في أغسطس من سنة 2020 قررت وزارة التهذيب الوطني والتكوين التقني وإصلاح النظام التعليمي مراجعة عامة للبرامج، وقد كنت من مفتشي مادة التربية الإسلامية الذين كلفوا بهذه المراجعة، وقد واكبتها مواكبة تامة، إلا ما يتعلق بمفردات طلبت وزارة الصحة إدماجها في البرامج، في سياقات تتعلق بالتوعية الصحية حول قضايا معينة.
ملاحظات مبدئية:
- من الأمانة أن نقول إن تلك المراجعة لم تكن ضرورة تربوية، خاصة أن البرامج حديثة عهد بمراجعة 2016، فالمقررات لما تجرب بعد، فضلا عن أن تمنح الفرصة، ناهيك عن أن تقوم، ليعرف أين الخلل والنقص، وأين التميز والإبداع؟ وقد عبر المفتشون عن ذلك خير تعبير، لكن إرادة القائمين على الشأن كانت ترى المراجعة تمهيدا لما تصفه بإصلاح تعتزم القيام به وهو الذي نظمت حوله الأيام التشاورية لاحقا سنة 2021 وشملت جميع المواد.
- كان مجمل المنتدبين للمهمة من خيرة المفتشين من مختلف الأقطاب، إضافة إلى ممثلين عن المدرسة العليا للتعليم والمعهد التربوي الوطني ووزارة التوجيه الإسلامي.
- انطلق المراجعون من أسس فنية تتماشى والمقاربة الشمولية التي جاءت المراجعة في سياقها، وسأفرد هذه الأسس بفقرة خاصة.
- لم أشعر بأي ضغط ولا توجيه من أي نوع بهدف حذف أو إضافة موضوع ما، وحين أقول لم أشعر فإنني أتحدث عن ظاهر مجريات النقاش، وعن باطن نفسي من قبيل معرفة المرء بنفسه، وعن حقيقة الفريق لما أعرف في أغلبهم من العلم والاستقامة والحرص على الدين.
- لا شك أن تقرير موضوع فيه ضرر، أو إلغاء موضوع فيه نفع، استجابة لضغط خارجي هو مذلة ومهانة في الأمور الدنيوية، أما في الأمور الدينية، فهو زيادة على ذلك خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.
- كذلك فإن الامتناع عن فعل تتضح وجهاته وتبرز مصلحته، خوفا من عدم استيعاب العامة، أو جمود بعض الناس على المألوف، أو خيفة تأويلات متعسفة، هو كذلك ضعف وعدم تحمل للمسؤولية، وكما قال المتنبي:
ومن ينفق الساعات في جمع ماله مخافة فقر فالذي فعل الفقر
وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: "إن ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك".
أسس المراجعة:
انطلق الفريق من جملة أسس من أهمها:
- ملاءمة المناهج مع مستوى وميول المتعلمين عمريا وعقليا، ومع حاجات بيئاتهم ومجتمعاتهم السياقية؛ لأن ذلك يعد عنصرا مهما في نجاح العملية التربوية، وهكذا روعيت الأولويات، وحرص على ما يكسب المهارات، ويقوم السلوك، ويهيئ للحياة النشطة، لتكون المراجعة في المستوى.
ـ سياقية البرنامج، وذلك بإضافة موضوعات ومضامين ترتبط بالواقع المعيش كالمعاملات المصرفية والتأمين والإجارة المنتهية بالتمليك والصلاة في الطائرة... فقد كانت من المقررات ما هو في واد والواقع في واد.
- منح الفرصة للأنشطة الموازية اللازمة لتنمية المهارات وتقويم السلوك والتعليم الميداني النشط؛ كزيارة المساجد والأسواق والمصانع والمخابر، وتنظيم المباريات العلمية؛ وهكذا خصص نحو 25% من وقت المادة لهذه الأنشطة.
- مراعاة المستويات، إذ من المكابرة أن نظل نلزم تلميذ اليوم، بما كان يناسب تلميذا قادما من المحضرة في سبعينيات أو ثمانينيات القرن الماضي. وهنا تجدر الإشارة إلى أننا نتحدث عن أبناء موريتانيا جميعا، لا عن فئة معينة، وتلك خاصية مهمة من خصائص المدرسة، وهو ما لا يفهمه الذين ينطلقون في تقويم البرامج من ذواتهم وبيئاتهم، فلا يستوعبون أبدا أن يكون في سورة المائدة صعوبة وتحليق، متجاهلين أن رجال التعليم يعانون الأمرين في تحفيظ بعض قصار المفصل فضلا عن غيره في بيئات عريضة من هذا المجتمع، وفي مستويات تعليمية يفترض أنها متقدمة!!!.
أبرز التغييرات
كانت التغييرات في المرحلة الإعدادية محدودة، فسور مادة القرآن فيها من المفصل المعمق للعقيدة، المرسخ للآداب، البالغ المواعظ، وهو قريب من بيئة عموم التلاميذ، كما أن فقه المرحلة عموما فقه عبادات بما في ذلك الجهاد، وفقه أنكحة وأصول البيوع.
أما في الثانوية فكانت التغييرات عميقة على مستوى مادة الفقه، فأدخل في البرنامج لأول مرة الفقه الحي المعيش (الماء المستصلح، تأثير المستحضرات الطبية على الطهارة - الصلاة في الطائرة - حكم الاقتداء بالمسمع ...) (زكاة النقود المعاصرة، -أحكام زكاة الأصول المستغلة- مصارف الزكاة في العصر الحديث) (أمثلة مما يفطر وما لا يفطر من المستجدات الحديثة) (الخدمات المصرفية- المرابحة للآمر بالشراء -الحوالة المصرفية -الاستصناع - التأمين الشرعي وغير الشرعي -الشركة أنواعها وأحكامها)
وعلى مستوى مادة القرآن الكريم نوقشت سورة المائدة، ووصفت بأنها متقدمة جدا في ترتيب المصحف مما يعني جدتها مطلقا على أغلب التلاميذ، وطويلة (أكثر من حزبين) إضافة إلى كثافة محتواها لغير المختصين، مما يجعل حفظها صعبا على التلاميذ فضلا عن استيعابها.
واستحضر الفريق خصوصية هذه السورة من حيث ما ورد فيها عن اليهود خاصة، وما فيها من الولاء والبراء، وضرورة بقاء هذه المواضيع في المقرر، في ظل الضغط الغربي المعروف في هذا المجال.
وهنا يجب أن ننبه إلى أمرين:
- أن المفاضلة بين القرآن محل خلاف بين أهل العلم، فمنعها كثير منهم، ومنهم من جوزها، وهكذا تكون المفاضلة بين مواضع من القرآن ومواضع أخرى مغامرة، ينبغي التحرز منها ما أمكن.
- أنه ما من سورة من القرآن إلا ولها خصوصية وبها فوائد يعز أن توجد مكتملة في غيرها.
رغم ذلك فقد اجتهد الفريق في أن يأتي بسور يكون فيها من الفوائد والمواعظ والقصص والأحكام ما يضارع ما في سورة المائدة، مما يكون أقرب إلى واقع التلميذ أسهل عليه، فقرروا أن يأتوا بسبع سور كلها من المفصل هي: سورة المنافقون وما أحوجنا إلى معرفة صفات المنافقين، وفيها مواعظ وحث على الصدقة، وسورة الطلاق وما أحوج من هم على عتبة الشباب إلى أن يعرفوا أسس بناء البيت الشرعي، وسورة المجادلة وفيها أحكام الظهار والنجوى والمجالس والولاء والبراء {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وسورة الحشر التي كان يسميها ابن عباس سورة بني النضير والتي نصت على كفر أهل الكتاب وكشفت العلاقة الوطيدة ما بين المنافقين واليهود، كما غاصت أبعد الغوص في نفسيات اليهود {لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14} وسورة الممتحنة التي يمكن اعتبارها سورة الولاء والبراء بدء من مفتتحها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)} ومرورا ببراءة القدوة إبراهيم أبي الأنبياء من قومه {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)} مع بيان حدود العلاقات الدولية: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)} إلى مختتمها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)} وسورة محمد التي تسمى أيضا سورة القتال والتي استعرضت من بين ما استعرضت فنيات القتال المبينة ما أعد الله للمجاهدين في سبيله { فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7)} وسورة الأحقاف التي تحدثت عن أمور كثيرة منها الاستقامة وبر الوالدين وبعض قصص الأنبياء وتأييد النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك الأوقات بنفر من الجن يستمعون القرآن، إلى غير ذلك مما لا يخفى على الناظر.
والخلاصة أن ما حدث هو اجتهاد من الفريق لأغراض تربوية خالصة، فإن يكن صوابا فمن الله جل جلاله، وإن يكن خطأ فلعل ذنوب بعض الفريق مثلي، طغت على بركات غيره، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.