لقاء الرئيس مع الجالية في قطر.. حين يُغيَّب الشباب/ عبد الرحمن حمدن

خميس, 2025/10/16 - 08:31
عبدالرحمن حمدن

لا ينبغي لأي مواطن، مهما كان موقفه السياسي من النظام الحاكم في بلده، إلا أن يشجع لقاء الرؤساء بمواطنيهم في المهاجر، فمثل هذه اللقاءات تتيح سماع آراء ومقترحات نخبة من مواطنيهم ذات خبرة طويلة ومنوعة المشارب والتجارب والتخصصات قد تفيد المخلص الجادَّ في حلحلة معضلات الوطن المزمنة. وهي فرصة كذلك لتلبية احتياجات المواطنين المغتربين ومعرفة أحوالهم من لدن المسؤول عنهم شرعا وقانونا.
وإذا نظرنا إلى وضعية بلدنا اليوم وجدنا أنه يعاني هشاشة عامة في مؤسساته، وتراكما في الفساد الذي ترسخ عبر تعاقب الأنظمة، كما تواجه البلاد تحديات أمنية واقتصادية وسياسية كبيرة ومتزايدة، تجعل حاضرها مهددا ومستقبلها مقلقا. ورغم الوعود المتكررة وطول انتظار التغيير وتحسن الأحوال من نظام إلى آخر، فإن هذا الواقع ما زال يراوح مكانه. ولا نجد مصداقا له أقوى من الهجرة الكبيرةٍ في صفوف الشباب، الذين ضاقت بهم سبل العيش فخرجوا بحثا عن حياة كريمة ومورد رزقٍ لهم ولأهاليهم.
وفي ضوء أهمية نقاش هذا الوضع وسبل الخروج منه، اهتمت الجالية الموريتانية في قطر بدعوة السفارة للقاء فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، وإن بدت الدعوة مفاجئة لأن فخامته قدم إلى دولة قطر الشقيقة في زيارة تضامنية مقدرة جراء العدوان الصهيوني السافر على الدوحة، وللمشاركة في قمة عربية إسلامية طارئة، يُفترض أن جدول صاحبها مزدحم بأعمالها ولقاء نظرائه من قادة الدول الشقيقة. لكنه حرص على لقاء أبناء وطنه، ولحرص فخامته على هذا اللقاء، حرصت على تسجيل الملاحظات التالية:
أولا: أن مثل هذه اللقاءات هي من حق المواطنين المغتربين حين تكون ثمة زيارة للرئيس للبلد الذي هم فيه، وذلك للاطلاع على أحوال بلدهم والسماع من رئيسهم، والمشاركة برأي قد يخدم الوطن أو يساهم في عودة المغتربين أو حل مشكلاتهم. وقد عرفت الجالية في الدوحة قبل اللقاء الأخير بنحو عقدين لقاء آخر مع الرئيس الأسبق اعل ولد محمد فال رحمه الله، وكان لقاء مفتوحا مع جميع أفراد الجالية سمع منهم وسمعوا ردوده عليهم ومنحهم وقتا طويلا.
ثم حصلت محاولات بعد ذلك من بعض السفراء، لكنها كانت تقتصر على أفراد قلة من نخبة الجالية قد يعدون على أصابع اليد، يحرص السفراء على ترضيتهم أو توثيق العلاقة بهم. وكثيرا ما أعرض بعضهم حتى عن مثل هذه اللقاءات التي تقتصر على مجاملات لا فائدة كبيرة تُرجى من ورائها للوطن ولا للمواطنين.
 وقد جاء هذا اللقاء الأخير مع الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني هجينا فلم يكن مفتوحا بالمعنى الأول، وليس مغلقا خاصا بأفراد معينين، فقد حضره بعض الوجهاء "الممثلين للقبائل" وبعض من وافق مجاملة من نخبة الجالية.
إن مثل هذه اللقاءات الهجينة تركز عادة على نقاط محددة تخدم الرئيس وصورته الإعلامية، وتقتصر على صورٍ يظهرها الإعلام أو أسئلةٍ لا تجد جوابا، بدل أن يكون اللقاء لصالح الوطن والمواطن، فيه أخذٌ وعطاءٌ واستفسارٌ وردود، حتى يخرج المجتمعون بشيءٍ ملموس ورؤيةٍ واضحة عن البلد ومشكلاته.
لقد كانت الجاليات الموريتانية في الخارج، على مرّ الأنظمة، محلّ تجاهلٍ رسمي في الغالب في مثل هذه المناسبات، وبشكلٍ خاص في ظل هذا النظام الذي يجد صعوبة في التحكم فيها أو استيعابها، بسبب ما تطرحه من أسئلةٍ ملحةٍ عن الوطن وأوضاعه. ومع الوقت، بات مساعي التحكم فيها من السفارات أكثر وضوحا، ليصبح همّها ضبط الجاليات لا رعايتها وخدمتها. وفي هذا الإطار يُفهم لقاء الرئيس مؤخرا مع الجالية في قطر.
الثاني: كان ينبغي للحاضرين والمنظمين طرح قضية الهجرة التي تشهدها موريتانيا والتي تشكل خطرا على واقعها ومستقبلها وطرق علاج هذه المعضلة، فرغم كثرة موارد الدولة وخيراتها (من سمك وحديد وذهب وزراعة وغاز طبيعي وغيرها...) وقلة سكانها مقارنة بالدول المجاورة، فإن وضع بلادنا يزداد سوءا في مجالات الأمن والاقتصاد وانتشار الفساد - كما اظهرت مؤخرا تقارير محكمة الحسابات - والمحسوبية وسوء التسيير. ولا أدل على ذلك من هجرة الشباب وركوبهم المخاطر هربا من الواقع المرير، وحتى من بقي منهم لم يبق قناعة بالبقاء أو رجاء فائدة فيه، بل حبسه العجز وضعف الحال وانعدام الحيلة.
الثالث: إن المأخذ الأبرز على هذا اللقاء يتجلى في غياب صوت الشباب رغم وجودهم بكثرة ومعاناتهم المستمرة. فبعد ما عانوه في بلدهم من بطالة، وما يعانونه في المهجر من بحثٍ عن العمل بعد تكاليف الأسفار والهجرة، والأوقات التي تمر عليهم في حيرةٍ وحسرةٍ وألمٍ، لا يجدون مسؤولا يواسيهم ولا رئيسا يصغي لمشاكلهم، حتى لو لم يترتب على طرحها عليه كبير شأن، إلا ما كان من وعودٍ في الفترات الانتخابية، هي أشبه بمواعيد عرقوب.
إن هؤلاء الشباب - وقد أصبحوا اليوم كتلا كبيرة معتبرة - لا تهتم الدولة بهم ولا السفارة إلا بقدر ما تحاول التحكم فيهم عن طريق شيوخ القبائل وممثليها بالطريقة التقليدية البدائية، بالضغط بالأهل والأقارب لصالح التصويت أو الانتساب لأحزاب الدولة المتناسلة، من عهد حزب الشعب، في أثوابٍ ومسمياتٍ تتجدد مع تجدد ساكن القصر، من غير تجديدٍ في الأساليب وأنماط الحكم والتفكير.
فتجد الشباب هنا يلاحقهم المسؤولون في الدولة الذين تركوا أماناتهم ومسؤولياتهم جانبا في أغلب الأحيان، ليشتغلوا بطلب التصويت للحزب الحاكم، "طمعا في عقول الشباب" وإهانة لكرامتهم، من دون أن يكون لهم أدنى دورٍ في حلّ مشاكلهم أو مساعدتهم في التوظيف أو الاطلاع على حالهم أو إتاحة الفرصة لهم في الحديث أمام الرئيس المسؤول عنهم في البلد وخارجه.
إنما يُراد منهم التصويت  للحزب والتبعية للنظام، وهم يعلمون أنه لو كان في التصويت أو الانتساب للأنظمة أو لحزب الرئيس فائدة، لانتسبوا له في الوطن، ولما خرجوا هاربين من جحيم البطالة في الدولة التي يحكمها هذا الحزب ويتحكم فيها هذا النظام الذي تسبب في نكبتهم.
رابعا: لدى الشباب اليوم وعي كبير وقدرة على فهم الأحداث واستيعاب ما يجري، مع تمييزهم بين الحق والباطل والغث من السمين، وتقديمهم لمصلحة الوطن ومستقبله على مصالح بعض أفراد القبيلة ولوبيات الضغط الآنية الضيقة، وامتلاكهم قرارهم بأنفسهم ورفضهم أن يكونوا قطيعا يُساق ينعق وراء كل ناعق. فكثيرٌ من الشباب اليوم تحركهم القناعات الراسخة بأهمية السعي لمشروعٍ وطنيٍّ متكاملٍ جادٍّ ينهض بالبلد وينقذه من الضياع المحيط به من كل الجهات.
وأخيرا، فإن لجوء الشاب الذي أغناه الله داخل وطنه أو خارجه، ولم يجعل لأحدٍ منة عليه، إلى الأنظمة الفاسدة والنخب المفسدة وأدواتها، التي لا تقيم له وزنا حتى بعد اغترابه وعنائه، يعد جرما في حق نفسه وحق وطنه. "رب بما أنعمت علي فلن أكون ظهيرا للمجرمين". فقوة الباطل لا تدفع المؤمن للوقوف معه أو السير في ركبه وفلكه، حتى لو خرج الباطل في زينته وظهر في أبهى حلله، وضعف أهل الحق لا يسمح للمؤمن بالتخلي عنهم وخذلانهم لأن ذلك ضعفٌ في التوكل والإيمان بموعود الله.
وإنني لأعجب من مغتربٍ هرب من وطنه نتيجة الظلم والغبن والتهميش يعطي صوته وتزكيته للحزب الحاكم الذي أقام برنامجه السياسي على ظلمه وتهجيره وإهانة ذويه وتفقير بلده، لينتفع ثلة من أبناء النافذين الذين لا يشترون وصفاتهم الطبية إلا من العواصم الأوروبية، ولا يدرسون العلم غير النافع إلا في أرقى الجامعات، ويتركون بقية الشعب تعيش في الأمراض المزمنة والمستشفيات المهملة والمدارس المهترئة. إنه لا ينبغي لحرٍّ أن يقبّل يدا صفعته، ولا ينبغي لشابٍّ متعلم أن يضيع مستقبله المهني في مكايد عجائز الستينيات السياسية وأفكار هياكل تهذيب الجماهير والترغيب والترهيب، فذلك عصرٌ انقضى وولى، وهذا زمن الأجيال الواعية التي تسعى لتصنع مستقبلها بنفسها، لا أجيال الأرقام الغثائية التي تُستعمل ثم تُنسى.
/عبد الرحمن محمد الكوري حمدن