شنقيط أو شنقيطي هي حاضرة الصحراء الأسطورية، والمدينة التاريخية المدهشة، التي حملت البلاد اسمها ردحا طويلا من الزمن، وما تزال إلى يومنا هذا- رغم عاديات الزمن- درة محفوظة بين الكثبان الذهبية وفي متون وأسفار التراث والمخطوطات.. وستبقى شنقيط إلى الأبد ترنيمة عذبة، ولوحة جميلة تلهج بذكر مآثرها ومحاسنها الألسن والشفاه..
شنقيط هي رمز لتاريخ أمة عريقة، تروم المعالي والنهوض والنماء.. وهي سجل ناطق بثقافة وأصالة وأمجاد هذه البلاد وأهلها.. صنفتها اليونسكو في سجل التراث الثقافي الإنساني، وأطلق عليها سياح غربيون لقب "جامعة السوريون الصحراء".. ولكن تبقى شنقيط-التي خاطب منها فخامة رئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني، الشعب الموريتاني اليوم، مفتتحا النسخة ال 13 لمهرجان مدائن التراث- فيضا دافقا بالقيم والمعاني اللامتناهية، داعيا إلى ترميم وحدة هذا الشعب وتعزيز لحمة وانسجام هذه البلاد بتنوعها وثرائها الثقافي الجميل..
تتوهج شنقيط في هذه الليلة تحت أضواء و على أنغام سهرة مدائن التراث الحالمة.. لكن المكان هادئ وكأن المدينة على كوكب آخر.. وجمال الصمت الأسطوري في الصحراء.. لا يقطعه سوى تردد الآذان من صومعة المسجد العتيق الصامدة.. أو تلك الأصداء الخافتة التي تحملها من حين لآخر، نسمات المساء الباردة.. تلاوة آيات من القرآن العظيم، أو أدعية وابتهالات في عتمة السحر، أو قرع طبل ربما يأتي من إحدى حلقات المديح النبوي، التي تكثر في الواحات، خاصة في الأماسي، بعد أن يستريح عمال بساتين النخيل من مشاغلهم اليومية، فيتنادون إلى إنعاش سهرات المديح التي تستقطب على حد سواء كلا من السكان المحليين والزوار.
في هذه الربوع، تعزف الرياح ألحانا شجية على أديم أرض قاحلة، مخضبة بلون معدني غامق، وقد أحرقتها أشعة الشمس عبر أزمنة تقدر بملايين السنين، مضفية عليها مزيدا من الشحوب والكآبة. لكن، وحيثما يبدو للرائي بأن كل ما في المكان موات، تنبثق الحياة في لحظة ما، من رحم الصحراء.. وفي غمرة توهج ذلك المشهد الذي طالما ظل محيرا، تتراءى لك زهرة المدائن شنقيط..
في "آدرار" الموريتاني، تفرض الصحراء على الزائر مثل هذا الشعور بالتناقضات الصارخة، بين الموت والحياة، بين الجفاف والجمال.. بين الفراغ والإحتباس، بين التقشف والابتهاج، بين تعالي السماء وانسحاق الأرض.
إنها مفارقات الصحراء، التي منحت الإنسان فيها منذ القدم، قدرة فائقة على النظر مباشرة إلى الكون بدون حجب. تلك النظرة التي جعلته دائما ينتهي إلى إدراك عميق لمحدودية كليهما، الرائي والمرئي.. وهي تذكره دائما بحقيقتهما الزائلة..
هنا في الصحراء، نشأت علاقة لا يشوبها قذى بين الإنسان وطبيعة قاحلة، تحكمها قوانين صارمة، لكنها تبقى فضاء عامرا بطاقة روحانية هائلة.. ومكانا مشرعا للتواصل بين الأرض والسماء. فيها يكون الإنسان عند أقرب نقطة إلى الملكوت المطلق. وليس من باب الصدفة أن كل الرسالات السماوية والتجليات الربانية كان مسرحها دائما في مكان ما من الصحراء.
"آدرار" الموريتاني الذي تختزنه شنقيط اليوم، هو في الحقيقة، منجم مفتوح من كنوز الثقافة والفن والتراث.. وهو معرض بلا حدود لفن النقش على الصخور والمنحوتات القديمة. هنا، كل رياح قد تهب مبعثرة حبات الرمل الناعمة، أو ناقلة الكثبان الذهبية من مكان لآخر، قد تجعلك تكتشف مواقع لحياة قديمة، وشواهد عليها ما تزال ماثلة للعيان.
"آدرار" الموريتاني كتاب مفتوح، يمثل التاريخ الحقيقي للمنطقة وللبلاد برمتها.. كل شيء مدون بالرسم والنقش على الحجارة والصخور. إنه أرشيف تراثي ضخم وثمين ولكنه هش. وتتضافر اليوم ضد بقاءه عدة عوامل يأتي في مقدمتها الإهمال، والتعرية والضياع والنهب، إذا لم تقف الأمة كلها من أجل صيانته وتثمينه.
هنا، يكتشف الزوار على كل جرف، وفي كل كهف، أعمال أولئك الفنانين القدامى،الذين عاشوا في المنطقة منذ أزمنة غابرة. لقد خلدوا مفردات حياتهم اليومية، وأفكارهم ومشاعرهم المختلفة في سجل مرقوم. فقاموا بنقش تلك الإبداعات على الجرانيت والحجر الرملي في الكهوف والمغارات، لتبقى نتوءات بارزة، محفورة على تلافيف ذاكرة تستعصي على النسيان. وهنا في ليلة اكتمال بدرها، تقف شنقيط مزهوة بأمجادها، لتظل خالدة في عيون وقلوب الموريتانيين والعالم..