لم تتشابه نهاية حياة مع بدايتها كما تشابهت بداية حياة يحيى إبراهيم حسن السنوار (1962-2024م) وختامها البطولي، في مشهد أراد له الأعداء أن يكون مذلا فكان إلهاما عابرا للأمم والثقافات، فمشهد عصا السنوار التي ألقى في وجه الطائرة المسيرة قرأه كل أحد من زاوية مختلفة ملؤها الإكبار والإجلال لشجاعة الرجل وملحمية حياته.
والمشهد عند من درس تفاصيل حياة السنوار تعبير فصيح عن قصة حياته القائمة على المقاومة الشاملة، منطلقا من الإجابات عن أسئلة الإمكان وفلسفة الاستطاعة حسب الزمان والمكان والسياق، فرمي السنوار للعصا معبر عن شخصيته المتصفة بالشجاعة الأسطورية[1]، كما أنه معبر عن فلسفته في أن الإنسان المقاوم مطالب بالقيام بما يستطيع، وأن عليه التقدم خطوة إلى الأمام كل لحظة.
القيام بالمستطاع وفق السياق هو ما طبع حياة السنوار في كل مراحلها، فكان فنانا ممثلا وخطاطا محترفا وناشطا طلابيا وبنَاء للبيوت والمساجد، ومؤسسا لجهاز مجد الأمني يلاحق العملاء، ومثقفا للأسرى ومدرسا لهم اللغات ومبادئ العلوم الأمنية والسياسية في السجون، وموثقا للسردية الفلسطينية في الزنازين بكتب وروايات، وفي هذه الدراسة نتوقف مع ظاهرة اهتمام الشهيد المشتبك يحيى السنوار بأدب الحرية وتوثيق السردية في السجون من خلال كتيب له لم يشتهر عن أحد الأسرى.
حين قرأت أول مرة الكتيب الذي خصه السنوار لسيرة الفارس الشاب أشرف البعلوجي (1970-) وهو شاب أحيى مع صديقه الشهيد مروان الزائغ (1973-1992م) ذكرى انطلاق حركة حماس الثالثة بعملية بطولية، استوقفتني بادئ ذي بدء عدة أمور، أولها؛ اهتمام السنوار -وهو في عزل انفرادي- بكتابة أخبار شاب قام بعملية عسكرية، فأرجعتُ ذلك في البداية إلى رمزية العملية والتاريخ الذي جاءت فيه، فهي عملية أعطت لحماس زخما شعبيا كبيرا[2]، وهو الزخم الذي ظل يصاحب الحركة وأعمالها العسكرية حتى صارت سيدة الجهاد في أكناف بيت المقدس.
والأمر الثاني: هو إصرار السنوار على كتابة هذا الكتيب رغم ما يدفعه السجناء جراء كتاباتهم من أثمان باهظة أقلها العزل الانفرادي لفترات طويلة، والضرب المبرح ومصادرة الكتب والأوراق والأقلام، والثالث: أن السنوار ذكر في الكتيب عزمه على توثيق كل الأعمال الجهادية والبطولية التي قام بها شباب حماس، والرابع: دعوته غيره من القادة والكتاب لتوثيق أخبار العمليات والسير الجهادية التي رووها عن أصحابها.
والخامس: الخاتمة الاعتذارية التي وجه فيها اعتذاره لأربعة، أولهم: شيخه الشيخ أحمد ياسين "أستاذ الفرسان ورائدهم"، فهو يرى أنه قصر في واجبه، فلم يكن السنوار راضيا عن القدر الذي ذكر عن شيخه في بداية الكتيب، فربما كان يود أن يخصه بكتاب كامل، وهو جدير بذلك في سياق الحديث عن الفرسان، والثاني: "لكل كتيبة جند الفرسان" مخافة أن يكون قلمه عجز عن "التعبير عن مشاعرهم وأحاسيسهم وأفكارهم".
والثالث: للشاب أشرف الذي كتب سيرته رغما عنه، وبعد كتابتها كان يلح بعدم نشرها خوف نقص الأجر، والاعتذار الرابع: كان للفارس مروان رفيق أشرف في العملية البطولية، مؤملا "أن يلقاه قريبا تحت الراية الربانية الغراء راية الحماس، في ساحات الشرف والكرامة"، ليسطر عنه حلقة أخرى من حلقات الفرسان.
إصرار السنوار على تخليد سيرة هذا الشاب الفارس يكشف لنا عن وعيه المبكر بأهمية توثيق تاريخ المقاومة وتخليد بطولات شباب حركته الناشئة إذ قد أكمل كتابة هذه السيرة الطريفة يوم 9 يونيو 1992 في سجن الرملة قسم العزل-حماس الثانية بعد منتصف الليل.
نما الوعي بأهمية السردية عند السنوار بقوة في السنوات اللاحقة حتى كتب بنفسه تجربته في جهاز مجد بطريقة نقدية، وسماه "حماس التجربة والخطأ"، ثم طور حرصه على توثيق السردية إلى كتابة رواية تاريخية "الشوك والقرنفل" عن السردية الفلسطينية كلها مشفوعة بسيرته الشخصية في قالب روائي لا يخلو من ذكاء وإبداع.
اعتقدت أول الأمر أن حرص السنوار على توثيق السردية الفلسطينية راجع إلى هواية خاصة تتعلق بتخصصه الأدبي، وإدراكه لأهمية الرواية في صراع الوعي مع الاحتلال الصهيوني، لكني بعد استقصاء أخباره ورؤاه أسعفني الأسير المحرر شادي الشرفا[3]، بمعلومة عفوية أفهمتني سر إصراره على التوثيق وتخليد المآثر البطولية.
فقد ذكر شادي أن السنوار كان يتابع "العديد من الروايات الفلسطينية التي كتبت في السجون ويدققها لغويا وينقحها"[4]، وأشار إلى أنه كان "يتألم لغياب رؤية فلسطينية استراتيجية للتحرير"[5]، وهذا يفيد أن التوثيق الذي اهتم به السنوار شخصيا وشجع غيره على القيام به يأتي في إطار رؤيته الشاملة للتحرير، كما تفسر لنا هذه المعلومة سر ظاهرة انتشار توثيق تاريخ المقاومة في مختلف مناطق فلسطين، وهي ظاهرة منتشرة جدا لا سيما في صفوف حركة حماس[6]، وهو أدب فريد يسميه الفلسطينيون "أدب الحرية"[7] بدل الاسم الشائع "أدب السجون".
رعاية السنوار لأدب الحرية إنشاء وإشرافا يرجع عندي إلى ملامح في شخصيته؛ الأول: تكوينه الأدبي، فهو خريج اللغة العربية وآدابها، وعرف عنه شغفه بالأدب العربي شعرا ونثرا، والثاني: ما أسلفنا عن وعيه بأهمية السردية الفلسطينية، والثالث: هو البعد الأمني في شخصيته، فكتابة أدب الحرية في السجون والمحافظة عليه من أعين السجان عملية أمنية معقدة تحتاج خبرة أمنية متوفقة على العقلية الإسرائيلية، وهو ما توفر للسنوار بسبب طول مكثه وثراء تجربته في المعتقلات ومخالطة مختلف أجيال الحركة الأسيرة.
تجسد الكتابة في السجون الإسرائيلية حقيقة النضال الفلسطيني وصراع الإرادات بين السجناء وسجانيهم، فالكتابة عمل مقاوم بدءا من الذات المستعصية على الذوبان، والقضية المتعالية على النسيان، والإرادة العصية على الانكسار، ثم إن الإصرار عليها يعكس طبيعة مراغمة السجانين، وتعاون السجناء فيما بينهم؛ فرواية الشوك والقرنفل له هو "دأب العشرات لنسخها ومحاولة إخفائها عن أعين الجلادين وأيدهم الملوثة، وبذلوا جهدا جبارا في ذلك، وعملوا عمل النمل لإخراجها إلى النور"[8].
هذا الدأب والتعاون أخرج إلى النور روايات ومذكرات كثيرة وثقت مسيرة الجهاد في فلسطين على ألسنة أصحابها لا سيما من قادة كتائب القسام وغيرهم، وطريقة إخراج هذه الأعمال من ظلمة السجون إلى النور صارت أعمالا أدبية ملهمة، كتبت فيه أعمال متنوعة مثل كتاب "كباسيل" لعمر نزال، وهو كتاب "يسلط الضوء على آليات الاتصال والتواصل بين الأسرى في سجون الاحتلال من جهة، وبين العالم الخارجي من جهة أخرى، مستعرضاً الأدوات التي طورها الأسرى في مواجهة جدران الزنزانة للتواصل والاتصال من خلال ٢٤ منفذ تواصل"[9].
من تلك المنافذ وغيرها خرجت ليحيى السنوار عدة كتب ودراسات تحمل ملامح شخصيته وطبائع ذاته ومعالم رؤيته في المقاومة والتحرير، وهي أعمال جامعة بين التأريخ والسيرة الذاتية وتقييم المسار وتوريث الخبرة الأمنية والنضالية لأبناء حركة حماس وفصائل المقاومة، والتثقيف في الشؤون الصهيونية من ناحيتي الأمن والسياسة.
أول كتب السنوار صدورا هو كتيبه عن الفارس الشاب أشرف البعلوجي الذي صدر 1992، يقع في 75 صفحة، ويتألف من مقدمة وأربعة فصول وخاتمة، وهو منبئ عن أسلوبه الكتابي وطريقته الحماسية في توثيق العمل المقاوم وحشد الفرسان له من خلال سيرة شاب فارس، وقد سمى مقدمته بـ"مقدمة الفرسان".
مقدمة الفرسان
بدأ السنوار مقدمة كتيبه عن أشرف البعلوجي بقول الله تعالى.. {وَمَا كَانَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍۢ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِى ٱلدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوٓاْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}، وبأحاديث عن فضل الشام وسكانها، وعن فضل رباط عسقلان، وذكر في المقدمة تشرفه بكتابة سلسلة يسجل فيها "صفحة رائعة من صفحات ملحمة البطولة، في معركة الحق المتصلة عبر التاريخ من لدن آدم عليه السلام حتى يرث الله الأرض ومن عليها".
معركة الشعب الفلسطيني عند السنوار هي امتداد لكل معارك الحق التي سبقتها من لدن آدم مرورا بكل الأنبياء عليهم السلام، ولقداسة هذه المعركة فهو مغتبط بتوفيق الله له بأن منَّ عليه بتوثيق هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الشعب الفلسطيني، وبأن تعرف على "هؤلاء الفرسان المغاوير الذين صاغتهم عقيدة الأنبياء التي ارتضى الله عز وجل لخلقه".
اعتبر السنوار معرفته لهؤلاء الأبطال شرفا كبيرا وفخرا عظيما، ومبعث ذلك الفخر عنده هو ما تحلى بأولئك الفرسان من بطولة وشجاعة، جعلتهم يطاردون الموت ويلاحقونه في أحضانه بدل أن يطاردهم ويلاحقهم، كما أدرك السنوار بحسه التاريخي المرهف روايته لهذه البطولات من أفواه صانعيها، لينقلها لأحبته "على امتداد الوطن النازف فلسطين أولا، وعلى امتداد الوطن الإسلامي الكبير ليعيش الأحبة صورا ونماذج من فدائي الإسلام وأسود رسول الله صلى الله عليه وسلم".
هذه الفئة التي هزت كيان السنوار في سجنه هم قوم حرصوا على الموت فوهبت لهم الحياة، فهم "فئة صارعت الموت وأراد الله عز وجل أن يخرجوا منتصرين شهداء أحياء يعيشون بين الناس يأكلون ويشربون، ينامون ويقومون، ويعتقد أن الله أبقاهم على قيد الحياة ليغيظوا عدو الله وعدوهم، كلما ذكرهم ذاكر، أو تغنى بهم حاد، أو ترنم بأسمائهم للدرب سالك".
فهذا الجو الحماسي هو الذي كتب فيه السنور "مقدمة الفرسان"، وثمة لازمة يكررها باستمرار وهي تشرفه بصحبة هؤلاء "وانفراده" بتسجيل مآثر هؤلاء الفرسان، ويذكر أنه في غمرة فرحته بصحبتهم وتسجيلهم لمناقبهم لا يمكن أن ينسى من صنع هذه البطولة في نفوس الشباب، وأن يقف "وقفة إجلال لأستاذ الفرسان ومربيهم، ورائدهم ورمزهم ومفجر الفروسية في صدورهم، والبطولة في أفعالهم، والحماس في أرواحهم والتطلع إلى المجد في أعماقهم.."، وهو الشيخ أحمد ياسين صانع الأبطال وأستاذ الفرسان حسب وصف السنوار.
يشير السنوار في "مقدمة الفرسان" إلى أسماء عدد من أبطال المقاومة وفرسان الحماس وطلائع التحرير من الفتية الذين أيقظ الشيخ أحمد ياسين في نفوسهم جذوة الإباء، فنقلهم من "ضحية المشروع الذي يراد به صناعة مجموعات المرتزقة، التي يريد بها اليهود أن يسيطروا على المنطقة، ويسودوا العالم إلى طلائع للتحرير"، ويأسف أن يكون أولئك الأبطال كانوا قد حرصوا على بقاء أسمائهم مجهولة إمعانا في الإخلاص وابتغاء وجه الله تعالى.
ويرى السنوار أن أبطال الحماس رغم حرصهم على إخفاء هوياتهم إلا أن الله أبى إلا أن يميط اللثام عن وجوههم على رؤوس الأشهاد لتعرف الأمة أبطالها، ومنهم الفارس أشرف البعلوجي الذي خشعت القلوب لبطولته ورمقته الأبصار إكبارا وإجلالا لإقدامه، وهو حينها ابن 19 ربيعا لكنه ينتمي إلى غزة.
ويولي السنوار في حديثه عن بطله أهمية خاصة لغزة ودورها الحضاري، ويسائل القارئ هل عرف شيئا عن غزة، ولو "من قصص عجائزها"، ويفيض في الحديث عن موقع غزة الجغرافي، فهي "تثمل بوابة آسيا القارة العظمى، على وجه الأرض، فهي الحبل السري الذي يربط شطري العالم الإسلامي الآسيوي والإفريقي".
فغزة بمركزتيها الجغرافية مرت عبرها جيوش الفاتحين لإفريقيا، وبسبب هذه المركزية كانت هدفا لكل الغزاة، ولكونها سرة العالم الإسلامي رجح السنوار أن يكون أعداء الإسلام تقصدوا ضرب السرة ليقسموا العالم الإسلامي إلى شطرين بفعل تلك الطعنة الماكرة التي طاب لهم أن يسموها إسرائيل".
يستذكر السنوار في زنزانته كل شيء في غزة بدءا بهوائها العليل القادم من البحر الأبيض المتوسط، وهو الهواء المفعم بذريات الأمجاد، مستعرضا نبذة عن تاريخ غزة وسبب تسميتها وعلاقتها بهاشم جد النبي صلى الله عليه وسلم، ويتوقف مع غزة التاريخية المكونة من حي الشجاعية ومحلة الدرج، ومع المسجد العمري الشامخ في مدينة غزة، وهو أحد أبرز معالمها.
حديث السنوار عن أحياء غزة وشوارعها حديث خبير عرف عن قطاعه كل صغيرة وكبيرة، وذلك راجع إلى دوره الريادي في العمل الأمني في أحيائها ولنشاطه الطلابي والاجتماعي، وخلاصة حديثه أن الشوارع في غزة تحتضن ذاكرة من بطولات أبنائها، ففي كل بركة منها دماء شهيد، وعلى كل جدار منها قطعة من أجساد الشهداء، أو جثث الأعداء.
يتوقف السنوار مع ظاهرة المساجد الكثيرة في غزة فزائرها لا بد أن يشنف سمعه نداءات الصلاة من نحو ثلاثين مسجدا، وهي مساجد يستذكرها السنوار بأسمائها بدءا بمسجد الدارقطني في الشجاعية إلى مسجد الهجاني، ولا ينسى السنوار في غمرة حديثه عن غزة أن يذكر بحرمة ترابها؛ فضباط الاحتلال قد يوقفون أي شخص، وربما تكون تهمته لمس تراب غزة أو جدرانها أو حيطانها، "فكل ذلك ممنوع عند قوات الاحتلال، وإلا فقد أخللت بالأمن"[10].
ويربط السنوار وهو اللاجئ مع عائلته إلى غزة من مجدل عسقلان بين غزة وعسقلان التي نوهت الآثار بفضل رباطها، ويأسف لضياع عسقلان التي احتلها اليهود عام 1948، ولم يبق فيها مسلم واحد إلا بضع مئات من السجناء الفلسطينيين في سجنها المركزي.
نشأة الفارس
في الفصل الأول الذي جعله السنوار تحت عنوان "في النشأة" يتحدث عن البيت الذي ترعرع فيه أشرف، وهو حين الكتابة مجرد أنقاض بيت مدمر، لكنه عامر بالذكريات، أهمها: ذكريات جدته عن بئر السبع وأيام دلالها وعزها في القرية التي هجرها منها اليهود عام 1948، مع زوجها الذي ترك في القرية إحدى ساقيه التي قطعتها إحدى شظايا قنابل الجزارين أعداء الحياة التي ألقتها طائراتهم إبان النكبة والتهجير.
ذكريات النكبة كانت تحيط بالفتى أشرف أين توجه في بيت عائلته فرضع لبان فهم المأساة من الجدة أيضا، فقد كان يلاحظ أنه حين يسألها عن شيء تجيبه في أمر آخر، وحين يتكلم أفراد العائلة في موضوع تحدثهم هي عن موضوع آخر، ولاحظ أن والديه يكلمونها بصوت مرتفع، وبعد برهة من الزمن أدرك أنها صماء، وأن صممها طارئ بسبب قصف صهيوني.
فعلى هذه المآسي تفتق وعي الشاب، وتعمق انتماؤه في حي التفاح من خلال سماع النداء الخالد خمس مرات يوميا من عشرات المساجد المبثوثة في الحي، وكان يرى الرجال يهرولون لأداء الصلوات، وكانت أمه تحثه على الصلاة وتحدثه عن أخويها اللذين أبعدتهما سلطات الاحتلال من غزة إلى مصر بسبب انتمائهما للإخوان المسلمين.
يرصد السنوار حياة بطله الشاب أشرف وهو طفل يغدو ويروح إلى المدرسة أو إلى لعب الكرة مع أصدقائه، ويتوقف مع بهجة والدته يوم أتاها أشرف وهو يحمل راتبه الشهري الذي تقاضاه من عمله في المطبعة، فقد كان ذلك إيذانا بأن أشرف صار رجلا وهو بعد في العاشرة من عمره.
في كل الشوارع التي كان يسلكها أشرف كان يرى الجنود المدججين بالسلاح والآليات العسكرية، وقد استيقظ ذات يوم على جلبة الناس في الشارع وهم يتهامسون "لقد ذبحوا يهودي دمه يملأ الأرض"، وهو يهودي قتله فدائي بخفة ورشاقة، وهو المشهد الأخير من فصل النشأة الأول الذي انتهى بانتهاء أشرف من المرحلة الإعدادية وبدأ في الثانوية في مدرسة يافا القريبة من بيته ليبدأ مرحلة جديدة سماها السنوار في الفصل الثاني بـ"الشرارة والتمايز والوضوح".
شرارة الانتفاضة
في الفصل الثاني يرصد السنوار تشكل الوعي عند الفارس أشرف، وهو وعي شكلته شرارة الانتفاضة الأولى ديسمبر 1987، حيث استيقظ الأطفال والشباب ذات صباح، وسمعوا مناديا من المسجد يقول: الدم الدم، فتجمع الأطفال متسائلين عن النداء، فأجابهم الأمهات: جيش محمد سوف يعود، وأمرن الأبناء بأخذ ما استطاعوا حجرا أو سكينا لمواجهة اليهود الغاصبين.
كانت الانتفاضة منعطفا جديدا في حياة الشعب الفلسطيني الذي انتظر طويلا من يأخذ طريقه نحو العزة، فكانت مآذن المساجد تردد هذه المرة نداء المقاومة الخالد، فانطلقت جماهير الشعب العظيم "تصنع المعجزات، وتسطر التاريخ، بحروف من مجد، ومن نار ومن دم، ومن دمع"[11].
في هذه الأجواء كان الفارس أشرف ابن ستة عشر عاما في بداية المرحلة الثانوية يغدو كل صباح إلى مدرسة يافا الثانوية، وفي أحد الصباحات رأى حركة غريبة في فناء المدرسة، والطلاب يتساءلون عما حدث، وأحدهم يقول لا بد أن يكون لمدرسة يافا دور في الأحداث، وأن تشارك في المظاهرات والمواجهات، وما هي إلا دقائق ويجد أشرف نفسه وسط طلاب المدرسة وهم يهتفون: بسم الله الله أكبر، بسم الله قد حانت خيبر.
خفق قلب أشرف لتلك الهتافات وداعبت شغاف قلبه، وزادت حدة نبضه وتدفق الدم في عروقه حارا غزيرا، واغروقت عيناه بالدمع الساخن، وشعر بأحاسيس عجيبة، وأخذته الهتافات إلى ذكريات بئر السبع وأيام العز والدلال، وفي ثنايا الذكرات خاض أشرف مع رفاقه مواجهته الأولى مع قوات الاحتلال بالحجارة.
لم ينتصر أشرف ورفاقه على الجيش المدجج بالسلاح في تلك الجولة لكنهم انتصروا على أنفسهم وكسروا رهبة الخوف من المحتل وأورثتهم تلك المواجهة شجاعة ظلت معهم تؤطرها الأحداث وتزيدها اشتعالا وتدفقا، وحاول أشرف أن يوائم بين الدراسة والعمل فاستطاع المواصلة حتى أكمل سنتين من الثانوية، ولم يستطع الحصول على الثانوية العامة بسبب عمله وحاجته للمال لإعالة عائلته.
لفت نظر أشرف تلك الأيام جموعا من الرجال والشباب تقف صباحا على شارع صلاح الدين، وتنقلهم سيارات للعمل داخل الأراضي المحتلة 1948، ويعودون مساء يحملون حقائبهم، لم يفهم أشرف حقيقة تلك الجلبة الصباحية ولا عودة المساء، فقرر أن يقتحم هذا العالم بنفسه، وهو ابن 16 عاما.
حمل أشرف حقيبته وحقيبة أخيه أدهم في الصباح ووقفا ينتظران زوج خالتهم في مكان محدد، حيث أقلتهم سيارة بيجو قديمة إلى الداخل الفلسطيني المحتل، فبدأ أشرف مرحلة جديدة من حياته ورأى وجوها غريبة وعوالم مختلفة، وقد شعر وهو في طريقه الصباحي إلى عمق انتمائه لهذه الأرض المغتصبة.
بدأ أشرف عالمه الجديد في الغدو والرواح بين غزة والأرض المحتلة، بالعمل في مكان للبناء، وأخوه أدهم في مصنع، وأخذ يتعلم شيئا من العبرية، وقد شعر أن اليهود يعاملونه بعنصرية مقيتة من بين كل العمال، فبدأت بذرة الغضب الفلسطيني تنمو، وتسقيها تصرفات اليهود وصراخهم عليه، وحتى في أثناء ممازحتهم له كان يلمس الاستعلاء والاستكبار، ويتساءل في سره عن أسباب ذلك التكبر، هل لهم أربع أعين أو أربع آذان؟
هذا الاستعلاء فتح أعين الشاب أشرف على عالم اليهود، فبدأ يراقبهم فعرفهم على حقيقتهم فرأى الانغماس في الدنيا والتهافت عليها والتصارع والتنافس، وأيقن أنهم يحقدون على الفلسطينيين حقدا لا حد له وأنهم يستبيحون أموالهم ودماءهم، وأنهم يريدون امتصاص دمائهم في الشغب من دون تعويض لو أمكنهم ذلك، ولم يكن يحصل على أجرة عمله إلا بعد كثير من الضغط والمماطلة.
في أثناء تردده على غزة كانت أحداث الانتفاضة تشتعل فصمم على الانضمام لأحد التنظيمات المشرفة عليها، فانضم لتنظيم وطني لم يذكر اسمه وانخرط في أنشطته يكتب الشعارات على الجدران مع أقرانه، لكنه شعر أن هذا الانتماء لم يملأ عليه نفسه، فكان شعوره المتدفق يقوده نحو حماس والعمل تحت رايتها، ولم يكن يعلم عنها شيئا غير ما يعلم أي شاب في عمره.
لم ترحب عائلة أشرف بانتمائه الأول للفصيل الوطني، فهي عائلة متدينة وأخوه الأكبر أدهم من مرتادي المساجد، وقد أخبرته أمه بعدم رضاها على مسلكه التنظيمي، وذلك بعد أن دخلت عليه إحدى أخواته ورأته يتابع خطابا في التلفزيون لأحد قادة ذلك التنظيم، وبدأ هو يبحث بنفسه عن طريق يوصله لحماس بشكل منتظم فعرض نفسه على أبي صائب ليقبله جنديا في حماس فلم يتفاعل معه بل وأجابه إجابة قاتمة لم يستوعب محتواها.
لم يَفُتَّ ذلك الرد البارد في عضد أشرف فظل يبحث بتصميم للوصول إلى حماس حتى أتاح الله له أبو سليم فنظمه في صفوف الحركة، وحين انضمامه انكشفت لأشرف كثير من القضايا الوجدانية التي كانت تعتريه ولا يجد لها تفسيرا، لقد وجد ذاته في حماس، اكتشف حقيقة علاقته بالأرض واستشعر عمق ارتباطه بها.
منذ انتمائه لحماس أدرك أشرف أن المطلوب الآن منه أكثر من مجرد الدموع لإرواء أرض فلسطين، بل لا بد من إروائها بالدماء على طريق الأنبياء، لم يتردد أشرف في تلبية النداء الخالد، في صباح اليوم الموالي خرج في الصباح الباكر مع الشباب لإعداد العدة ليوم طويل من الصدام والمواجهة فأعدوا إطارات الكاشوك وكتل الحجارة والبراميل الفارغة.
وفي السابعة صباحا بدأت المواجهة الأولى على شارع صلاح الدين بين نخلات المنتزه ومنارة السنافور فامتلأ الأفق بالدخان الأسود القاتم ورسم لوحة الانتفاضة المباركة، وفجأة حاصرتهم سيارات جيش الاحتلال وبدأوا في إطلاق الرصاص الحي على المنتفضين، وما هي إلا دقائق حتى استقرت رصاصة بلاستيكية في خاصرة أشرف.
الرصاصة لم تزد أشرف إلا حماسا فقد شعر بعناق ثلاثي بينه وحماس وفلسطين، وبدأت دماؤه تسقي عطش أرضه، لم يشعر بالألم كانت لحظة العناق أقوى من كل ألم، "فالجرح لم يشكل له ألما بل يشكل له متعة وبهجة انحاز إلى بيت مجاور ثم إلى بيت أهله ونقل من هناك للمستشفى الأهلي حيث نزعوا الرصاصة وتلقى الدواء اللازم.
اعتاد أشرف في تلك الأيام أن يلبس زي حماس وأن يضع على رأسه قناعا، ويخرج ليلا أو فجرا لكتابة الشعارات على الجدران، أو وضع المتاريس استعدادا للمواجهات، كان هذا الزي يملأه حماسا وعزة، ولم يكن يتاح له أن يلبس الزي في النهار لقرب بيت ذويه من الشارع العام، وكان يمني نفسه أن يأتي اليوم الذي يمكنه فيه لبس الزي الموحد مع فتية الحماس والقسام، وتطوف الشوارع كالجيش النظامي.
في أحد تلك الأيام فوجئ الشباب وأهل غزة بخبر صاعق أذهلهم، ومفاده أن الشيخ أحمد ياسين استشهد في زنزانته، كان يوما عاصفا في حياة أشرف الذي خرج مع الشباب فأشعلوا الأرض، وخرج وهو يلبس الزي العسكري والقناع في النهار لأول مرة، فقد كان الخبر "مذهلا ومحيرا بل ومكبيا"، فكان خروجهم ثأرا للشيخ الذي علمهم الحماس، وصار اسم ياسين عند أشرف رغم أنه لم يره يشبه أسماء القديسين الملهمين، وصار يتلذذ بكتابته على الجدران ويزيد ما طلب منه في سبيل ذلك.
اكتشف شباب الحماس في المساء أن خبر شهادة الشيخ أحمد ياسين ليس صحيحا، لكنهم فهموا أهمية فعلهم حين اضطر الاحتلال في المساء إلى تكذيب خبر استشهاده، وكانوا على موعد آخر يحتاجون فيه إلى تكثيف عطائهم النضالي والانتفاضي وهو يوم محاكمة الشيخ أحمد ياسين، فخرجوا للمواجهة، وأراد الله أن يعتقل أفراد مجموعته، ونجا أشرف وحده من الاعتقال، ولم يفهم سر النجاة حينها لكنه اكتشف فيما بعد أن يد القدر تدخر له ما هو أعظم، وهو طلب الدم بالدم.
الدم يطلب الدم
هكذا جعل السنوار عنوان الفصل الثالث الذي تحدث فيه عن طريق أشرف إلى تنفيذ عمليته البطولية، ويبدأ هذا الفصل بمشهد سماع أشرف لخبر تنفيذ الاحتلال لمجزرة بحق الفلسطينيين عند إحدى المحطات، وهو الذي يستدعي في نفس أشرف كل الذكريات المريرة من لدن قصص أجداده المهجرين من بئر السبع إلى مشاهداته هو اليومية من غطرسة المحتلين وولعهم بسفك الدماء.
تلك المشاهد المثيرة للغضب والثأر يسترسل السنوار في ذكرها ونقلها عن بطلها، وكأنه يحمس بها كل قارئ ليأخذ ثأره من المحتل، تواصلت المشاهد من مجزرة المحطة إلى منع المحتلين للمصلين من دخول المسجد الأقصى، وعقلت في ذهن أشرف من تلك المشاهد مشهد شيخ مسن وهو يصرخ في وجوه المحتلين بقوله مسجدنا.
في ظلال تلك المشاهد القاتمة يقرر أشرف أن يأثر لكرامته ولأرضه ويبدأ في البحث عن "الهدف المناسب والنقطة الأكثر تأديبا" للصهاينة، كان البحث شاملا، فبحث في طريقه إلى العمل، في السيارات التي ينتقل فيها، وأخيرا هداه الله إلى المكان المناسب مكان عمله، فدار في ذهنه أن أولئك ربما يكونون مدنيين فأردك أنه لا يوجد في إسرائيل مدنيين، "فكلهم جنود يحملون السلاح" لقتل الأمهات والأطفال والكبير والصغير، وينشرون الرذيلة ويكتمون أنفاس أبناء شعبه.
كانت الخطوة الثانية عند أشرف في طريقه إلى العملية هي البحث عمن يشد به عضده في العملية، ووقع اختياره على رفيقه مروان الزائع لأنه من اتصل به بعد اعتقال مجموعته، ولأنه يثق فيه ثقة كاملة، وكان يخرج معه يلبسان زي الحركة، ووجد أشرف عند أخيه مروان ما يرجو من استعداد وجاهزية وتوفير للسكاكين.
وبدأ الصديقان يفكران في الوقت المناسب للعملية فرأيا أن ذكرى انطلاق الحركة التي أعادتهم إلى رحابة الإسلام وطريق الأنبياء بعد عقود من التيه هو التاريخ الأنسب للعملية، فحماس كان انطلاقها "إيذانا بانطلاقة قافلة الفرسان، الورثة الحقيقيين لرسالات السماء وأتباع الأنبياء، وورثة الدم القاني، الذي سطر على هام الزمان أسمى آيات الفخار"، يشير إلى تاريخ الإخوان المسلمين الجهادي في فلسطين منذ عام 1948.
ركب الفتيان سيارة مرسيديس المتجهة نحو الأراضي المحتلة كانا يقرآن الأذكار ويتحصنان من شر الأعداء، تجاوزا معبر إيرز بسلام والمعبر الذي بعده، أوصلتهما السيارة إلى المخزن الذي يعمل فيه أشرف، وهو مكان العملية، ودفعا لصاحبها أجرة الذهاب فقط فلم يكونا يتمنيان العودة إلى الدنيا فهذه آخر الرحلات حسب مخططهما وأمنيتهما في الشهادة في سبيل الله.
وصل البطلان السابعة صباحا وجلسا ينتظران فتح المحل، وكانا كلما رأيا قادما يحدثان أنفسهما أنه ربما يكون الضحية المنتظر، وصل موشيه صاحب المحل الساعة الثامنة إلا عشر دقائق، وأوقف سيارته أمام المخزن وجلس يتمايل والأرض لا تكاد تحمله مستشعرا تفوق جنسه على بقية البشر، دخل موشيه ودخلت وراءه إيرس، ثم دخل أشرف ورفيقه مروان وتلاقت أعينهما وفهم كل منهما ما يدور بخلد صاحبه.
حسب الخطة أن أشرف ينادي موشيه ليريه كسرا داخل المحل في طريق الممر الذي لا يتسع لأكثر من شخص، نادى أشرف موشيه ودخل مع الممر مزهوا وأراه مكان الكسر فتمتم بكلمات وأدبر فلما تولى أخرج أشرف سكينه وغرسها في كتفه، ووضع يده على فيه حتى لا يصيح، وكان مروان أمامه يطعنه في صدره وبطنه، وتركوه يسبح في بركة دمائه.
سمعت إيرس الصراخ فجاءت لتكتشف فاستقرت السكين في بطنها، وجاء عامل من الخارج فلحق بهما، كانت لحظات مكثفة في خيال أشرف الذي استدعى في الوقت ذاته كل عذابات الشعب الفلسطيني تذكر ساق جده، وسمع جدته ونداءات الشيخ الطاعن في السن وهو ينادي أمام الصهاينة: مسجدنا مسجدنا.
لم يستعجل أشرف وصديقه عن كتابة تبني العملية على جدران المخزن فقد كتبا عليها بالطلاء الأسود: "بسم الله الرحمن الرحيم حماس مسؤولة عن قتل اليهود أبناء الخنازير والقردة"، وأضافا: حماس تعلن مسؤوليتها عن عملية القتل بمناسبة الانطلاقة الرابعة للحركة"، "تحية إجلال وإكبار إلى شيخ الانتفاضة الشيخ أحمد ياسين"، وأغلقا الباب وانطلقا مبتعدين ليبدأ مرحلة أخرى وهي: ليل الزنازين طويل لقاء وأمل".
ليل الزنازين
هذا هو الفصل الأخير لكتيب السنوار يتحدث فيه عن مطاردة أشرف الذي فر إلى رام الله واختفى فيها حوالي شهرين شاهد فيهما من كثيرا من ألطاف الله ثم بعد طول مطاردة اعتقله الصهاينة ليبدأ رحلة الزنازين التي التقاه فيها السنوار ليوثق حياته بهذا الكتيب الذي أبى الله إلا أن يميط اللثام عنه ليرى العالم جزءا ولو يسيرا من قصص هذا الشعب المجاهد المصابر.
كانت خاتمة هذا الفصل مليئة بالأمل والتفاؤل واليقين بالنصر والفرج، وهو ما تحقق للسنوار وبطل قصته الواقعية يوم 18 أكتوبر 2011 في صفقة وفاء الأحرار، وشهد السنوار بعدها عرس البطل وتراقصا على أنغام الحرية.
صاغ السنوار ترجمة تلميذه ورفيقه في الأسر بقلم مؤدلج يجند الشباب لفكرته، ويجعل من الذكريات المريرة حافزا للثأر والانتقام من المحتل، فساق جد أشرف وسمع جدته وعذابات الفلسطينيين كانت حاضرة في كل نقطة تحول من تحولات أشرف لا سيما وقت العملية التي بلغ فيها أشرف ذروة العنفوان والاندفاع.
وفي ختام التفاؤل يقول السنوار إن أشرف أرسل مع والدته التي أضحت تزوره في السجن رسالة إلى السنافور مفادها أن الصمود والشموخ والوقوف في المكان لا تفيد إن لم يتقدم "صاحبها كل يوم خطوة"، وهي الخطى التي ما فتئ السنوار يخطوها قبل السجن وفيه وبعده حتى وصل إلى ملحمة طوفان الأقصى التي ختم مشهده الأول برمي العصا على الطائرة في رسالة رمزية أن المسلم مطالب ببذل المستطاع فقط ولا يعذر عند الله في البخل به مهما كان حجم تأثيره.