لا نقاش في الأدب مع الله

سبت, 2015/10/17 - 10:25

كنت كتبت مقالا وردت فيه عبارة (لو كان شيء يخفى على الله لكان إياه) وقد اتصل بي بعد أيام يسيرة من كتابة المقال أخونا الباحث محمد يحي بن احريمو وجرى بيننا الحوار التالي:

محمد يحي: اطلعت على مقالكم الأخير وهو نفيس في بابه ومتوازن. فقط لدي ملاحظة أحببت أن أوضحها لكم من باب الأمانة والنصيحة.

أنا: تفضلوا مأجورين مشكورين

محمد يحي:  عبارة: " لوكان شيء يخفى على ربه لخفي عليه" ،  ترك مثلها يعتبره الفقهاء من حسن الأدب مع الله، وفي كريم علمكم ما يذكرونه في باب الاقتباس والنهي عن ضربا المثل بالأنبياء فكيف بالباري سبحانه. وبالطبع ليس بخفى أن الشرطية لا تقتضي الوقوع وأن المعلق على المحال، إلى غير ذلك مما يبرئ ساحتكم لكن يبقى جانب الأدب مع الباري وتعظيم شأنه، خاصة وأن القراء ليسوا في متربتكم فربما يظن بعضهم أن هذا يدل على تفاوت علمه بالموجودات حاشا وكلا. هذا ما أردت تنبيهكم عليه وأنتم أدرى .

أنا: بوركت ووفقت جميل ودقيق وإن كان لا يخفى أن المراد التحقير بالمتحدث عنه لما تقرر عند العامة قبل الخاصة من إحاطة علم الله بكل شيء.

محمد يحي: جزيتم خيرا.

أنا: أنت من قلة قلما أتجاوز لهم تعليقا أو تدوينة وقفت عليها لأنكم ممن يفيد حقا.

لا يخفى أن الحوار كان وديا ومبناه النصيحة لذلك لم أشأ أكثر من لفت انتباه الأخ بلباقة إلى أن ما فهم من العبارة لا تقتضيه بالضرورة خاصة أنه دخل باب الأدب مع الله وفيه مقنعة أي مقنعة، غير أنني تفاجأت بعد يومين من الحوار بتدوينة للأخ بعنوان "تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء" أورد فيها العبارة المذكورة مشنعا عليها وحاشرا لها في زاوية لو سبني ملك أو نبي لسببته، ورغم أنه لم يسم المقصود فإن حكاية قول ما زال يتداول تدليل على قائله خاصة بالنسبة لمن لم يكن قفاه ولا وساده عريضين.

وبعدما ما كتب في المسألة تدوينة ثم مقالا رددت على كل واحد منها ثنى بتوضيح وتعقيب ظل كعادته في هذه المسألة يلف ويدور دون أن يأتي بشيء مقنع في التفريق بين أسلوب حديث لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين وبين أسلوب العبارة المذكورة ويستطرد من كلام عياض والسيوطي ما هو خارج عن محل النزاع من مقارنة الإنسان نفسه بالملائكة والأنبياء.

وبما أن الأزمة أزمة فهم لا أزمة نصوص فقد ارتأيت أن أنزل إلى مستوى قريب جدا من التوضيح والتمثيل لإدراك ما بين أسلوب الحديث الذي استدللت به والعبارة التي أوردت من التطابق.

لنفرض القضايا التالية:

لا يسبق شيء قدر الله هذه مسلمة بلا استثناء

لا يخفى شيء على الله هي أيضا مسلمة بلا استثناء أليستا قضيتين متطابقتين في الطرح؟

ثم لنقل:

لو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين وذلك لما يشاهد من شدة تأثيرها.

ولو كان شيء يخفى على الله لكان كذا وذلك لما يشاهد من حقارته، أليستا قضيتين متطابقتين في الطرح؟ فأي فرق لدى ذي فهم سليم بين الأسلوبين؟ فكما لا تتفاوت الأشياء مهما بدت عظيمة شديدة التأثير في سبق قدر الله لا تتفاوت الأشياء مهما كانت حقيرة صغيرة في علم الله؟.

وما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يضاهيه فمن الطيش والنزغ تسفيه ناسج على منواله فإن كانت القضية قضية أسلوب فلا أحد أولى بمحاكاة أسلوبه من النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كانت مسألة أدب فلا أحد أعظم أدبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم مع ربه وإنها للفتنة كما قال مالك أن يظن أحكم أنه يأتي بأمر قصر عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ثم بعد هذا التوضيح سأهمس في أذن الأخ الذي سأتحاكم وإياه على من لا تخفى عليه خافية يوم لا تسمع إلا همسا فأسأله لم فات العلماء الحفاظ القرطبي والمازري والنووي وابن حجر والشوكاني وغيرهم وغيرهم أن ينبهوا وهم يتكلمون على هذا الحديث على أن مثل هذا الأسلوب لا يجوز تقليده ويجب أن يبقى استعماله على نحو ما ورد؟ هل نسي أن من عادة العلماء أنهم كلما تكلموا على آية أو حديث أو أثر قد يفهم منه ما ليس مقبولا أن يأتوا ببعض عباراتهم المعهودة: فإن قيل كذا فالحواب كذا، أو ولا يمكن أن يقال كذا لأننا نقول كذا، أو ليس فيه دليل لمن زعم كذا  لكذ ...كيف يفوت كل هؤلاء أن مثل هذا الأسلوب يوهم ما لا ينبغي؟.

وأزيد هنا أن هذا الأسلوب واقع في القرآن قال تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ  سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}(المؤمنون 91) يقول الطاهر بن عاشور: ( إذن ) حرف جواب وجزاء لكلام قبلها ملفوظ أو مقدر والكلام المجاب هنا هو ما تضمنه قوله {وما كان معه من إله} فالجواب ضد ذلك النفي وإذ قد كان هذا الضد أمراً مستحيل الوقوع تعين أن يقدر له شرط على وجه الفرض والتقدير، والحرف المعد لمثل هذا الشرط هو (لو) الامتناعية، فالتقدير: ولو كان معه إله لذهب كل إله بما خلق. وبقاء اللام في صدر الكلام الواقع بعد (إذن) دليل على أن المقدر شرط (لو) لأن اللام تلزم جواب (لو) ولأن غالب مواقع (إذن) أن تكون جواب (لو) فلذلك جاز حذف الشرط هنا لظهور تقديره . (التحرير والتنوير ج9 ص 406).

إن العبارة المذكورة ليست مما يوهم نقصا في حقه جل وعلا لأنه سبحانه وتعالى ليس هو من جرى الخطاب له فيها وليس المقصود بالحكم، بل الذي جرى له الخطاب فيها هو ذلك المتحدث عن حقارته، أما عبارة لو سبني ملك لسببته فالملك هو من جرى الخطاب له وهو المقصود بالحكم ولا يخفى ما بين الصيغتين. كما أنها ليست من قبيل قول رجل لملك من الملوك – ولله المثل الأعلى - :" لو أنك كنت حجاما أو راعي غنم لوقع كذا" أو قال له: " لو كنت أعمى..."  لأن الملك هنا هو من جرى له الخطاب وهو المقصود بالحكم أما من جرى له الخطاب في العبارة والمقصود بالحكم فهو المحقر به.

أما أن مطلق ورود اسم الله عز وجل في مثل ما هو إساءة أدب فليس كذلك والاستدلال بقول الله جل شأنه (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ) على عموم منع ورود الله في مثل ما استدلال مناقش فقد اتفقت كلمة المفسرين على أن الآية وردت في جعل المشركين لله أندادا يماثلونه في الألوهية وكل مثل فيه نقص أو تشبيه بالمخلوق يقول إمام المفسرين ابن جرير: وقوله  (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ)  يقول: فلا تمثلوا لِلهِ الأمثال، ولا تشبِّهوا له الأشباه، فإنه لا مِثْل له ولا شِبْه.وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.ذكر من قال ذلك: حدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة، قال: ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الأمثال الأشباه.وحدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله (فلا تضربوا لله الأمثال) يعني اتخاذهم الأصنام، يقول: لا تجعلوا معي إلها غيري، فإنه لا إله غيري. حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله (ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون) قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا ولا ضرا ولا نفعا، ولا حياة ولا نشورا.) تفسير الطبري ج 17 ص 259. وقال البغوي: فلا تضربوا لله الأمثال، يعني الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شركاء [4] فإنه واحد لا مثل له البغوي ج3 ص88.

وقال القرطبي معلقا على قوله تعالى (ولله المثل الأعلى) أي الوصف الأعلى من الإخلاص والتوحيد، قاله قتادة. وقيل: أي الصفة العليا بأنه خالق رازق قادر ومجاز. وقال ابن عباس:" مثل السوء" النار، و" المثل الأعلى " شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل:" ليس كمثله شيء  ". وقيل:" ولله المثل الأعلى " كقوله:" الله نور السماوات والأرض مثل نوره  ". فإن قيل: كيف أضاف المثل هنا إلى نفسه وقد قال:" فلا تضربوا لله الأمثال " فالجواب أن قوله:" فلا تضربوا لله الأمثال" أي الأمثال التي توجب الأشباه والنقائص، أي لا تضربوا لله مثلا يقتضي نقصا وتشبيها بالخلق. والمثل الأعلى وصفه بما لا شبيه له ولا نظير، جل وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا. ج10ص119. وقال السيوطي في الدر المنثور: أخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض} قال: هذه الأوثان التي تعبد من دون الله لا تملك لمن يعبدها رزقا ولا ضرا ولا نفعا ولا حياة ولا نشورا {فلا تضربوا لله الأمثال} فإنه أحد صمد (لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد) (الصمد: 4 الآية) وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {فلا تضربوا لله الأمثال} يعني اتخاذهم الأصنام يقول: لا تجعلوا معي إلها غيري فإنه لا إله غيري.) (الدر المنثور ج5 ص150). ويقول الطاهر ابن عاشور: (واللام في لله متعلقة ب الأمثال لا ب تضربوا، إذ ليس المراد أنهم يضربون مثل الأصنام بالله ضربا للناس كقوله تعالى: ضرب لكم مثلا من أنفسكم [سورة الروم:28] . ووجه كون الإشراك ضرب مثل لله أنهم أثبتوا للأصنام صفات الإلهية وشبهوها بالخالق، فإطلاق ضرب المثل عليه مثل قوله تعالى: وقالوا أآلهتنا خير أم هو ما ضربوه لك إلا جدلا [سورة الزخرف: 58] . وقد كانوا يقولون عن الأصنام هؤلاء شفعاؤنا عند الله، والملائكة هن بنات الله من سروات الجن، فذلك ضرب مثل وتشبيه لله بالحوادث في التأثر بشفاعة الأكفاء والأعيان والازدهاء بالبنين.) (التنوير والتحرير ج12 ص 222).

وقال الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار قوله تعالى: فلا تضربوا لله الأمثال: (نهى الله - جل وعلا - في هذه الآية الكريمة خلقه أن يضربوا له الأمثال، أي: يجعلوا له أشباها ونظراء من خلقه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا! . وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع ; كقوله: ليس كمثله شيء الآية [الشورى 11] ، وقوله: ولم يكن له كفوا أحد [الصمد 4] ، إلى غير ذلك من الآيات).(أضواء البيان د2 ص 418).

فهذه النقول كلها مصرحة بأن ضرب المثل المنهي عنه هو ما كان فيه نقص وتشبيه مع أنه لا يفوتهم دلالة الفعل في سياق النهي، ودليلهم على عدم العموم سياق الآية المتعلق بتصور المشركين وكذلك ما ورد من الأمثلة التي ذكر فيها الله جل جلاله في القرآن كقوله تعالى: {لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا} (الأنبياء 22) وقد تقدم كلام القرطبي في قوله تعالى ولله المثل الأعلى أومن السنة ومن أصرحها حديث الترمذي عن جابر قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما فقال: "رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي وميكائيل عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا فقال: اسمع سمعت أذناك واعقل عقل قلبك: إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ دارا ثم بنى فيها بناء وجعل فيها مائدة ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه فمنهم من أجاب الرسول ومنهم من تركه فالله تعالى هو الملك والدار هي الإسلام والبيت الجنة وأنت يا محمد رسول الله من أجابك دخل الإسلام ومن دخل الإسلام دخل الجنة ومن دخل الجنة أكل فيها" وقال الترمذي: "وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بإسناد أصح من هذا؛ هذا حديث مرسل؛ سعيد بن أبي هلال لم يدرك جابر بن عبد الله ". قلت وما قاله الترمذي إشارة إلى أصله في البخاري.

 صحيح أن مثل هذا الحديث خرج مخرج التعليم والإيضاح لكن التعليم والإيضاح لا يجيزان ما لا يجوز أصلا، ورغم ما تقدم فإني لم أعد أناقش أن الأولى ترك مثل هذه العبارات بعدما تبين أنها شوشت على بعض ذوي الأفهام الضعيفة، إن لم يكن لذاتها فصونا لاسم الله جل جلاله عن أن يظل مثار جدل بسبب عبارة قلتها ومن باب خاطبوا الناس بما يفهمون وقد قلت منذ البداية إن الأخ أحسن من حيث أراد تنزيه الله جل جلاله، لكنني لم أزدد إلا يقينا في أنه أخطأ في الفهم حين قاس مع الفوارق الكثيرة ولا أجد بدا من تكرار قولة الشيخ محمد سالم رحمه الله تعالى:

فواجب الذ منه تشبيها فهــــــم ** جراء ضعف فهمه أن يتهـم

في ذاك نفسه فلا دلالــــــــه ** فيه لما من شبه جلالـــه

 

محمدن؟/ الرباني