
يكثر الحديث في الخطاب السياسي الوطني هذه الأيام عن المفاضلة بين المدني والعسكري من ناحية الكفاءة والقدرة على قيادة الدولة وتسيير شؤون الحكم.
ومع أن الأغلبية الساحقة من تجارب الحكم الحديثة تحسم هذا النقاش لمصلحة الحكم المدني، فإن مجتمعنا بسبب تعاقب الأنظمة العسكرية على حكمه وغياب النماذج المدنية الناجحة - ولمدة أربعة عقود - يحتاج إلى تعميق هذه المقارنة، وتسليط الضوء على الفوارق الجوهرية بين شخصية الحاكم المدني ونظيره العسكري، والخلفية المسيطرة على تصرفات كل منهما؛ وذلك من خلال الفوارق التالية :
- العلاقة الطبيعية بالمجتمع: فالمدني شخص اجتماعي، يعيش في المجتمع ويسمع منه، ويتأثر به ويؤثر فيه، ويطلع على تطلعات الناس ويجد - في الغالب - الوقت الكافي لذلك، وما يزال على "فطرة المجتمع" ؛ فلم يتعرض لتكوين قوي التأثير يخرجه عن نمط تفكير وتطلعات أفراد مجتمعه، وهو أكثر قدرة على فهم آلام شعبه وتفهم آماله.
أما العسكري فقد تكون على نظرة تجعله يشعر بالتميز عن غيره ومفاصلته ومغايرته؛ بل التعالي عليه! لدرجة تجعل من صفة "المدنية" وصفا قدحيا يلمز به كل من يبغي التنقص منه وإظهار دونيته.
ولن أنسى هنا عجبي من أسلوب أحد الشباب في تعامله مع أترابه وقد عاد من تدريبه العسكري الأول؛ حيث كان يقول كلما تهكم أحد أصدقائه على سحفنيته: انظروا إلى هذا المدني كيف يتنقصني!!
ويقول الأستاذ محمدو سالم بن جدو في مقال تحليلي لمذكرات المقدم محمد خونا بن هيدالة: "ﻳﻼﺣﻆ ﺍﻟﻘﺎﺭﺉ ﺑﻮﺿﻮﺡ ﺍﻟﺼﻮﺭﺓ ﺍﻟﻨﻤﻄﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﻨﻈﺮ ﺑﻬﺎ ﺑﻌﺾ ﺍﻟﻀﺒﺎﻁ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﻴﻦ - ﻭﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺩﻭﻧﻴﺔ - ﻓﻲ ﺣﺪﻳﺚ ﺍﻟﺮﺟﻞ ﻋﻦ ﺍﻟﺘﺨﻄﻴﻂ ﻟﻺﻃﺎﺣﺔ ﺑﺎﻟﺮﺋﻴﺲ ﻭﻟﺪ ﺩﺍﺩﺍﻩ؛ ﺣﻴﺚ ﻟﻢ ﻳﺘﺨﻠﺺ ﻣﻦ ﺗﻠﻚ ﺍﻟﻨﻈﺮﺓ ﻫﻮ ﻭﺑﻌﺾ ﺯﻣﻼﺋﻪ ﺣﺘﻰ ﻭﻫﻢ ﻳﺴﻌﻮﻥ ﻻﺣﺘﻼﻝ ﺍﻟﻤﻨﺎﺻﺐ ﺍﻟﻤﺪﻧﻴﺔ !"
فالعسكري أبعد ما يكون من معايشة المجتمع ومسايرة تطلعاته والشعور بأزماته.
ومن نظر إلى المسافة الحقيقية - غير الكرنفالية المفتعلة - بين المواطن من جهة والحاكم المدني والعسكري سيلاحظ الفرق الكبير بينهما.
- الفعل وردة الفعل: فالعسكري بحكم تكوينه وممارسته يشعر - في الغالب - أن دوره هو ردة الفعل فقط ؛ فهو يترصد عدوا متوقع البطش في أي لحظة، وهو قبل ذلك فارغ التفكير من أي فعل منجز، مما يعني غيابا كبيرا للفعل في العقلية العسكرية، وهذه العقلية القائمة على ردات الأفعال لا تصلح لقيادة الأمم والشعوب؛ لأن مؤشر الرقي والانحطاط الأممي لا يتوقف أبدا ؛ فهو إما في صعود أو هبوط سريع أو بطيئ، والعقلية المتجذرة في الذهنية العسكرية القائمة على انتظار الفعل لتأتي بعده ردة الفعل تنعكس جلية على واقع الدولة الموريتانية ، فيشعر المتابع لحركة تطور كثير من جوانبها وكأنها توقفت قبل أربعة عقود!! ومن نظر إلي المؤسسات المركزية في الدولة والمرافق الحيوية فيها مقيسة بتطورها أيام الحكم المدني المؤسس لاحظ ذلك بجلاء ودون كبير عناء.
- الكفاءة العلمية والمعرفة: فالمجال العسكري في العالم الثالث لا يتوجه إليه في الغالب إلا المتعثرون في مسارهم الدراسي، وليست بلادنا استثناء من هذه السمة الغالبة، هذا إن كنا لم ننزل عن ذلك المستوى، وما زلنا نحتفظ بمركزنا في ذيل قائمة دول العالم الثالث وفي عموم المؤشرات التنموية؛ بشرية كانت أو اقتصادية.
فلا يكفي أن يكون الحاكم قويا فقط؛ بل لا بد أن يكون أمينا وحفيظا وعليما، والكفاءة المعرفية داخلة في القوة المطلوبة في الحاكم اليوم.
- في العلاقات الخارجية: يتميز الحاكم المدني عن العسكري بالنظرة الإستراتيجية، وتوسع العلاقات التشاركية مع الأقطاب السياسية والاقتصادية المختلفة، والحرص على استقلال الجمهورية، والتعامل بندية متوازتة مع الجيران والشركاء الدوليين، مما يضمن استقلال القرار الوطني وتمحضه للمصالح الوطنية.
أما العسكري فخلفيته العسكرية تملي عليه أن ينظر إلى "القوى العظمى" على أنها جهة فوقية يتلقى منها الأوامر؛ فيحالف ويوالي مسايرة لها، ويقاطع ويعادي بل ويقاتل!! نيابة عنها، فهو رقم ضئيل في حساباتها الاستراتيجية، تخدم به أهدافها الاقتصادية والسياسية... لا سيما إذا كانت هذه القوة العظمى المستعمر السابق ( الحالي ) للبلاد.
وعلاقة الشمال الإفريقي بفرنسا محكومة بهذا القانون، وهو سر حرصها على وجود صفة العسكرية في قيادات تلك الدول؛ لما تتيح من انضباط وطاعة بين يدي المستعمر السابق.
وفي الوقت نفسه يستأسد الحاكم العسكري على جيرانه وأتراب وطنه ومن يقاسمونه معه الدين والتاريخ والجغرافيا، ويستحضر عند التعامل معهم كل معاني الاستقلال والعزة بالوطنية واستعراض القوة وقوة الإعراض.
وفي الختام فإنه لا يكفي أن يكون النظام مدنيا ليكون نظاما عادلا وديمقراطيا وناجحا بالضرورة!
بل لا بد من كيمياء معقدة ومتنوعة العناصر تؤهله لقيادة المجتمع والأمة، وإن كانت عجلاته على سكة البناء والتنمية، وليست أمامه عقبات بنيوية ذاتية، بخلاف النظام العسكري.
الأستاذ: محمد الامين محمد مولود