من الترابي إلى الترابية

اثنين, 2016/03/14 - 09:24
أحمد فال بن الدين

في إحدى مساءات الدوحة من عام 2009، كلمني أحد الأصدقاء طالبا مني مصاحبته إلى فندق الشيرتون لمقابلة الشيخ حسن الترابي. وافقت فورا شوقاً لمقابلة رجل يمتلك عقلا فوّارا، وعزيمة فولاذية، وطاقةً لا تخبو. فأنا من المؤمنين أن الزهد في مقابلة الأفذاذ دليل على مواتِ الخاطر وبلادة الحس التاريخي.

دخلنا الغرفة التي كان يجلس فيها نحو العشرة، وكان الرجل -المتوكئُ حينها على سنته السابعة والسبعين- جالسا وسط الجمع بابتسامته الواسعة، وعمته السودانية المهيبة، وصوته الدافئ.

كان يجلس وعن يمينه دفتر يكتب فيها بخط دقيق خواطر بعنوان: التفسير التوحيدي. أخذ الحديث منحى قرآنيا، فتحدث الرجل عن الحاجة إلى نمط من التفسير الجديد يلبي الوحدة المُتلفّفةَ في تضاعيف العقيدة الإسلامية الشاملة لمناحي الحياة، عاصمةً المؤمن من التشظي الوجداني والتشقق النفسي.

كنت أرقب الرجل يتحدث، مفكرا في أنه من تلك الشخصيات المحورية التي يلف الجدل حياتها، ولا يخفت الدويُّ بعد رحيلها. وقد تعززت عندي تلك النظرة أيامي هذه بعد رحيله عن ثمانية وثمانين عاما، وما زال في ريعان القوة وعنفوان العطاء عاملا جادا مبادرا، إلى أن سقط على مكتبه وهو كادح إلى ربه كدحا كما بشر طول حياته.

ولئن اختلف الناس حول إرث الرجل وطبيعة العلاقة بين تنظيره وسلوكه السياسي، فمن الحيف اختلافهم حول كونه عقلا تجريديا جبارا، وسياسيا محترفا ذا قلب حي وروح وثابة، وطاقة متجددة.

فالذي يطالع نظرات الرجل في العقيدة وكيف يخرجها من التقوقع السلبي محوّلا إياها طاقة هائلة تدعو إلى الكدح، يوقنْ أن الترابية ستبقى وإنْ خمد الجسد الترابي.

فعقيدة التوحيد عند الرجل طاقة ملتهبة بين جنبيْ المؤمن تحرره من الركون والسكون، وتمنحه السلطة على الطبيعة ليسخرها لصناعة الحياة. فمبدأ التوحيد يعصم المؤمن “من أن تُتيّمه الطبيعةُ وتدهشه مظاهرُها فيتورعَ عن اقتحامها واستخدامها. كما يُعتقه من إسار المجتمع؛ فيخرج من قوقعة العصبية إلى بَراح الإنسانية، ويحط عن كاهله أوزار التقاليد التي تبطئ بسعيه نحول المثل العليا. وبالتوحيد يخرج كذلك من ذل التعبد للذوات البشرية إلى مقام العزة الفردية حيث يتسنى له الجولان في باحة الفكر الطليق ويفسح لطاقاته الحرية لينجز غاية ما هو ميسور له من العمل الصالح”. (الإيمان: أثره في حياة الإنسان، الدار العربية، 2009، .78)  

والتوحيد يجعل سعي المؤمن كثيفا لتعبده اللهَ عزل وجل بكل حركة وسكون، مما يجعل أفعاله مباركة مضاعفة عكسَ الناس الذاهب سعيُهم فُرُطاً. فالمؤمن “ينبعث في كل وجه من حياته من قاعدة واحدة، ويؤدي أعماله كلها بروح واحدة؛ فيكونَ كل عمل رياضة وتربية لأصل قوته، وتثبيتا لتلك الروح الواحدة. كما تتظاهر وجوهُ سعيِه ويتكامل كدحُه ويعظم بأسُه وأثره في الحياة” (الإيمان، 77).

ونظرة الترابي إلى العقيدة الإسلامية تجعل المؤمن يستشعر الروح المحرابيةَ أنّى عمل وكدح. فباستطاعة المؤمن –بمنهجه التوحيدي- التلذذ بكل لحظة من لحظات فرحه وشقائه، وواجباته وتفكهاته إذا استصحب نية العبودية  والابتلاء. “فصورةُ العبادة لا تجمد في قالب زمنيٍ أو ظرفي، بل يتوخى بها المؤمنون كل منحى يتاح لهم في الحياة المتجددة”. (الإيمان، 76.)

ولعل مما سبق إليه الترابي –وسيبقى- تأكيده على أن الإيمان طريق لاحب من طرق الحرية، وأن الحرية لا معنى لها دون إيمان. فالإيمان هو الذي يجعل المؤمن مقدِما خفيفا منفعلا بمبدأ الحرية النابت بين جنبيه –لإيمانه برب واحد-، “فالعقيدة هي التي تربيه لممارسة الحرية ولتحقيق ثمراتها فلا يقتصر على إحقاق حقه الخاص في الكرامة والمساواة إزاء أرباب القوة والجاه، بل يتحرر من كل خوف يرهبه ويخرج على كل ظرف يدعوه إلى الإحجام عن مجاهداته، وللنكوص دون ما أتاح الله له من فرص الحياة”. (الإيمان، 48)

ولعل من الأفكار البديعة للترابي إعادة اكتشافه لتأسيس التكليف الديني على أساس من الحرية متين. فالحرية “معنى أساسي في اعتبار الدين للإنسان، وذلك أنه مخلوق فاضل على أشياء الكون المشهود –نفخ الله فيه من روحه فأكسبه قدرا من حرية المشيئة بينما ترزح الأشياء في وضع محتوم تحكمها فيه سنة لازمة. وجعل له عقلا وحاسةً مدركِة ليتمكن من تبيّن محيطه وتبصّر عمله، ولتتم له فضيلة الاختيار”. (الإيمان، 106).  وظل الترابي في كل كتاباته يلمح إلى أن إهدار حرية الإنسان فيه نَفَسٌ من إهدار الحكمة المرادة إلهياً من أصل تكوينه. فرعاية حريته “شرط كمالٍ في تحقيق الحكمة الخالدة المقدرة في خلقه”. (الإيمان، 107)

ولعل المسلمين اليوم أحوج ما يكونون إلى العودة إلى فكر الرجل بعد رحيله. فلعل في غياب شخصه الزاحمِ المطفئِ لمنافسيه –سياسيا وفكريا-  كفكفةٌ من غلواء العداء، وإطفاء لروح النقد غير المنصف مما قد يجعلهم يفيدون من فكره وأثره.

ولعل الأخطار والأفكار المُعْتلِجةَ في أرض المسلمين اليوم من طغيان معيق وداعشية خرقاء تجد لها في لفتات الراحل ما يرشد ويهدي.  فقد ردس الرجل العاطفةَ الدينية تاريخيا ونفسيا، وفهِم محامدَها ومخاطرها. لذلك كان يرى أن دين المرء لا يتم “إلا إذا عمِل على هدى من العلم. فالتباسُ الدين مع الجهالة خطر عظيم لأن الطاقات الهائلة التي تفجرها العقيدة في الحياة تصبح عندئذ جهودا عمياء تمضي في سبيل الضلال هدرا، وقوةً خرقاء تطغى على حدود النظام الاجتماعي طوفانا يخرب الحياة من حيث يريد إصلاحها، ويحسبون أنهم مهتدون”. (الإيمان، 31)

وكأن الرجل الذي كتب هذه الأحرف من سجنه عام 1974 يتحدث عن واقع الأمة بعد ذلك بأربعين عاما.

والحديث عن الفكر التوحيدي عند الترابي لا يمكن في عمود محكوم بعدد من الكلمات معلوم. فلعل الله يوفق بعض البَحَثَةِ فيكتبوا عن الحرية أو المنهج التوحيدي عند هذا العقل الفذ الذي أهداه السودان الولودُ لقراء العربية.