن فيه ميت. فالتفت الرشيد إلى أبي
يوسف وقال: ما تقول أنت في السواد؟ قال: يا أمير المؤمنين، النور في السواد. فاستحسن
الرشيد ذلك. ثم قال: وفضيلة أخرى يا أمير المؤمنين. قال: وما هي؟ قال: لم يكتب كتاب
الله إلا به، فاهتز الرشيد لذلك.
ويمكن أيضا أن نضيف أن لباس الكعبة أسود اللون.
وقيل إن هارون الرشيد جلس ذات يوم وبين يديه جاريتان إحداهما سوداء والأخرى بيضاء، فتعاتبت الجاريتان وتنادمتا، ثم إن كل واحدة منهما أنشدت شعرا تمدح نفسها وتذم صاحبتها، أنشدت تقول:
ألم تر أنّ المسك لا شيء مثله ... وأنّ بياض اللفت حمل بدرهم
وأن سواد العين لا شك نورها ... وأن بياض العين لا شيء فافهم
فأجابتها البيضاء :
ألم تر أنّ الدّر لا شيء فوقه ... وأن سواد الفحم حمل بدرهم
وأنّ رجال الله بيض وجوههم ... وأن الوجوه السود أهل جهنم
فاستحسن الرشيد قولهما.
وعموما مسألة الألوان تدخل فيها العادات والثقافات ففي حين نجد أن اللون الأسود هو عنوان الحزن والحداد في بعض المجتمعات نجده عنوانا للفرح في المناسبات الاجتماعية في موريتانيا وفي المجتمعات الصحراوية المجاورة.
البياض للحداد
من المتعارف عليه أن السواد يكون عادة للحداد والبياض للكفن
لكن أهل الأندلس اختاروا البياض لباسا للحداد، مما ألهم عددا كبيرا من شعراء ذلك العصر للتعبير عن هذه العادة. يقول الشاعر علي الحصري القيرواني، صاحب القصيدة الأندلسية الأشهر «ياليل الصب متى غده..»، عن موقفه من هذا الطقس الحدادي:
ألا يا أهل أندلس فطنتم
بلطفكم إلى شيء عجيب
لبستم في مآتمكم حدادًا
وجئتم منه في زي غريب
صدقتم فالبياض لباس حزنٍ
وما حزن أشد من المشيب..
الخمار الأسود
تقول الرواية إن تاجرا حجازياً قدم إلى الكوفة لبيع الخُمر النسائية، فباعها ما عدا ذات اللون الأسود منها.
لم يرض التاجر الحجازي بمغادرة سوق الكوفة قبل بيع بضاعته، ففكر في حيلة لإقناع النساء بشراء الخمار الأسود.
طلب من الشاعر مسكين الدارمي مساعدته في إنقاذ بضاعته
فأنشد الدارمي أبياتا تصور ناسكا اعتكف في المسجد واعتزل الدنيا، ولكن سيدة ترتدي خمارا أسود أغوته وفتكت بمشاعره فهام في حبها:
قل للمليحة بالخمار الأسود
ماذا فعلت بناسك متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه
حتى وقفت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه
لا تقتليه بحق دين محمد
وعلى الفور، شاع في أحياء الكوفة أن مسكين الدارمي ترك الزهد والنسك بعد أن رأى امرأة ترتدي خمارا أسود، فأقبلت النسوة على شراء بضاعة التاجر الحجازي اعتقادا منهن بقدرتها على سلب ألباب الرجال.
العمائم السوداء
وأهم من كل ما مر معنا فعل النبي صلى الله عليه وسلم اذ ورد أنه صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعليه عمامة سوداء.
كما ورد في الاثر أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فعممه بعمامة سوداء، وأسدل لها من خلفه. ويقول أحد التابعين: رأيتُ أبا هريرة عليه عِمامة سوداء، وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس الذي يقول عنه أحد تلاميذه: "رأيت ابن عبّاس يعتم بعمامة سوداء".
السود سادة الإسلام قديما وحديثا
جاء الإسلام بمنهج وبمعايير تختلف عن معايير المجتمع العربي في زمن الجاهلية فساد السود في هذا المجتمع وانتكس العرب المشركون فلم تشفع لهم انسابهم ولا مكانتهم الاجتماعية ولا فصاحة ألسنتهم.
فهذا سيدنا بلال رضي الله عنه مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان مستضعفا قبل الإسلام ياخذ مكانه بين افاضل الصحابة هو وغيره من الصحابة الكرام من ذوي البشرة السوداء مثل أسامة بن زيد الذي عينه رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأس جيش فيه أكابر الصحابة وآل ياسر الكرام وغيرهم.
احتل هؤلاء الأجلاء مكانة رفيعة بين المسلمين هم والصحابة من
غير العرب عموما مثل سيدنا سلمان الفارسي وصهيب الرومي وهكذا أجيال جاءت بعدهم من التابعين وتابعي التابعين وفي العصور التي تلت ذلك حتى عصرنا الحاضر، ونورد هنا أمثلة من علماء اجلاء من السود الذين أصبحوا سادة الإسلام مثل: عطاء بن أبي رباح: مفتي مكة المكرمة في زمنه وسعيد بن جبير (46-95 هـ) ويزيد بن أبي حبيب النوبي (ت 747م) وأبو رُوَيْم نافع بن عبد الرحمن المدني (ت 786م).
اوردت هنا اسماء بعض الأئمة من "الموالي" من ذوي البشرة السوداء أما الموالي من أصول غير أفريقية الذين أصبحوا أيضا من أكابر علماء الأمة فهم كثر.
وقد الفت مؤلفات مستقلة تحدثت عن حضور السود في الثقافة العربية كما ذكر حاجي خليفة في كتابه "كشف الظنون"، : "فخر السودان على البيضان" للجاحظ، و"في تفضيل السود على البيض" لأبي العباس الناشئ المعروف بـ‘ابن شرشير‘ (ت 910م).
و "السودان وفضلهم على البيضان" لابن المَرْزُبان (ت 921م)، و"زهد السودان" لابن السراج القاري (ت 1106م)، و"تنوير الغَبَش في فضل السودان والحَبَش" لابن الجوزي (ت1201م)، و"نزهة العمر في التفضيل بين البياض والسود والسمر" و"رفع شان الحُبشان" كلاهما للسيوطي (ت 1505م)، و"الطراز المنقوش في محاسن الحُبُوش" لعلاء الدين البخاري (ت 1583م).( لمزيد من التفاصيل يراجع البحث المنشور في الجزيرة نت بعنوان : إسهام السود في التاريخ الاسلامي).
السود سادة الإسلام في العصر الحديث
حكاية طريفة ذات دلالة:ذكر أن أحد اعيان المجتمع الموريتاني اتهم بالعنصرية فرد ببطلان التهمة لأن ام العيال بشرتها سوداء وشيخه أسود اللون وهو شيخ الإسلام الشيخ إبراهيم نياس (ت1975).
فمن هو الشيخ إبراهيم نياس؟
هو عالم إفريقي سنغالي مشهور واحد ابرز مشايخ الطريقة التجانية في القرن العشرين، تتلمذ عليه كثير من العلماء والأشراف من المجتمع العربي الموريتاني ومن بلدان عربية اخرى فكانت له مكانة كبيرة في موريتانيا ودول عربية أخرى.
جاب الشيخ إبراهيم إفريقيا وكل الأقطار الإسلامية، وكثيراً من الأقطار الأخرى ينشر دين الله ويدعو إلى الإسلام بالكلمة الطيبة، ويبث علمه بين الناس ويناظر العلماء للإفادة والاستفادة.. زار مختلف المراكز العلمية والإسلامية في بلاد شنقيط والمغرب وتونس والأزهر والحجاز، وباكستان والهند و الصين….
وانخرط في الدعوة في هيئاتها الرسمية والشعبية العالمية،فقد كان:
– نائبا للرئيس ثم رئيسا للمؤتمرالإسلامي بكراتشي.
– عضواً مؤسساً في رابطة العالم الإسلامي.
– رئيسا مؤسسا لمنظمة الاتحاد الإفريقي لدعاة الإسلام
– عضواً مؤسساً في جمعية الجامعات الإسلامية بالرباط.
– عضوا في المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.
– عضوا في مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة.
– عضوا في المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر.
وغيرها من الهيئات الدعوية الإسلامية.
ولمكانته أم صلاة الجمعة في الأزهر الشريف سنة 1961 بطلب من شيوخ الأزهر.
أقوال أهل العلم عنه:
قال الشيخ محمد الغزالي:
” إننا مطمئنون على مستقبل الإسلام مادام في المسلمين أمثال ضيفنا العظيم شيخ الإسلام إبراهيم نياس”.
قال الشيخ محمد محمود الصواف:
” والشيخ إبراهيم نياس هو كبير مشايخ هذا الإقليم، بل هو الرجل القوي الذي يقف بصلابة أما جميع التيارات المعاكسة للإسلام، وله مقام كبير ونفوذ واسع لدى الشعب السنغالي وبعض الشعوب الإسلامية الأخرى، وقد أسلم على يديه خلق كثير.. “.
قال المحدث الشيخ محمد الحافظ المصري بعد أن ذكر عدة أوصاف للشيخ: ” … وباختصار هو نور هذا العصر”.
ومن اعلام هذا العصر أيضا الحاج محمود باه (ت 1978)وهو عالم وداعية موريتاني كان صاحب دعوة إصلاحية أسس مدارس الفلاح في غرب أفريقيا التي استوحى فكرتها من تجربة مدارس الفلاح في مكة المكرمة والمدينة المنورة، وعاد إلى وطنه (موريتانيا) ليؤسس فرعا لها في غرب أفريقيا.
كما كانت لعدد آخر من علماء إفريقيا مكانة كبيرة مثل الشيخ عثمان فوديو الذي أسس سلطنة إسلامية في شمال نيجيريا في القرن الثامن عشر (ت 1817) والحاج عمر الفوتي (ت1864) الذي كان عالما ومجاهدا وكان يلقب بسلطان الدولة التجانية في غرب إفريقيا، وقد ارجعت فرنسا قبل سنوات قليلة سيفه التي كان يجاهد بها إلى الحكومة السنغالية.
وساموري توري (ت 1900) الذي أسس سلطنة إسلامية امتدت عبر شمال وشرق غينيا الحالية، وشمال شرق سيراليون، وجنوب مالي، وشمال كوت ديفوار وحارب الفرنسيين لسنوات طويلة.
والحاج مالك سي أحد أكبر مشايخ الطريقة التيجانية في السنغال (ت 1922) والشيخ احمدو بمب (ت 1927) احد اكبر مشايخ التصوف في السنغال وهو مؤسس الطريقة المريدية.
نشر هؤلاء الأعلام الإسلام وحافظوا على اللغة العربية وعلموا المسلمين أحكام دينهم واجتهدوا في التربية والتزكية وجاهدوا ضد المحتلين الأروبيين وبنوا المدارس والمعاهد لتعليم القرآن ونشر العلم فكسبوا بذلك السيادة والريادة بين المسلمين وخاصة العرب الذين احتفوا بهم واكرموهم لما رأوا فيهم من علم وصلاح وفضل وخدمة للإسلام..
العنصرية ظاهرة عالمية لا تخص مجتمعا دون آخر
إذا كان العرب يتهمون بالعنصرية ضد السود، ولا ندعي لهم براءة من ذلك، إلا أن العنصرية قد تكون متبادلة بين الشعوب كما سنرى في النماذج التالية.
بين العرب والفرس
يناقش كتاب "صورة العرب في الأدب الفارسي الحديث" للباحثة الأميركيّة جويا بلُندِل سعد، الذي ترجمة صخر الحاج حسين مواقفَ النخب الإيرانية من العرب خلال فترة حكم الأسرة البهلوية (1925-1979)، مثلما تبدت في الأعمال الأدبية لتلك الحقبة.
ففي عصر صعود القوميات بداية القرن العشرين، وجد الإيرانيّون أنفسَهم متخلّفين عن الغرب الأوروبي، وراحوا يبحثون عن أسباب هذا التخلّف. فجعلَوا من العرب، شماعة ألقوا عليها جميع مشكلاتهم وأسباب تخلفهم. كانت فرضية النخب الإيرانية تنطلق من أنّ "الغزو العربي" لبلاد فارس في القرن السابع للميلاد، قد دمر الحضارة الساسانية على يد مجموعة من "البداة المتوحّشين" و"المتعطّشين للدماء".
وفي المقابل يضمّ كتاب
«نظرة العرب إلى الشعوب المغلوبة» لعافية حداد السلامي صفحات مطولة تروي بالتفصيل وقائع وأسباب ذلك الصراع (بين العرب والإيرانيين) الذي بدأ مع الفتح العربي.
وترد الكاتبة ترفع العرب وما تسميه احتقارهم للموالي والأعاجم إلى عصور ما قبل الإسلام، مستشهدة بالثعالبي الذي يقول «لم تزل العرب تتميز عن سائر الأمم بالنخوة لما كانت تختص به من السماحة والفصاحة والشجاعة حتى إن النعمان بن المنذر ترفّع عن السلطان أبرويز إذ كان من العجم»!
وتورد الباحثة أسباباً مختلفة لنظرة العرب "المتعالية" إلى العجم. فقد احتقر العرب العجم لبربريتهم في الكلام. وقد اعتبر الجاحظ البديع مقصوراً على العرب ومن أجله فاقت لغتهم كل لغة وأربت على كل لسان.
وقد رد الفرس على العصبية العربية، فكانوا يفخرون على العرب بمجدهم وعزهم القديم، وأنهم أهل حضارة عظيمة وهم من عرف كيف يسوس الملك ويدبّر الحكم، وأنهم لما حكموا لم يكن لهم إلى العرب حاجة، ولما حكم العرب لم يستطيعوا أن يحكموا إلا بمعونتهم.
غرب افريقيا
في غرب أفريقيا تحدثت بعض التقارير عن حالات تمييز وعنصرية ضد اللبنانيين المقيمين في دول غرب أفريقيا وتعود أسباب تلك العنصرية إلى دوافع اجتماعية أو اقتصادية أو بسبب بعض الصور النمطية السلبية عن اللبنانيين لذلك يحصل التمييز ضدهم في تطبيق الإجراءات والقوانين مقارنة بأبناء البلد.
ليبيريا
وفي ليبيريا منعت المادة 27 من الدستور الذي تم تشريعه في سنة 1984م غير السود من حمل الجنسية الليبيرية: «فقط الأشخاص الزنوج أو ا