الدّاعية الملهم محمد أحمد الرّاشد.. رائد التّجديد

أربعاء, 2024/09/04 - 20:44

من المظاهر الطّاغية في زمننا المعاصر ظاهرة ابتذال المصطلحات الشّرعية، وظاهرة تفخيم الألقاب، وظاهرة إطلاق التزّكيات والأوصاف، حتى صار عندنا قائمة طويلة الذيول للمجددين، ومجموعة كبيرة من أسود السنة، وعدد لا بأس به من الأئمة المجتهدين … إلخ، والحقّ أن قيمة التزكية أو الوصف أو الشهادة إنما هي بقدر من أطلقها وليس بفخامة ألفاظها، فحين يُحلّي الأئمة الكبارُ الشَّيخَ الإمام العالم الحافظ أبا الفضل محمد بن ناصر بن محمد بن علي السَّلَاميّ رحمه الله بناصر ‌السُّنة، فهذه شهادة كبيرة كِبر الأئمة الذين ترجموا له، وشرفٌ للإمام السّلاميّ وإن كان يجهله أكثر طلبة العلم. ثمّ علمُ وعملُ ومكانةُ من قيل فيه ذلك يؤكّد أحقية الوصف واللقب، ولكنّنا في زمن صار كلّ معجب بشيخه يعليه لمقام التّجديد والاجتهاد، ولو كان منتهى ما قدّمه مجموعة كتب ومحاضرات ودروس عادية لا جدة فيها ولا تميز ولا إبداع!، أمّا بالنسبة للأستاذ الراشد رحمه الله فقد اتفق عامة علماء العصر ودعاته على تميّزه، وأقروا بقيمة إبداعه، وجليل إسهامه في تجديد فقه الدعوة، وكتبه الممزة خير دليل وأفكاره الإبداعية أكبر شاهد على ذلك.

 

لست في مقام الترجمة للأستاذ رحمه الله، ولا أحبذ الخواطر التي تتكلم على الذكريات معه، وعن الانطباعات وأول لقاء، وكيفية التعرف عليه، واكتشافه كاتبا وعالما وداعية، بله نشر الصور معه، مع أنّ هذه الأمور قد تكون مفيدة عند بعضهم ويحبذها آخرون، وإنّما الذي أراه مهما بحقّ هو التراث الفكري الذي خلفه، والنظر العلمي الذي ورثه، والأفق التجديدي الذي بلغه، فهذا الذي ينفع وهذه هي الاستفادة الحقيقية من الشيخ الداعية الفقيد ومن كلّ المشايخ والأئمة والعلماء والدعاة رحمهم الله أجمعين؛ لذا سأحاول رسم الخطوط العامة وبيان المعالم الكبرى للسّعي التّجديدي والنّظر الإبداعي الذي أتحفنا به الأستاذ الراشد رحمه الله، بحسب ما يسمح به المقام وحيز هذه الورقة المتواضعة، ملخصا لها في نقاط. وقبل ذلك لا بأس أن أقرر أمرين:

 

الأول: هناك حساسية كبيرة للنقد عند عامة التنظيمات الإسلامية، وخاصة في العقود الأخيرة، حين تراجع مستوى قيادات هذه التنظيمات، وتسرب إلى صفوفها القيادية المتقدمة محدودو المواهب والإنجازات، فقد زادت شدة هذه الحساسية تجاه النقد ومن يقترفه، ووصل الأمر إلى ظاهرة الخوف من النقد (النقدفوبيا)، وكلّ عاقل يعلم أن غياب النقد أو ضعفه واتخاذ موقف سلبي منه يؤدي لا محالة إلى تكريس الضعف وتجذر الاختلالات، وإنّي أجزم أن الأستاذ الراشد رحمه الله تعالى ما كان ليرتقي ذاك المقام العالي في ترشيد العمل الإسلاميّ لولا روحه الناقدة، وممارسته الجادة للنقد، هذا ما فتح له مجال التجديد ومجال التطوير ومجال الترشيد، فقد دخل كلّ هذه المجالات من باب التنقيد، وقد أومأ إلى ذلك إيماءة ظريفة حين جعل أول عنوان لكتابه ((المسار)): وميض النقد!.

الثاني: أرى أن نظرة الأستاذ الراشد الكلية للعمل الدّعويّ هي مكتنزة في رسالته الفذة ((صناعة الحياة))، فهي كالمتن لنظريته العامة لتطوير وتجديد العمل الدعويّ، وكتبه الأخرى هي كالشرح لهذا المتن المبارك، حتى ما سبقها من الكتب هو يشرح فقرة من فقراتها أو فصلا من فصولها، وما شذّ ما كتبه عن ذلك إلاّ ما كان له داع خاص أو ضرورة ظرفية.

1 – من الفهم الشّامل للإسلام إلى النّظرة الحضارية الكلية: مواصلة لطريق الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله الذي جعل أصل شمول الإسلام الأصلَ الأول للدعوة الإسلامية في العصر الحاضر، ارتقى الأستاذ الراشد بهذا النظر الشمولي إلى نظرة حضارية كلية، وسعت المعنى وأعطته آفاقا أرحب، حيث أن الإمام البنا كان يواجه تشويها للإسلام بقصه من جوانبه، وحصره في الروحيات والتعبديات بضغط من الاستعمار وخدمته من التغريبين من بني جلدتنا، أما الأستاذ الراشد فقد عاش مرحلة اشتداد صراع الحضارات وتطور الصراع الفكري في البلدان المستعمرة، كما عايش انتكاسات للحركات الإسلامية في مناطق عدة، وهذا دعاه لصياغة فهم شامل للإسلام والتحرك لنصره ونشره دعويا في إطار النظر الحضاري الكليّ، ولخص نظريته هاته في كتابه المنوه به سابقا ((صناعة الحياة))، يقول في مقدمته: «و(نظرية صناعة الحياة) دعوة لمراجعة الرصيد والجري مع الفهم الجديد … نزولا إلى الساحة بأفق حضاريّ شامل، فيه إصلاح للأدب، وبناء للاقتصاد، وحيازة للمال، وسيطرة على العلوم، ونفاذ إلى مركز القوة في كل قطر على مدى عالميّ». [صناعة الحياة، ص 10 – 12].

2 – من فقه الدعوة العام إلى التنظير لفقه الدّعوة: فقد جهد أن ينتقل بفقه الدعوة من مستوى العموميات وإسهامات الشتات إلى لملمته في نظريات متناسقة الأركان، ولم يقتصر الأمر على نظرية صناعة الحياة، بل نجده في كتابه ((أصول الإفتاء)) يحرّر النظريات الآتية من منظور دعويّ: نظرية حقّ الدّعوة – نظرية التنظيم الدعوي – نظرية الإمارة الدعوية – نظرية الشورى – نظرية الشروط العامة للتوثيق – نظرية المداراة التربوية – نظرية تمييز الفتن – النظرية المالية الدعوية – النظرية العامة في الإغاثة – النظرية العامة في الفكر السياسي الإسلامي – النظرية العامة في الجهاد والقتال – النظرية العامة في الهدنة والصلح – النظرية العامة في الحلف والاستعانة. وله رسالة لطيفة عنونها بــ ((تنظير التغيير: النظرية التكاملية للتغيير السياسي الإسلامي))، وهذه العناوين وحدها تنادي بروح التنظير عند الأستاذ ولا أعرف غيره أسهم بمثل هذا الإسهام في التنظير لفقه الدعوة.

 

3 – المنهجية والتّخطيط والرؤية الاستراتيجية يقوم عليهما نجاح المشروع الإسلامي: كما أعطى الأستاذ التنظير الدعوي حقّه، فقد أولى التخطيط والمنهجية في الفكر والعمل والرؤية الاستراتيجية أهمية كبرى، وهذا ما يغيب عن كثير من الدعاة والعلماء المعاصرين، فلا يعطون هذه المفاهيم الخطيرة حقّها، غافلين عن أن أعداء الأمة يعملون بمنهجية وفق خطط برؤية استراتيجية، يقول رحمه الله: «إذ الكافر يفعل ما يوازي فعلنا، وينطلق أيضا من نظرية هادفة وتخطيط، ويضع هندسة مغايرة، وحين تكون الخطة الإسلامية واسعة وشاملة فإن التأثير يتعدى توجيه الجيل الواحد، أو استثمار حفنة أموال؛ ليكون تأثيرا (حضاريّا) يمتد إلى أجيال، ويضرب في عمق الزمن ورحابة المكان» [صناعة الحياة، ص 12]. ثمّ نقرأ في عناوين كتبه: منهجية التربية الدعوية – رؤى تخطيطية – الاستنباط الاستراتيجي. وهي شاهدة على هذا المعلم من فكر الأستاذ واهتمامه الخاص به.

4 – التّجديد الدّائم والتّطوير المستمر: لا أبالغ حين أقول: إنّ هم التّجديد والتّطوير هو الهم الدّائم الذي كان يعيش به الأستاذ الراشد عليه شآبيب الرحمة، ولا يقارب في عدد الذكر في معجمه الدّعويّ الخاص لكلمة تطوير وتجديد إلاّ تخطيط ومنهجية وحركة الحياة، فقد كان يعيش للتّطوير والتّجديد، ويراهما ضرورة واقعية تفرضها حركة الحياة، ويدعو إلى ممارسة التربية التطويرية والتدريب الإبداعي والإداري بشكل مكثف، يقول رحمه الله بعد كلامه على بعض الظّواهر الحياتية: «وأمرٌ كهذا يدفعنا إلى أن نطور خطتنا ومفاهيمنا في العمل بما يناسب هذه الحقائق والظواهر»، [منهجية التربية الدعوية، ص 372]، وقد دبّج يراعه رسالة لطيفة من رسائل العين جعلها دعوة للتطوير ((معا نتطور)) زيادة على دعواته المتكررة المبثوتة في كلّ كتبه وأبحاثه. وهو يرى أن هذا واجب كلّ عامل للإسلام من قادة وعموم الدعاة حتى قال رحمه الله: «والداعية العصري، والمسلم الحضاري محرك الحياة، نقول له ما اسمك؟، وينبغي أن يجيب: تطوير!» [الاستنباط الاستراتيجي، ص 3].

5 – إمساكٌ بزمام الحياة وفقه حركتها: يقول الأستاذ رحمه الله ملخصا فحوى نظرية صناعة الحياة: «قد نستطيع إيجاز الأمر بسؤال: كيف نمسك بزمام الحياة؟ … يكون حين يعرف دعاة الإسلام كيف يكون علوهم على تيار الحياة ليمسكوا بزمامه .. وليس هو السير في خضم هذا التيار بحيث تتقاذفنا أمواجه وينعدم اختيارنا، كما أنه ليس السير في معاكسة هذا التيار الهادر بحيث يجرفنا بزخمه، وإنما هو الجري معه بمستوى التفوق والعلو والاستواء» [صناعة الحياة، ص 13]، وهذه نظرة غير تقليدية، إذ عامة العلماء والدعاة يرون عملهم يقتصر على دعوة المسلمين للرجوع إلى دينهم، ولكن الرؤية عند الأستاذ عالية الوضوح سامية الهدف: الإمساك بزمام الحياة تحقيقًا لخيرية الأمة، ولن يكون ذلك إلاّ بفهم حركة الحياة، وفي سبيل بيان ذلك للدعاة طرق الأستاذ مواضيع لا يخطر على بال كثير من الدعاة علاقتها بالدعوة، ولكن ضمنها مشروعه الأساسي الذي أطلق عليه (إحياء فقه الدعوة)، وجعل من مكوناته رسائل في سلسلة سماها: سلسلة استراتيجيات الحركة الحيوية؛ لإدراكه أنّ تحريك الحياة مادام في يد غير المسلمين فمن الصعب أو المستحيل أن نحقق المشروع الإسلامي في دنيا الناس، فلا جرم أن يكون تحريك الحياة مقصدا من مقاصد الدعاة، يقول عليه شآبيب الرحمة والرضوان: «والداعية العصري، والمسلم الحضاري محرك الحياة، نقول له .. ماذا تقصد فيحدد جازما: تحريك الحياة، وما وسائلك؟، فيشرح: منهجية، وإبداع، وبرمجة، وعلم استراتيجيّ، وامزج كلّ ذلك بالإيمان وفقه الشرع، ثمّ انتظر رحمة الله وأقداره الخيرية» [الاستنباط الاستراتيجي، ص 3].

6 – تجديد أضاء (مناطق الظّلّ) الحيوية: هناك مناطق ظلّ حيوية قصرت جهود الحركة الإسلامية المعاصرة عن بلوغها لأسباب كثيرة ليس هذا مقام بحثها، وبقيت الجهود المبذولة فيها محتشمة جدا، ومن إبداع الأستاذ ونظرته المتكاملة أن أضاء مناطق الظلّ هذه بسراج فكره الوهاج، ونبه الدعاة إلى أنّ الحياة كتلة واحدة، ولن يمسك بزمامها إلّا من أحاط بجوانبها كلّها؛ لذا وجدناه يلهج بالجمال والتربية الجمالية، والفن والتربية الفنية، ويتكلم على العمارة الدعوية في مؤلف ضخم تجاوزت صفحاته الــ 700 صفحة!، بل وجدناه يقول: «وهو الجمال في أبعاده المطلقة المتنوعة، وإنما الفن والتجريد والعمارة أفق واحد من آفاقه العديدة» [الاستدراك الواعي، ص 14]، وبربك قل لي: مَن مِن الدعاة والمفكرين خطر له خاطر أنّ فن العمارة له إسهامه في البناء الحضاري للدعوة أولا وللأمة ثانيا، بله أن يؤلف فيه كتابا كاملا يبسط فيه الكلام على عمارة دعوية هي رمز للنظرة التكاملية الشاملة، واللمسة الجمالية لدى أستاذ الدعاة الراشد رحمه الله.

7 – التّحذير من الفتن ونقد الواقع الدّعوي: كما أسلفت أصيب الكثير من الإسلاميين بالنقدفوبيا، فصار خوض غمار النقد محرجا لكثير منهم، والمفارقة أنّ الواقع الإسلامي لا يخلو من فتن تسبب اختلالات للأفراد وللتنظيمات على حد سواء، ناهيك عن كون العمل الإسلامي ما هو إلاّ عمل بشري يشوبه من القصور ما يشوب أي عمل بشري آخر، كما أن الإسلاميين ما هم إلاّ بشر يغلبهم نقص فطري ظاهر، ومع ذلك يخفت صوت النقد خوف الضغوط، ويخفت الكلام على الفتن رغم أنّها مدوية في أكثر الأحيان، والأستاذ الراشد بوعيه الثاقب علم خطورة الفتن بقدر علمه بأهمية النقد لتقويم مسار الحركة الإسلامية وترشيد الصحوة، وقد أبدع ما شاء الله له أن يبدع في هذا الباب في رسائل العين: رسالة فضائح الفتن، رسالة تقرير ميداني، (رسالة تقويم الذات، رسالة التقويم الدعوي: هاتان كتبهما الأستاذ عادل الشويخ وارتضاهما الأستاذ الراشد رحمهما الله). لأنّ بيان هذا الموضوع هو حفظ للصحوة الإسلامية من حيث العدم كما أن التخطيط والإبداع والتجديد والتطوير هو حفظ لها من حيث الوجود بتعبير المقاصديين.

ختاما: الأمل الكبير والطّريق اللاحب: هذه الكلمة المختصرة لا توفي فقه وفكر الأستاذ حقه بل هي ومضة لا غير، ولم يستوعب أحد فكره وفقهه إلاّ بالقراءة الجادة لكتبه أو لأهمها على الأقل، وما رقمته هو جهد المقل، وإذ بلغت الختام أحببت أن أختم بروح التفاؤل والأمل والثقة الكبيرة في الله التي عاش بها الأستاذ ومات عليها رحمه الله تعالى إذ يقول: «وأنا مؤمن وإلى درجة اليقين أنّ الجيل الإسلامي الحاضر، العرب والأعاجم منه سيرى النصر والتمكين على الرغم من نواقص كثيرة تعتريه ..» [تنظير التغيير، ص 4]، :».. فالدّعوة ما تزال بخير والحمد لله، وإنجازاتها كثيرة، ولكن الحياة تزداد تعقيداً، وغزو الأفكار والتربيات الجاهلية أصبح مضاعفاً، ولا بد لنا أن نتطور بما يوازي الأحوال المستجد»، [مرَح الفطرة، ص 23] ، وأول خطوة في هذا الطريق هي التقويم والنقد، «ودعاة الإسلام اليوم مدعوون أكثر من أي عهد مضى للتفكير الملي والجدي فيما هم فيه وعليه، ومراجعة أنفسهم وتقويم مسيرتهم»، [رسالة الريادة ضمن مجموعة رسائل العين، ص 503].

الدكتور يوسف نواسة

*أكاديمي وباحث ، وإمام متطوع .له عديد الإصدارات العلمية والدينية .