نعمة الإيجاد الحر

ثلاثاء, 2016/03/29 - 10:55
أحمد فال بن الدين

لعل كثيرا من الفكر الديني الذي نُشّئنا عليه يفتقر إلى كبير فهمٍ للقرآن الكريم، ودوامِ رجوعٍ لكليات الشرع الحكيم. فالتراث الشرقي الموغل في الزهد نجح في اختراق الثقافة الإسلامية مغيرا زهدها المزمومَ بزمام الشرع، إلى زهد شرقي يسعى للخروج من الابتلاء إلى الفناء.

وذاك أبعد ما يكون عن نفس المؤمن المكرمة بالابتلاء.

إذ لا أنسى كيف قرأت في سيرة عمر بن الخطاب –في تاريخ الخلفاء للسيوطي- أثرا رواه البيهقي في شعب الإيمان قال: “قال أبو بكر: والله لوددت أني كنت شجرة إلى جنب الطريق، فمر علي بعير فأخذني فأدخلني فاه فلاكني ثم ازدردني، ثم أخرجني بعرًا، ولم أكن بشرًا. فقال عمر: يا ليتني كنت كبش أهلي، سمنوني ما بدا لهم حتى إذا كنتُ كأسمن ما يكون زارهم من يحبون فذبحوني لهم، فجعلوا بعضي شواء وبعضي قديدًا ثم أكلوني، ولم أكن بشرًا.”

فهذا الخبر –المتروكُ عند أهل الحديث، ولا أشك في وضعه- يتمنى فيه رجلان من صناع الحياة في تاريخ البشرية أن الله  لم يخلقهما خوفا وإشفاقا من يوم الحساب. بل يتمنيان أنهما خلقا حيوانات عجماوات غير مخاطبة بالشرع أصلا.

وهذا أمر لا يستقيم.

فمن في رأسه مُسْكَةُ عقلٍ لن يصدق أن يكون ابن الخطاب الذي رباه رسول صلى الله عليه وسلم على خطر الإنسان وحريته في الحياة، وعلى حمده لربه أن خلقه ورزقه يقول هذا. فأين العدم من عظيم الأجر الذي يكسبه المؤمن من التقلب ما بين الصلوات والجهاد والصدقات والكدح الدنيوي، وأين البهيمية المصمتة من تكريم الله للإنسان بالمسؤولية والحرية:  “ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا”.

هذا النمط من التفكير العدمي –المتكئ على الإشفاق من يوم الحساب- يتعارض مع ما درج عليه علماء الإسلام من التأكيد على أن نعمة الإيجاد من أعظم نعم الله التي على العبد شكر ربه عليها. فكون الله جل جلاله أخرج أحدنا بعينه من عالم العدم السلبي إلى عالم الوجود الإيجابي، وسواه بشرا عاقلا مختارا ساربا في الحياة، مختارا هي أعظم النعم على الإطلاق.

أما تلك الثقافة المبالغة في الخوف من الوعيد الأخروي، النازعة إلى اتهام الإنسان مهما فعل، المتطلعة إلى الخروج من الحياة كفافاً فتلك نزعة هندوسية بوذية أبعد ما تكون عن همة المؤمن وتفاؤله. فالعقائد الشرقية –من بوذية وهندوسية وطاوية وسيخية- قائمة على سعي الإنسان للخروج من الزمن، والتخلص من الدورة الزمنية السرمدية  (Saṃsāra) في الحياة سعيا  للعدم.

وتلك ثقافة غريبة على روح الإسلام.

ولعل أبا عثمان الجاحظ وُفق للحديث عن سلبية هذه الفكرة في معرض حديثه عن تشريف الإنسان بالعقل والحرية والإرادة. فبسط القول في نعمة الخيار والنجديْن فقال في كتاب الحيوان: “ومن هذا الذي يسرّه أن يكون الشمس والقمر والنّارَ والثلج، أو برجاً من البروج أو قطعة من الغيم؛ أو يكون المجرّة بأسرها، أو مكيالا من الماء أو مقدارا من الهواء؟  وكلّ شيء في العالم فإنما هو للإنسان ولكلّ مُخْتَبرَ ومُختارٍ، ولأهل العقول والاستطاعة، ولأهل التبيّن والرويّة”.

فالجاحظ يرى أن الإنسان بما أوتي من نعمة الاختيار والحرية أشرف المخلوقات على الإطلاق. ولذا على العاقل الاستنكاف من أن يكون في حكم السخرة كالمجرات والغيوم، لأنها خاضعة مسخرة، محرومة من التفكر والتدبر والروية والاختيار والاختبار.

وهذا المنزع في التفكير هو المنهج الإسلامي المفهوم من استقراء القرآن، المتصالح مع منّ الله على عباده بخلقهم وهدايتهم النجديْن: “وهديناه النجدين.”

وهنا ملمح آخر؛ وهو أن إنسانية الإنسانية لا تتم إلا باستكماله لحريته، وأن شرف الجبلة البشرية المؤسسة على الاستخلاف في الأرض تتآكل في الظروف التي يخضع فيها الإنسان للقهر والطغيان.

إن الإنسان مخلوق مكرم مبجّل، مكّنه ربه من الحرية والاختيار- داخل الأطر السننية الحاكمة للكون- ومنحه العقلَ والإرادة ليحمده عليها أولا؛ وليضرب في  الأرض مُواجهاً ابتلاءات ربه، شاكرا وحامدا وصانعا لحياة مزْمُومةٍ بالتعبد له والإيمان به والاعتراف بربوبيته وألوهيته.

أما تمني الخروج من الحياة كفافا، فذاك أبعد ما يكون عن العقلية الإسلامية المُعلية من قيمة الإنسان المستخلف الحر.