ورقة تعريفية بالعالم الرباني محمد لقظف "الداها"

اثنين, 2025/07/14 - 19:17
بقلم د. محمد محمود بن محمد المهدي

تعد شخصية الشيخ محمد الأقظف الملقب بـ"الداها" ولد عبد الجبار من أبرز أعلام منطقة الحوض الغربي في القرن العشرين. وقد برز في مجال التعليم المحظري، لاسيما في تعليم القرآن الكريم وعلومه. والمتون الفقهية، بالإضافة لدعوة إلى الله والإصلاح المجتمعي.

 

وتهدف هذه الورقة إلى تسليط الضوء من خلال ثلاثة محاور على سيرته العلمية والتربوية، مع التركيز على منهجه في التعليم والدعوة، نظرًا لأثره البالغ في تشكيل الهوية العلمية والدينية في منطقته.

 

المحور الأول: الخلفية العلمية والاجتماعية للشيخ محمد الأقظف "الداها" ولد عبد الجبار

أولا: النسب والنشأة:

يُعد الشيخ محمد الأقظف الملقب بـ"الداها" ولد عبد الجبار من الشخصيات العلمية البارزة التي ظهرت في موريتانيا خلال القرن العشرين، ويعود نسبه إلى قبيلة إدوعلي المشهورة بعراقتها العلمية، حيث ينتسب من جهة الأب إلى محمد الأمين بن محمد بن أحمد بن محمد بن عبد الجبار بن أحمد بن الزين العلوي السليماني، وأما من جهة الخؤولة والموطن فينتسب إلى تنواجيو الأدارسة قبيلة العلم والكرم.

وُلد الشيخ الداها سنة 1922م تقريبًا، في بيئة قروية محافظة، معروفة بالتمسك بالدين والعناية بالقرآن الكريم وعلومه، وذلك في ولاية الحوض الغربي، إحدى أهم الحواضن التقليدية للعلم والمحاظر في البلاد. وقد توفي والده محمد الأمين وهو لا يزال صغيرًا، فتكفلت والدته الفاضلة رقية بنت أحمده ولد المصطف الحضرمي الحسيني بتربيته، وكرّست حياتها لتعليمه وتوجيهه، مما كان له أعظم الأثر في مساره العلمي والروحي.

تميّزت الأسرة التي نشأ فيها الشيخ بالعلم والزهد وحفظ القرآن الكريم، فكان من الطبيعي أن ينشأ محبًا للعلم، مرتبطًا بالقرآن، مائلًا إلى الزهد والتقشف منذ حداثة سنه، وهي صفات ظلت ملازمة له طيلة حياته.

ثانيا: مراحل تعليمه وتكوينه العلمي

بدأ الشيخ الداها حياته العلمية بحفظ كتاب الله تعالى، وكان أول شيوخه الشيخ أحمد المرابط الذي حفظ عليه نص القرآن الكريم، ثم راجعه على الشيخ البشير ولد عالي. وبعد أن أتم الحفظ، التحق بعدد من المحاظر الكبرى، لا سيما محظرة أهل جد أمّ، المشهورة بتدريس القراءات والفقه المالكي، في قرية "اخويويرة" قرب "ادويرارة"، وهي المحظرة التي أسسها الشيخ المرابط محمد محمود بن جد أم (ت: 1911م).

في هذه المحظرة، تلقى الشيخ سندًا متصلًا في قراءة الإمام نافع، وأتقن فيها علوم الرسم والضبط وكتاب "ابن بري"، وهو ما سيشكل لاحقًا علامة فارقة في منهجه التربوي.

لم تقتصر معارف الشيخ على علوم القرآن، بل درس أيضًا الفقه المالكي من خلال المتون الأساسية كالأخضري وابن عاشر ومختصر خليل، وقد كتبه ثلاثة مرات حتى صار عنده كالفاتحة كما أكد ذلك تلميذه الشيخ الدايّ ولد أعمر الذي لازمه أكثر من عقد من الزمن.

واهتم بعد ذلك طوال حياته بتفاسير القرآن الكريم وشروح المتون الفقهية، ما منحه ملكة علمية قوية أهلته للتصدر بين أهل العلم.

وقد شهد له عدد من معاصريه وتلامذته بحدة الذكاء، وسرعة الحفظ، وعلو الهمة في طلب العلم. ومما كان يتمثله دائمًا قول الشاعر:

 سأطلب علمًا أو أموت ببلدةٍ ... يقلّ بها هطل الدموع على قبري

 أليس من الخسران أن لياليًا ... تمر بلا علم وتُحسب من عمري؟

وقد أدى هذا التكوين المتين إلى أن يتبوأ الشيخ مكانة علمية رفيعة بين أقرانه، وجعل منه مرجعًا في علوم القرآن، ورسمه، وضبطه، بالإضافة إلى صدارته في الفقه والتفسير، مما أهّله لاحقًا لتأسيس محظرته الخاصة، التي أصبحت مقصدًا للطلاب من شتى أنحاء الحوضين:

 المحور الثاني: منهج الشيخ محمد الأقظف "الداها" التربوي في محظرته النموذجية

أولا: تأسيس المحظرة وخصائصها

يُعتبر تأسيس المحظرة من أبرز إنجازات الشيخ محمد الأقظف "الداها"، حيث أسس محظرته التعليمية التي حملت اسمه 1953م، والتي كانت نموذجًا متميزًا في تعليم القرآن الكريم وعلومه في منطقتي العيون والطينطان وضواحيهما.

تميزت هذه المحظرة بكونها متنقلة بين مناطق مثل بلدية العوينات في الطينطان وبلدية تنحماد في العيون، الأمر الذي سهّل وصول طلاب العلم من عشيرتي أهل باب وأهل محمياي وغيرهما إليها.

حظيت المحظرة باهتمام كبير من الطلاب والمهتمين، لما تميزت به من تنظيم دقيق، واستراتيجيات تعليمية مُحكمة، وأساليب تصحيح دقيقة، جعلتها من أهم المحاظر في المنطقة في ذلك الزمن.

ثانيا: النظام التعليمي في المحظرة

اتبع الشيخ الداها في محظرته نظامًا تعليميًا منظمًا يقسم الدراسة إلى مرحلتين رئيسيتين:

المرحلة الأولى: حفظ القرآن الكريم واستظهاره.

 كان الطلاب في هذه المرحلة يركزون على حفظ النص القرآني كاملاً، واستظهاره بدقة، حيث خصص لهم الشيخ وقتًا ومنهجًا متقنًا لضمان حفظ آمن وسليم، مع متابعة مستمرة.

المرحلة الثانية: دراسة الرسم والضبط والعلوم الشرعية.

يلتحق بهذه المرحلة الطلاب الذين أتقنوا الحفظ، والذين ثبت حفظهم واستظهارهم للقرآن، ويدرسون فيها علوم الرسم والضبط، وفق منهج قراءة الإمام نافع الذي تخصص فيه الشيخ، إضافة إلى دراسة كتابة "السلكة"، ثم دراسة متون فقهية ونحوية متنوعة.

كان لكل مرحلة اختبار خاص بها يُجرى ليلة الأربعاء، والمعروفة بـ"ليلة الزرك"، حيث يختبر الشيخ طلاب المرحلة الأولى على الحفظ واستظهار الأثمان والفسخة، أما طلاب المرحلة الثانية فيختبرهم على الرسم والضبط وأوجه القراءة وفق قراءة نافع.

ثالثا: طرق التدريس والتصحيح

تميز منهج الشيخ الداها في التدريس بطرائق تصحيح فريدة تراعي مستويات الطلاب:

 في الرسم:

ذا كان الطالب متقدمًا في الرسم وأخطأ في كتابة كلمة ما، يُعطى لوحه مع تلميح بسيط مثل: "لوحك فيه كلمة" ليصلح الطالب خطأه بنفسه. أما المبتدئون فيُصلح لهم الخطأ مباشرة.

في التصحيح القرآني:

للطلاب في مرحلة الردفة، لا يتم التصحيح المباشر عند الخطأ، بل يُقال لهم "علو" بمعنى: ارجع إلى بداية المقروء لاكتشاف الخطأ بنفسهم، مما ينمي لديهم مهارات التدقيق والمراجعة الذاتية. أما الطلاب في المراحل الأولى فيُفتح عليهم مباشرة دون تلميحات.

هذا التفريق في أساليب التصحيح يعكس حكمة الشيخ في "إنزال الناس منازلهم" حسب قدراتهم، ويؤكد رعايته العلمية والنفسية لطلابه.

رابعا: أثر المحظرة ومنهجها في المجتمع:

خرج من محظرة الشيخ الداها العديد من الحفاظ والعلماء الذين أصبحوا أعمدةً في مجال تعليم القرآن وعلومه في الحوضين، ومنهم:

الحافظ والفقيه سيد عبدل ولد أن والذي أسس محظرة عامرة في لمسيله.

- عالي ولد سيديّ ولد محمياي والذي أسس محظرة مشهورة في منطقة العوينات وكان من أعيان ووجهاء مجتمعه أهل محمياي.

- الحافظ الداي ولد أعمر

- سالم ولد الشيخ

- ديده ولد محمد الامين

- الرام ولد خطري

- الدد ولد سيد المختار

- ابراهيم ول النايه فهؤلاء كلهم أخذوا عنه القرآن بإتقان، وبعضهم أخذ متون الفقه عنه أيضا...

وكذلك من درس عليه:

- الأستاذ محمد الحسن ولد محمد محمود ولد حني رحمه الله تعالى المدير المساعد السابق لمدرسة تكوين المعلمين بالعيون.

- الأستاذ اللغوي محمد خون أباهي رحمه الله تعالى

- الفقيه جدو حني رحمه الله تعالى .

- الشيخ الداعية: حمود حني رحمه الله تعالى.

- الفقيه والقارئ المحدث: سيد امحمد ولد جد أهلوا ولد محمد رار

- الشيخ السالم ولد محمد الأمين.

- الأستاذ محمد ولد سيد أحمد العالم مدير معهد ورش لتدريس القرآن الكريم بالعيون.

وكذلك أخذ عنه القرآن وعلومه أبناءه الثلاثة: حدمين، ومحمد المهدي، ومحمد عبد الله.كان منهجه العلمي والتربوي أساسًا في تنشئة جيل من الحفاظ المتقنين الذين حملوا مشعل العلم في مناطقهم، وساهموا في استمرارية التعليم التقليدي والمحافظة على حفظ القرآن الكريم وعلومه.

 المحور الثالث: شخصية الشيخ محمد الأقظف "الداها" الدعوية والإصلاحية

أولا: الجانب الدعوي والتقوى

اشتهر الشيخ محمد الأقظف "الداها" رحمه الله تعالى بالتقى والورع والزهد، فكان نموذجًا للعابد الزاهد الذي تسيطر عليه خشية الله وعظمته، ويشعر بالخوف والرجاء بين يدي ربه.

عرف عنه كثرة البكاء من خشية الله، وصدق القول، والاستقامة في الدعوة، فكان داعيةً مخلصًا، لا يساوم على الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم. وكانت الدعوة إلى الله حاضرة في سلوكه اليومي وفكره التربوي.

هذه الصفات أهلته لأن يكون شخصية مؤثرة في مجتمعه، يتلقاه الناس بالاحترام والتوقير، لما عرفوه فيه من صدق الرسالة وعظمة الهمة.

ثانيا: مواقفه الاجتماعية والإصلاحية:

كان الشيخ الداها من الذين لا يرضون بالجمود أو الظلم، بل كان له موقف واضح وشجاع في مواجهة القضايا التي تمس المجتمع وقضاياه، بما ينسجم مع تعاليم الإسلام ومبادئ العدالة.

من أبرز مواقفه الاجتماعية، قصته مع وزير الداخلية أحمدو ولد عبد اللّ، حين واجهه بشكل مباشر مشيرًا إلى بعض المنكرات التي كانت تقع في البلاد، مستشهدًا بآية من القرآن الكريم: ﴿وَقُلۡ جَآءَ ٱلۡحَقُّ وَزَهَقَ ٱلۡبَٰطِلُۚ إِنَّ ٱلۡبَٰطِلَ كَانَ زَهُوقٗا﴾ \[الإسراء: 81]. وهو ما ترك أثرًا في النفوس، وأظهر صلابته وجرأته في قول الحق دون مجاملة.

وكان يُولي اهتمامًا بالغًا بمتابعة أحوال تلاميذه، متعاطفًا معهم، يسعى دائمًا لتأمين سلامتهم ورعايتهم، وهو ما ترك بصمة اجتماعية وإنسانية كبيرة بين أتباعه ومحيطه.

ثالثا: الإرث الدعوي والإصلاحية

استمر تأثير الداها بعد وفاته رحمه الله تعالى من خلال تلاميذه المتميزين الذين حافظوا على منهجه، وساهموا في إحياء علوم القرآن والدعوة إلى الله، خصوصًا في مناطق الحوض الغربي.

وختامًا، فإن شخصية الشيخ محمد الأقظف "الداها" لم تكن مجرد حافظ متقن وعالم رباني، بل كانت رمزًا للدعوة الصادقة، والإصلاح الجاد، والالتزام الديني الحقيقي، الذي جعله محط احترام وتقدير الجميع، من أهل العلم والناس عامة.

 الخاتمة

تُظهر هذه الورقة أن الشيخ محمد الأقظف "الداها" ولد عبد الجبار كان شخصية علمية ودعوية متميزة، جمعت بين حفظ القرآن الكريم، والتمكن من الفقه المالكي، والصرامة في التعليم، والتواضع في السلوك، والوضوح في الموقف الإصلاحي.

لقد أسس محظرة كانت نموذجًا ناجحًا للتعليم القرآني، منهجًا وتنظيمًا، وأسهم في تخريج جيل من العلماء والدعاة الذين حافظوا على رسالة المحظرة. وتشكل شخصيته أحد النماذج الجديرة بالتوثيق والدراسة، في زمن تتراجع فيه النماذج التعليمية التقليدية.

إن الاهتمام بسير العلماء من أمثال الشيخ الداها، ليس مجرد تأريخ للماضي، بل هو عمل تربوي يهدف إلى إحياء النموذج التربوي الأصيل، وربطه بالواقع، وتقديمه للأجيال باعتباره مثالًا على الربانية والوسطية والعلم المؤسس على التقوى.

 ومسك الختام معقصيدة في ذكرى رحيل الشيخ محمد الأقظف "الداها" بن عبد الجبار لسبطه الشاعر: محمد أحيد ولد محمد ولد امباتي

مَا بَالُ وَجْهُ الْكَوْنِ قَدْ يَئِسَا

وَالْحَرْفُ كَالأَشْجَارِ قَدْ يَبِسَا

هَذا الْوُجُودُ كَمِثْلِ أَرْمَلَةٍ

تَبْكِي مِرَاراً حُرْقَةً وَ أَسَى

وَالْكَوْنُ يَهْمِسُ لِلدُجَى خَجَلاً

وَفَمُ الزَمَانِ الْمَحْضِ قَدْ خَرَسَا

مَا بَالُ (تَنْحَمَادْ) فِي قَلَقٍ

و (أَكَنِي) فِي بَحْرِ الْهُمُومِ رَسَى

قَدْ غَابَ غَابَ رُؤًى ذَاتَ انتَعَاشِ

يَجْهَلُ الْيَبَسَا

إِنِي إِذَا الْجَهْلُ الْمُخِيفُ طَغَى

ظُلْماً اتخَذْتُ (الدَاهَ) لِي تَرَسَا

يَا مَن فَهِمْتَ الدِينَ مُجْتَهِداً

طُوبَى لِمَن بِاللَهِ قَدْ أَنِسَا

وَحَمَيْتَ فِي لَيْلِ الضَيَاعِ فَتًى

وَيَتِيمَةً مِن ذِئْبِهِ الشَرِسَا

قَدْ كُنْتَ مَأْوًى لِلْفَقِيرِ إِذَا

الْأَمْطَارُ تَعْصِفُ وَالشِتَاءُ قَسَى

يَا غَيْمَةَ الْجُودِ التَلِيدِ وَيَا

رَجُلاً بِوَجْهِ الضَيْفِ مَا عَبُسَا

يَا مَنْ أَضَأْتَ سَناً تُرِتِلُ مِن

قُرْآنِ رَبِي بُكْرَةً وَمَسَا

طُوبَى لِمَن مَلَأَ الْحَيَاةَ رُؤًى

فِي قَلْبِهِ تَقْوًى بِهِ انغَرَسَا

وَهَزَزْتُ نَخْلَكَ أَبتَغِي أَلَقَ الْأ

خْيَارِ فَاسَاقَطْتَ لِي قَبَسَا

سَافَرْتَ نَحْوَ اللَهِ مُبْتَسِماً

هَلْ خَابَ مَن بِالسُنَةِ الْتَمَسَا؟

فاللهم ارحم الله الشيخ الداها، واجعل ما علّمه في ميزان حسناته، وارزقنا حفظ علمه، وسيرته، واجعلنا من التالين لكتابك العاملين به على وفق ما يرضيك عنا.

والحمد لله على آلائه ونعمائه وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

من أبرز الكتب التي ترجمت للشيخ الداها:

  نبلاء الحوض الغربي – د. محمد محفوظ ولد محمد الأمين

  السهم المسدد في نحر الطاعن في عقب أحمد – الأستاذ سيدنا محمد الراظي خطري

  أعلام القراء في الحوضين – د. سيد محمد عبد الله.