
من الأشياء التي تؤلمني في بلدي وتشعرني بالغربة فيه عند قدوم رمضان منذ سنوات قليلة؛ أن تكثر إعلانات الشباب حفظة كتاب الله الراغبين في "التشغيل" في عادة التراويح الكريمة الجميلة. أو الراغبين في البحث عن محظرة تؤويهم أو بيت "يعملون" فيه.
هذا النوع من الإعلانات يعني أن القرآن بات غريبا بيننا؛ ويحيل إلى حقيقة أن ظروف أهله المادية صعبة؛ وأنهم على قداسة مافي صدورهم لم يجدوا من يهتم بهم ولا يرق لحالهم من السلطات العمومية.
ماهو أشد إيلاما لي أن هذا المزاد المستجد؛ يجعل من المستحيل أن يتمكن الطفل الفقراء ذووه من حفظ القرآن في مجتمعنا. تماما كمايحدث أمام ناظرينا للمدرسة العمومية التي تحولت إلى ناد للتباهي؛ من كان فقيرا يُرى فيها ومن لايريد أن يرى كذلك ذهب في مهب التعليم الحر.
حفاظ القرآن في بلدنا شباب كابدوا الوحي منذ نعومة أظافرهم؛ لم تلههم تجارة ولادراسة اخرى عنه؛ وحين يخرجون بيننا سعيا للرزق فذلك خير دليل على ان ثمة خلل. هو فينا وليس فيهم.
لقد غاب القرآن وأهله عن الخطط التنموية وأصبحوا عرضة للتهميش والبطالة؛ وإن لم نخصص لهم وقتا وتفكيرا رسميين لإنقاذهم وتشجيع لاحقيهم فنحن نساهم بشكل مباشر في إذلال الموجود منهم وانقراض جنسهم في المستقبل المنظور.
الاهتمام بالقرآن وأهله ليس في نقل صلاة التراويح عبر الأثير ولا في تأسيس إذاعة للقرآن فقط؛ بل في تكوين الحفاظ ودمجهم بماهم فيه لا كمانريد لهم.
الطفولة الصغرى وورشاتها التي نذكرها مساء صباح في الإذاعة والتلفزة؛ هي الإطار الزمني المناسب لتلقين الذكر بطريقة إبداعية تصفي أذهان الصغار وتقوي ذاكرتهم وتربطهم بالوحي وتدمج وتشجع الحفاظ وترفع قيمتهم؛ كموظفين لا كمتسولي وظيفة عالة على المجتمع.
كنا حتى عهد قريب نشهد انتقال عائلات بأكملها إلى حيث المحاظر والمشائخ فقط لتمكين أبنائها من القرآن والعلوم المعينة على فهمه.
وكنا حتى عهد قريب نردد في يومياتنا جملة "اشرطت اطفيل اعل افلان" والآن اختفت هذه الجملة الوقورة أو كادت فحلت محلها "اكريت الهم گراي اللوح" فانساب القرآن إلى اقتصاد السوق المفتوح. وتحولت المحاظر القرآنية إلى مراكز ونواد لذوي الحظوة الجغرافية والمالية.
أعظم وأقوى الأمهات وهن قلة في انواكشوط ومدن موريتانيا هي التي كابدت حتى حفظ ابنها أو ابنتها القرآن دون أن يختل تمدرسه أو تمدرسها. لأن المحاظر نادرة وإن وجدت حفت بالمخاطر الإجرائية والتنظيمية والمنهجية؛ فترجل التلاميذ إليها محفوف بالمنزلقات؛ وتركهم من دونها يعرضهم لضعف في الدين واللغة والهوية.
فضلا عن كون بعض خريجي المحاظر يستخدمون أساليب غير تشويقية ولا تربوية بل ومنفرة أحيانا لتقديم الوحي؛ فيتربص بهم صناع التفاهة حتى يجعلوا التلميذ وأهله ومعارفه وجيرته يكرهون تعلم القرآن بكل بساطة.
تحتاج المحظرة الموريتانية هي الأخرى إلى إبداع في تفادي انقراضها؛ كل ماتبقى منها هو محاولات جريئة وكريمة من مشائخ التصوف بدرجة كبيرة وبعض المبادرات الفردية المحدودة؛ وقد قامت وتقوم السلطات العمومية ممثلة في الوزارة الوصية بشيء من الجرد والإحصاء والتشجيع لكنه يبقى قاصرا؛ مالم تطور المناهج وتعمم الوسائل وتطعم المحظرة بشيء من الرياضيات والجغرافيا والاختبارات الفصلية؛ لأن المحظرة في ظروفها الحالية؛ لاتهتم بالتلاميذ ضعيفي الفهم بطيئي الحفظ وتقدر عاليا النوابغ فقط؛ ويتخرج منها تلاميذ غرباء على المجتمع والمجتمع غريب عليهم.
حين يدخل القرآن في دائرة الاهتمام الرسمية ويصبح الرفع من شأنه إرادة سياسية ومخططا؛ بعيدا عن المسابقات التي أعتبرها مهمة لكنها محصلة وليست جوهرا ولا منطلقا؛ فنحن بذلك فتحنا أبواب الرحمة وصنَّا وجدان وعقيدة المجتمع؛ وحافظنا على أقدس وأعظم وانظف كتاب على وجه الارض عبر التاريخ. وفي حال مالم تمسك الدولة ملف القرآن وأهله فسيكون الحفاظ في باريس أكثر منهم في انواكشوط خلال عشر سنوات وسيتحول الحفظ إلى ترف والإجازة إلى أرشيف بدل أن يكون مشاعا بين الناس.
إسماعيل يعقوب الشيخ سيديا