محمد الحافظ أحمدو : أزعم انني من مدرسة فصاحة المفردة وتكثيف الصورة الشعرية /ج1

خميس, 2025/01/30 - 23:17

الشاعر محمد الحافظ ولد أحمدو من مواليد 1956 فى قرية عَلبْ آدْرس  ولاية ترارزة 180 كلم من العاصمة الموريتانية انواكشوط .

درس الأدب واللغة دارسة مستفيضة فى المدارس الأهلية، المعروفة فى موريتانيا ب:"المحظرة" ثم رحل الي المشرق العربي  فمر بالعراق ومصر و السعودية، حضر عدة مهرجانات شعرية كبري ، قبل أن يعود الي موريتانيا ليعمل في الإذاعة الوطنية معدا و مقدما لبرامج أدبية و محررا في جريدة الشعب الرسمية.

التقينا به فى منزله المتواضع فى منطقى لكصر شمال نواكشوط وأجرينا معه حوارا تناول مسيرته الشعرية، وآراءه النقدية.

تابعوا الجزء الأول من هذا الحوار الذي ينشر على شبكة السراج لأول مرة (أجريت المقابلة 8 سبتمبر 2014)

سؤال / الشاعر محمد الحافظ ولد أحمدو فى بداية هذه المقابلة ما هي بداياتكم الشعرية وكيف تعرفون القارئ عليكم؟

جواب/

أشكر لكم هذه الاستضافة وأشكركم على اتاحة الفرصة للحديث عبر هذه المؤسسة المحترمة، نشأت فى بيئة ثقافية فى معاهدنا الأهلية المسماة المحاظر، والمحاظر هذه هي معاهد أهلية متخصصة لعلها تضاهي الجامع الازهر والزيتونه والقرويين رغم شح مواردها، ورغم ترحل أهلها وتنقلهم فى مسالك الصحراء ودروبها، وأصدق قول يمثل دور المحظرة هو قول المختار ولد بونه رحمة الله عليه حين قال :

ونحن ركب من الأشراف منتظم ***  أجل ذا العصر قدرا دون أدنانا

قد اتخذنا ظهورا لعيس مدرسة **** بها نبين دين الله تبيانا

والمحاضر هي المياه التي تَرِدُها سارحةُ العرب، وعندما تصوح النباتات وتصفر وتهيج ويشتد الحر، ترجع الناس الى المحاضر أي المياه كمياه الآبار وغيرها .

قال تميم بن أبي  مقبل العجلاني

قوم محاضرهم شتي ويجمعُهم   دوْمُ الإياد وفاثور إذا اجتمعوا

هذه المضارب التي كنا نتتبع مساقط الغيث فيها من أكناف منطقة بتلميت (150 كيلو شرق نواكشوط)، وقد تأثرت بهذه المنطقة كثيرا لأنني عشتُ فى بيئة مليئة بالعلماء والشعراء والظرفاء ويكاد يكون المجتمع كله مجتمعا أدبيا وكانت النساء الكبيرات فى السن يحكين لاولادهن قبل النوم عن أيام العرب وسيرهم وتاريخهم.

وكان تدريس العلم وتعليمه منتشرا حولنا وكان الرعاة عندنا فى البادية يتغنون بأشعار العرب ويرددون مع صوت الربابة قول الشاعر:

وما حب الديار شغفن قلبي   ولكن حب من سكن الديار

سؤال:

إذن هذه البيئة التي تربيْتم فيها هي التي أكسبتكم هذه الملكة الأدبية التي ترسخت فى وجدانكم بالمساكنة والمثاقفة ومن بعد ذلك بالتعلم والمدارسة؟

جواب

صحيح وأيضا فقد كان للشاعر هيبة ومكانة عظيمة جدا فى المجتمع البدوي، وكنا نحن الشباب حينها بمنزلة الجرائد، كلما قال شاعر شيئا نقلناه وحفظناه، وحاولنا النسج على منواله، وهكذا تمادينا على هذا النحو.

مثلا انا نشأت فى بيئة فيها عدد من الشعراء والعلماء الكبار كالشاعر الدنبجة ولد معاوية والقاضي الشاعر محمد يحي  والشاعر والشيخ والصوفى عبد الودود ولد الرباني.

سؤال:

 انتم أيضا تربيتم فى بيئة صوفية وللصوفية مسحة ونزعة وتأثير واضح على شعركم ؟

الجواب

نعم لأن الشعر الصوفى مرتبط بالانشاد والانشاد يترك أثرا فى النفوس ولعلى لا أبعد عن الحقيقة إذا قلت ان ما يسمي بعصر الانحطاط سلم فيه الشعر الصوفى من الضعف ومن الترهل فعندما نجد ابن الفارض والبوصيري وغيرهما من الشعراء الصوفية نجد نفحات وقصائد فى الحب الإلهي وفى المديح النبوي تجد شعرهم مفعما بالاشواق وفيه روح ملحمية قوية .

ومع ان بعض الكتاب يقولون إن الشعر الموريتاني سلم أيضا من هذا الترهل، الذي ميز حصر الانحطاط، لأن الانحطاط نتج عن اجترار فترات متأخرة، بينما الشاعر الموريتاني كان مثله الأعلى هو الشعر الجاهلى وهذا الشعر هو طفرة نهضوية.

عندما أقول هذا الكلام من جملة ما أبرهن عليه، ان القرآن الكريم تحدي الشعر الجاهلى لفصاحته والله تعالى لا يتحدي من خلقه إلا من كان أقدرهم وأجدرهم بالتفوق فى المجال الذي هو فيه.

سؤال : كيف كانت  بداياتكم الشعرية القصائد الأولى التي قلتم ؟

الجواب

لا أكاد أجزم بوقت محدد على كل حال أعلم أنني قلت الشعر وأنا صغير،ربما كان عمري خمسة عشر سنة او قريبا من ذلك حين قلت الشعر، وأذكر أنني وانا صغير كنت كلما سمعت شعرا حز فى نفسه ان لا أقول مثله، وهذا الهاجس هو الذي حملني على قول الشعر، عندما أسمع شعرا جميلا تتقد شعلة فى نفسي لا يبرد غليلها إلا ان أقرزم بقرزمة ما، والقرزمة هي هدير البكْر الصغير يعبر بها العرب عن أوليات الشعر .

وقد بدأت قرزمتي فى مرحلة مبكرة ولكن لا أتذكر بداياتها بشكل مدقق، ويضاف الى ذلك أن المجتمع البدوي حينها كان محافظا، فأول ما يبدأ عند الانسان عادة هو الغزل، لأنها الفطرة والنزعة الأولية، ونحن فى ذلك المجتمع لا نستطيع ان نقول شيئا من ذلك، ولكن هنا نلجأ الى الأغراض الشعرية الأخري، كالرثاء والمديح وأذكر مرة أن زميلا صوفيا لى كان يعجبه الغناء، كان يستمع الى الفنانة الراحلة محجوبة بنت الميداح وهي تغني قول الشاعر:

تغريد سلمان أفنانا وأحيانا      يارب لطفك من تغريد سلمانا

ولستُ أدري من الذي أعلمه أني أقرض الشعر، لأنني لم أكن فى ذلك الوقت أبوح بما أقول من الشعر، فقال لى هذا الصديق أجِزْ هذا البيت إنه أعجبني فقلتُ:

غنت بلحن حمامات على فنن *** تبكي هديلا لها قد ضل أزمانا

ما رجعت لحنها إلا لتذكرنا     عهد المشيب بروض اللهو بهتانا

سلمان رفقا بنا ولت شبيبتُنا       فهل نعود بعيْد الشيب شبانا

الغريب أنني قلت هذا الشعر قبل أن أشب فضلا عن أشيب، ولكني الآن يؤرقني شعر المشيب، لأنني أصبحتُ ذا شيْبة (يضحك).

 

سؤال

حينما نتحدث عن الشعر القديم والشعر الجديد أين يقع شعر محمد الحافظ بين هذه التصنيفات؟

الجواب

يقول أحد الفلاسفة الغربيين إن من أسمج الحق أن يتحدث المرء عن نفسه، وقد عاب الناس المعري عندما  قال :

وإني وإن كنت الأخير زمانه *** لآت بما لم تستطعه الأوائل

على كل حال أنا أزعم أنني من مهندسي المدرسة التي تجمع بين فصاحة المفردة، وتكثيف الصورة الشعرية، ولذلك قل أن يتفق اثنان مثلا من النقاد على رأي فى شعري لأن أصحاب الحداثة من الشعراء يتبهرجون بالحداثة، وانا أخفي حداثتي فى ثوب قديم، وذلك لأسباب منها :

 أني تملمت فى رمضاء هذا الشعر العربي القديم واكتويت بناره التي  هي نار لذة على أية حال، فلا أستطيع أن أنفك منها قال أبو تمام:

نقل فؤادك ما استطعت من الهوي *** ما الحب إلا للحبيب الأول

كم من منزل فى الأرض ينزله الفتي *** وحنينُه أبدا لأول منزلى

هذه الأبيات نسج على منوالها شاعر فرنسي لإعجابه بها

وبالمناسبة فقد حدثتموني أنكم ستسألوني عن أكثر من أقرأ له من الشعراء

سؤال

 فالنقدم السؤال إذن

الجواب

أبو تمام والمتنبي، لا أعدل بهما شاعرا، وذلك لعظمة هذين الشاعرين، تارة أفضل المتنبي، وتارة أفضل أبا تمام، ولكل منهما طعمه ورائحته، ولكل منهما عطره وبخوره، ومما يزيد تعلقى بأبي تمام أني إذا أحببت المتنبي أحببته ومعي أحباء كثر، فإذا أحببت أبا تمام فمعي بعض الأحبة ولكن ليسوا بتلك الكثرة،

والحقيقة أن أبا تمام شاعر عظيم

سؤال

نعم بالتأكيد لكن ما الذي يعجبك تحديدا فى أبي تمام والمتنبي حتي يفهم القارئ الكريم لماذا اخترت هذين الشاعرين دون غيرهما؟

الجواب

هذان الشاعران جمعا بين فصاحة الشعر العربي القديم ، والتجديد فى الشعر، ولكل منهما ناحيتُه، أما المتنبي فهو سيل جارف وزوبعة كاسحة، ولكن فى شعر أبي تمام التأمل والتأني والعقل والرزانة، وأنا لا أمل شعره.

لم أر شاعر بدء بهذا الكلام

أجلْ أيها الربْعُ الذي خف آهله ***  لقد أدركت فى النوي ما تُحاوله

وقفتُ وأحشائي منازل للهوي...

أنا موهبتي ليست فى الحفظ وهذا على غير عادة الموريتانيين، ولذلك كثيرا ما أحرج إذا جئتُ إلى المشرق، فهم تعودوا من الموريتانيين انهم يحفظون المطولات، ولكن أنا إن كانت لى خاصية فهي استكتشاف العالم الداخلى للشاعر .

وأنا لا أمل شعر أبي تمام،ولى دفاع مستميت عن عروبته، التي طعن فيها بعض المستشرقين، وزعموا أنه يوناني، وشعر أبي تمام للطائيين فيه طعم خاص وولاء خاص.

بالنسبة للمتنبي  أنا لى رأي فيه وأدافع عنه، الناس يقولون عنه إنه مصاب بجنون العظمة، ويقولون إنه مغرور، ويقولون أنه بخيل، وأنا لا أستطيع أن أتحمل هذه التهم، وكل تهمة توجه إلى عرض أبي الطيب كأنها موجهة إلى عرضي.

أنا لى رأي فى المتنبي هذا الشاب الذي بدأت الملحمة وبدأت الثورة وبدأت الصبوة إلى الملك تراوده وهو لما يبلغ العاشرة من عمره .. فكرتُ كثيرا فى شأنه فإذا الأمر لا يستقيم إلا على هذا النحو:

أن المتنبي كان من بيت ملك وتلك الفترة كانت فترة تشظي للدولة العربية الاسلامية، لعله كان له آباء ملوك فى مكان ما، وغلبوا على ملكهم واندحروا، ولعل أباه قد فتك بعض الفتكات، فجاء إلى الكوفة واستنام إلى الدعة، وأراد أن يكون خاملا فيها حتي لا يلاحق، وتجد فى ذلك ظلالا لشعر المتنبي فهو لا يبوح بنسبه، ولكنه يعلل عدم البوح بأن هذا النسب فوق كل الأنساب:

أنا ابن من بعضه يفوق أبي الباحث   والنجل بعض من نجله

يقولون لى ما أنت فى كل بلدة   وما تبتغي ما أبتغى جل أن يسمي

وإني لمن قوم كأن نفوسهم   بها أنف أن تسكن اللحم والعظما

ولو لم تكوني بنت أكرم والد   لكان أباك الضخم كونك لى أما

وما أسرع الناس إلى تخطيئ المتنبي بل إلى تكفيره يقول المتنبي

أي مكان أرتقى     أي محل أتقى

وكل ما خلق الله     وما لم يخلق

محتقر فى همتي       كشعرة فى مفرقي

ومثل هذا كثير فى شعر العرب، وهذا الشئ أسلمني إلى شيئ آخر، وهو أن اللغة العربية لغة عموميات، فعندما يقصد فيها عام لا يراد به الحصر، وهذا يحل كثيرا من الإشكال حتي فى أصول الدين الاسلامي.

وخصوم المتنبي هم أعداء الأمة العربية :

وفى صورة الرومي ذي التاج ذلة   لأبلج لا تيجان إلا عمائمُه

ولذلك تري بعض المستشرقين ينوهون بأبي نواس، ويعرضون بأبي الطيب لأن الأمة التي تعيش على شعر المتنبي أمة قوية، وتبحث فيه عن الحماسة والشدة، أما الأمة التي تعيش على شعر أبي نواس فأمة خوارة ضعيفة عربيدة، ليس لها طموح مع أنه لا مراء فى أن أبانواس من أعظم الشعراء ولكن "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كثير ومنافع للناس".

 

انتظروا الجزء الثاني من هذا الحوار لاحقا على منصات شبكة السراج

ملاحظة:  أجرى المقابلة الإعلامي محمد فال الشيخ في منزل الشاعر بمقاطعة لكصر بتاريخ 8 سبتمبر 2014